كرة القدم في السودان.. كيف مُزِجت بالسياسة؟

فشلت محاولات سيطرة السلطة وأجهزتها على القطاع الرياضي، وانتظم طيف واسع من الرياضيين السودانيين، خاصة لاعبي ومشاهير كرة القدم، في مقاومة شرسة للنظام. كما أظهروا تعاطفاً كبيراً مع الشهداء الذين ارتقوا خلال الاحتجاجات الشعبية التي قابلتها السلطة بقمع وحشي. وشكّلوا حضوراً لافتاً بميدان الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم عام 2019.
2023-05-25

خالد فتحي

صحافي من السودان


شارك
| en

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

هفّت أفئدة السودانيين لكرة القدم وتعلقت بها منذ أبصروا الغزاة في الجيش البريطاني وهم يركلونها بخفة ومهارة، في ميادين أرض معسكرات الجيش الإنجليزي الفسيحة بالخرطوم.
كان الجيش البريطاني الغازي قد نجح في مهمته "حملة إعادة فتح السودان" بقيادة الجنرال اللورد "كتنشر باشا"، أول حاكم بريطاني على السودان عام 1899.. كما هدأت عاصفة النار والدم، وسكت دوي "مدافع مكسيم" بنتائجها المُروعة التي تبدت بمجازر الغزاة ضد "المهدويين" (1)  (أنصار الإمام المهدي بالسودان ودولتهم، خاصّة معركة أمدرمان في أيلول/سبتمبر عام 1898). ومذّاك، تربعت كرة القدم على عرش الرياضة بالسودان، مستبّدةً بالمشجعين المهووسين بنشوتهم وفرحتهم إلى درجة خلع عمائمهم، وإضرام النار فيها.. وهذا جذب أنظار رجال الحكم والساسة، فجعلوها محط اهتمامهم الشديد كما حاولوا السيطرة عليها بشتى الطرق، سواءً في العهد الاستعماري أو في العهود الوطنية السودانية بشقيها العسكري والديمقراطي، واستخدموا كافة وسائل الترغيب والترهيب لفرض سيطرتهم، وكثيراً ما نقموا عليها إنْ تمنعت، وإنْ عجزوا عن تطويعها.

لا يزال اليوم الأسود في تاريخ كرة القدم في السودان مستوطناً في الذاكرة. ففي 24 نيسان/ أبريل 1976، أصدر الرئيس السوداني الأسبق "جعفر نميري" قراراً بإعلان الرياضة الجماهيرية وحل جميع الأندية والاتحادات الرياضية، بذريعة أحداث شغب عادية في مباراة فريقي "الهلال" و"المريخ" المتباريين على كأس "الثورة الصحية". وقتها كانت كرة القدم في السودان تتبوأ مقعدها مع الكبار في القارة الأفريقية، بعدما ظفر المنتخب السوداني بكأس "الأمم الأفريقية" عام 1970، وكاد أن يبلغ كأس العالم في 1974.

المحاولات الحثيثة لانتشال الكرة السودانية، أفلحت في مناسبات متباعدة، كفوز "نادي المريخ" بكأس الكؤوس الأفريقية 1989، وبلوغ "الهلال السوداني" المباراة النهائية لبطولة الأندية الأفريقية في 1987 و1992، ووصول المنتخب السوداني لنهايات كأس الأمم الأفريقية عام 2008، قاطعاً غياباً دام 32 عاماً. وخلال نسختي البطولة الأفريقية 2012 و2022، تكرر بروز المنتخب السوداني، بيد أن تلك الاجتهادات ظلت منفردة لا تصلح لبناء منظومة رياضية بالأسس المتعارف عليها.

شيء من التاريخ

وبهدوء الأحوال في السودان، اهتم المستعمِرون البريطانيون بهندسة نسيج المجتمع، فرفعوا قواعد "سراي الحاكم العام" (القصر الجمهوري حالياً). ولفرط زهو الحاكم العام الأول "اللورد كتنشر" بأمجاد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، خطط شوارع الخرطوم على نسَق العلم البريطاني وهندس المباني الجديدة على الطراز الفيكتوري. وكان الميدانان الشرقي والغربي بمباني "كلية غردون" المشيدة عام 1902 (جامعة الخرطوم حالياً) مخصصين لممارسة اللعبة. ومن ثكنات الجيش وعبر "كلية غردون التذكارية"، عرفت كرة القدم طريقها إلى الأحياء السكنية في الخرطوم وبالتحديد ضاحية بري، المتاخِمة لثكنات الجيش الإنجليزي المسمى" البركس"..

 تأسس "نادي بري" عام 1918، ويعتبر "حسب الرسول عمر" (المسمى "حسبو الصغير") نجم هذا الفريق، صاحب الهدف الأغلى بتاريخ الكرة السودانية، فهو من سجل هدف المباراة التي أهدت السودان لقبها الأفريقي الأول والوحيد، بعد الفوز على المنتخب الغاني في المباراة النهائية لكأس الأمم الأفريقية التي جرت في السودان عام 1970..

بدايات القرن الفائت، شجّعت الروح الوطنية الأندية للتوسع في تنظيم الدورات الرياضية والتباري لدعم الأنشطة الأهلية، كالتعليم الذي كان حكراً على الطبقة الحاكمة وأشياعها، فأطلق السودانيون المبادرات لتشييد المدارس الأهلية، ليتمكن جميع أبناء الوطن من تعلم القراءة والكتابة. وتحمّلت الأندية الرياضية وحدها عبء تلك المبادرات، إذ لم تكن الأحزاب السياسية قد ظهرت بعد..

ومن الخرطوم عبرت كرة القدم النهر صوب مدينة "أمدرمان"، ثم "ود مدني" بوسط السودان، كأول مدينة تستقطب الكرة خارج الخرطوم، ثم إلى مدينة "عطبرة" الصناعية الملقّبة بعاصمة الحديد والنار، شمال السودان. وتقول إحدى الروايات أن "عطبرة" ركلت الكرة قبل الخرطوم بسنوات، لأن الجيش الإنجليزي نزل في ساحتها أولاً وهو في طريقه للخرطوم لمقاتلة المهدويين - ثم رُكِلت الكرة شرقاً جهة بورتسودان، ميناء السودان الأول على البحر الأحمر. ثم سرت كرة القدم في المدن المُختلفة، بفضل دينامية السكة الحديد التي ربطت البلاد في الاتجاهات الأربعة، بعد دخول المستعِمر البريطاني.

استمرت "كرة الشراب" (المكونة من جوارب محشوة ببقايا وأسمال أقمشة بالية)، كاللعبة الشعبية الأحب لدى السودانيين حتى 1910، حيث أنشِئت فرق في الأحياء السكنية للعاصمة.. منذ ذلك الوقت مُزجت الكرة بالسياسة. فقد لمس البريطانيون قوة وتأثير كرة القدم فحظروا الأنشطة الرياضية في أعقاب إندلاع ثورة "اللواء الأبيض" (2)  عام 1924، واغتيال سردار الجيش المصري وحاكم السودان السير "لي ستاك" بالقاهرة في العام ذاته. وشمل قرار الحظر كافة الأنشطة الرياضية داخل الأندية والأحياء السكنية بل وطال حتى التجمعات بالأفراح والأتراح، قبل أن تخفَّف القيود تدريجياً حتى زالت بعد عامين.. فسُمح عام 1926 بتسجيل الأندية الرياضية رسمياً. ورغم اتخاذ القرار الأخير من دوافع أمنية، تمهيداً لمكافحة انتشار الأنشطة السياسية عبر واجهات رياضية، تدافع السودانيون لتسجيل الأندية، وحمل بعضها أسماء عربية وأخرى أسماء إنجليزية. وأشهر تلك الأندية نادي "ستاك"، أول بطل للدوري المحلي لكرة القدم بالخرطوم عام 1951 والذي اختار اسم "التحرير" عقب الاستقلال.. وشهد العام 1927 ميلاد "شيخ الأندية الرياضية" بتأسيس "نادي الموردة" بواسطة ضباط سودانيين درسوا في الكلية الحربية، وحملت قمصان الفريق شعار الكلية نفسه.

وبدخول خريجي "كلية غردون التذكارية" و"الكلية الحربية السودانية" إلى مجلس إدارات الأندية الرياضية، جعلوها حواضن للثورة... وشجعت تلك الروح الأندية للتوسع في تنظيم الدورات الرياضية والتباري لدعم الأنشطة الأهلية، كالتعليم الذي كان حكراً على الطبقة الحاكمة وأشياعها، فأطلق السودانيون المبادرات لتشييد المدارس الأهلية، ليتمكن جميع أبناء الوطن من تعلم القراءة والكتابة. وتحملت الأندية الرياضية وحدها عبء تلك المبادرات، إذ لم تكن الأحزاب السياسية قد ظهرت بعد.. وارتاب الإنجليز من أي تصرف صدر عن السودانيين.

 ففي عام 1936 على سبيل المثال، أعلنت السلطات البريطانية تكوين إتحاد كرة القدم بالسودان، مما مثّل تحولاً مذهلاً. لكن الخطوة جاءت لقطع الطريق أمام تكوين رابطة نقابية وطنية لتنظيم الدورات التنافسية، فقد علمت السلطات البريطانية حينها أن نادي "التذكار" دعا أندية مدن العاصمة الثلاث (الخرطوم، الخرطوم بحري، أمدرمان) إلى تكوين كونفيدرالية أو اتحاد أهلي لتنظيم المنافسات الرياضية في الخرطوم، وكان مقرراً أن تنطلق عام 1933.. وهكذا انتظر الاتحاد السوداني 19 عاماً ليلعب المنتخب (المعروف حينذاك بـ"الفريق الأهلي السوداني") مباراته الأولى أمام إثيوبيا عام 1955. وترأس اتحاد الكرة الدكتور عبد الحليم محمد، الذي شغل عضوية "مجلس السيادة السوداني" (أي رأس الدولة) في العام 1965. ويعتبر الاتحاد السوداني ثالث مؤسسي الاتحاد الأفريقي لكرة القدم بجانب مصر وإثيوبيا عام 1957.

قطبا الكرة السودانية

ولد "نادي المريخ" عام 1927، و"نادي الهلال" عام 1930، وهما الثنائي المستأثر بالاهتمام الأعظم، على غرار أندية ريال مدريد وبرشلونة في إسبانيا، والأهلي والزمالك في مصر.. يقتسم الفريقان ولاء وعشق جماهير الكرة، ويقتسمان كذلك حي"العرضة" العريق بمدينة أمدرمان، إذ يقع استاد "الهلال" بالعرضة شمال ويعرف بـ"الجوهرة الزرقاء"، فيما يقع استاد "المريخ" بالعرضة جنوب ويعرف بالـ"رِد كاسل" (القلعة الحمراء). ويتمتع الغريمان اللدودان بموارد مالية هائلة، وجمهور عريض لا ينفك عن متابعة ناديه.

وينتظم المشجعون خلف ناديهم فرادى أو عبر روابط المشجعين المنتشرة داخل وخارج البلاد، وتطورت أخيراً بتأسيس ألتراس نادي الهلال السوداني "الأسود الزرقاء" (Ultras Blue lions)، وألتراس أولمبوس لنادي المريخ (Ultras Olympus Mons).

ويتمتع ألتراس الهلال بتأثير قوي على المدرجات، وقد أنتج ثقافة تشجيعية جديدة، تجابه الظلم أينما ظهر. وشهد "فلوران"، المدير الفني لنادي "الهلال"، وهو من الكونغو،"بأنهم يقفون معنا في أصعب اللحظات"، وهذا ما ذهب إليه اللاعب الملاوي المحترف بصفوف "الهلال"، "جيرالد فيري".. ويشتهر المشجعون السودانيون بعدم تبني العنف، إلا أن التوتر يسود أحياناً بين أنصار "الهلال" و"المريخ" وينقلب الى شغب وعنف ورمي اللاعبين بالحجارة والقناني الفارغة.

ألتراس "بلو ليونز" المشجع لنادي الهلال السوداني

ويفتخر أنصار "الهلال" بأنهم نادي الحركة الوطنية السودانية، إنما المؤكد أن خريجي الكليات الأوائل، كانوا الآباء المؤسسين لكل الأندية الرياضية بالسودان. ويعتبر "الهلال" أول نادٍ حمل اسم الهلال في المنطقة العربية. كانت إدارات الأندية الرياضية حينها خليطاً من ضباط الجيش والشرطة وكبار موظفي الخدمة المدنية ومدراء البنوك ورجال السلك الدبلوماسي والمثقفين وتجار الطبقة الوسطى، حيث تولى مثلاً رئاسة "المريخ" محافظ بنك السودان المركزي "مهدي الفكي" في الثمانينيات. كما يعتبر الضابط الإداري "الطيب عبد الله" أشهر رؤساء نادي الهلال.

وماذا الآن؟

خلال العقدين الماضيين، استحوذ رجال الأعمال من ذوي الثراء العريض وممن تطالهم شبهات بالفساد، على القيادة في إدارات الأندية الرياضية، وخاصّة الأندية الجماهيرية، مع ارتفاع تكاليف تسييرها، وربما اقتداءً بالأندية الأوروبية الكبرى.. فقد تعاقب على إدارة "الهلال" كلٌ من "صلاح إدريس" و"أشرف سيد أحمد" (الملقب بالكاردينال)، وأخيراً "هشام السوباط" المشتبه بتورطه في قضايا فساد واستيراد بواخر نفط غير مطابِقة للمواصفات.

أما "المريخ" فقاده رجال أعمال حامت حولهم شبهات فساد مالي، أمثال "جمال الوالي" الذي أمرت "لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو" (لجنة تصفية حكومية بعد ثورة ديسمبر 2018) بمصادرة أمواله وعقاراته عام 2019. إلا أن المحكمة العليا نقضت قرار اللجنة بعد الإنقلاب العسكري في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. أما الرئيس الآخر لنادي المريخ "آدم عبد الله" (سوداكال)، فقبع في السجن لعدة سنوات اعتباراً من عام 2005 على ذمة قضايا احتيال وغسل أموال.

وعن طريق تلك الطبقة الفاسِدة، سعى "حزب المؤتمر الوطني" المحلول برئاسة البشير للتسلل إلى القطاع الرياضي.. لم تنحصر محاولات وضع اليد بقطبي الكرة (الهلال والمريخ) وحدهما، بل شملت مدناً مُختلِفة، بتقديم "المحاسيب" ودعمهم بسخاء لاكتساح الانتخابات. وهو ما فعله "أحمد هارون"، والي شمال كردفان، مع "نادي الهلال التبلدي".

ويذكر أن هارون مُتّهم من محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور عام 2003. وقد فرّ مع قادة الحركة الإسلامية السودانية من السجن بعد إندلاع حرب 15 نيسان/ أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وبعد قضائه قرابة الأربعة أعوام خلف القضبان.

خلال العقدين الماضيين، استحوذ رجال الأعمال من ذوي الثراء العريض وممن تطالهم شبهات بالفساد، على القيادة في إدارات الأندية الرياضية، وخاصّة الأندية الجماهيرية، مع ارتفاع تكاليف تسييرها، وربما اقتداءً بالأندية الأوروبية الكبرى.. 

تقف مجموعات الألتراس على مسافة واحدة من الجميع، وتنأى بنفسها عن الصراعات الإثنية والجهوية، بل كانت الأندية الرياضية العتبات التي تزول عندها كل النعرات العنصرية والفوارق الطبقية.

كما استحوذ جهاز الأمن والمخابرات على "نادي الخرطوم 3" الذي صار اسمه "نادي الخرطوم الوطني"، لكنه إستعاد اسمه القديم بعد الإطاحة بالبشير.

لكن محاولات تجيير القطاع الرياضي ضاعت سدى وانتظم طيف واسع من الرياضيين السودانيين، خاصة لاعبي ومشاهير كرة القدم، في مقاومة شرسة للنظام. كما أظهروا تعاطفاً كبيراً مع الشهداء الذين ارتقوا خلال الاحتجاجات الشعبية التي قابلتها السلطة بقمع وحشي. وشكّلوا حضوراً لافتاً بميدان الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم عام 2019.

وازدادت نيران الثورة اشتعالاً بعد وقوع الإنقلاب العسكري في 25 تشرين الأول/ أكتوبر2021، حيث لا يزال جميع السودانيين يذكرون تلك التحية الشهيرة بالجثو على الركبة ورفع أيديهم لقراءة الفاتحة على أرواح الضحايا الأبرياء - الذين سقطوا خلال الاحتجاجات الشعبية المناهضة للإنقلاب - عند التقاط الصور التذكارية قبيل انطلاق مباراة السودان ومصر في كأس الأمم الأفريقية بالكاميرون في كانون الثاني/ يناير عام 2022.

وكان تهافت الساسة والعسكر والنهابين في السودان، يفرز نوعاً من "خطاب المظلومية" لدى قطاع واسع من الرياضيين الذين شعروا أن "أهل الدثور ذهبوا بالأجور"، مسلطين أنظارهم الحادة شطر أحلام الناس البسيطة طامعين بسرقتها. وما زاد الحنق أن التحالف المذكور كان "مرآة عاكسة لأمراض البلاد: ديكتاتورية، تفاوت طبقي، نزعات جهوية، فساد" (3)، وغيرها.

ولعلنا نذكر الهتاف في وجه مشجعي نادي المريخ "سدنة، سدنة، سدنة"، بعد الإطاحة بنظام نميري في نيسان/أبريل 1985، للإشارة إلى انحياز النميري ورجاله لنادي المريخ. وبغض النظر عن صحة الاتهام، فالمؤكد أن نميري حرص طوال سنوات حكمه التي قاربت 16 عاماً على إظهار اهتمامه وولعه الشديد بكرة القدم.

ثورة ديسمبر وسطوعٌ رياضي

سطع ألتراس الهلال المعروف بـ"البلو ليونز" في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2018 ، في وقت اشتعال الثورة ضد نظام البشير. وفي تلك اللحظة التاريخية، استغل ألتراس "الأسود الزرقاء" مباراة في البطولة الأفريقية مع نادي "الأفريقي" التونسي لإعلان ثورة الرياضيين.

وفي لحظة واحدة دوت حناجر الآلاف داخل استاد الهلال في أمدرمان بالهتاف الأشهر "الشعب يريد إسقاط النظام"، وما أن أطلق الحكم صافرة النهاية حتى هزت الجماهير أرجاء الملعب وما جاوره من أحياء مدينة أمدرمان بهتافات حماسية، ثم تدافعوا في مظاهرات ضخمة في أوج استشراس نظام البشير، في مشهد لا ينسى.

ولم يكن ألتراس نادي "المريخ" أقل ثورية، فقد حولوا ملعب ستاد المريخ إلى بركان يغلي كالمرجل أثناء مباراة فريقهم ضد "نادي مولودية وهران" الجزائري، في 16 شباط/ فبراير 2019. فشقت الحناجر سكون الليل بهتاف الثورة والتغيير، واهتزت أمدرمان من جديد. ويوم الأحد 3 آذار/مارس 2019، ظهر ألتراس الـ"بلو ليونز" في مباراة الهلال السوداني أمام زيسكو الزامبي في بطولة الكونفدرالية الأفريقية، مرتدياً "تي شيرت" أسود حداداً على شهداء الوطن.

كما سطع نجم المنتخب السوداني ونادي المريخ "سيف الدين تيري"، الذي شارك في مواكب عديدة واصطدم بالقمع الأمني الوحشي. وعقب إسقاط نظام البشير وجهت لتيري تهما بحرق مركز للشرطة وتحرير متهمين وحرق سيارات، وألقي القبض عليه في حزيران/يونيو 2019 مما أقلق الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) الذي استفسر عن وضعه القانوني والصحي داخل السجن. وفي نهاية تموز/يوليو 2019، أطلق سراحه بكفالة مالية، وحتى الآن لم يفصل القضاء بقضيته، إلا أنه يواصل نشاطه الرياضي، كلاعب محترف بالدوري المصري مع "نادي فاركو".

في لحظة واحدة دوت حناجر الآلاف داخل استاد "الهلال" في أمدرمان بالهتاف الأشهر "الشعب يريد إسقاط النظام". وما أن أطلق الحكم صافرة النهاية حتى هزت الجماهير أرجاء الملعب وما جاوره من أحياء المدينة بهتافات حماسية، ثم تدافعوا في مظاهرات ضخمة في أوج استشراس نظام البشير، في مشهد لا ينسى.

ازدادت نيران الثورة اشتعالاً بعد وقوع الإنقلاب العسكري في العام 2021، حيث لا يزال جميع السودانيين يذكرون تلك التحية الشهيرة بالجثو على الركبة ورفع أيديهم لقراءة الفاتحة على أرواح الضحايا الذين سقطوا خلال الاحتجاجات الشعبية المناهضة للإنقلاب، وكان ذلك عند التقاط الصور التذكارية قبيل انطلاق مباراة السودان ومصر في كأس الأمم الأفريقية بالكاميرون في كانون الثاني/ يناير عام 2022.

وبعد ثلاثين عاماً من نظام البشير، جسدت تلك الحوادث إِشارة بأن حاجز الخوف انكسر، كما ألهمت جسارة وبسالة الألتراس والمشجعين ضد شراسة رجال الأمن والشرطة، حماس المتظاهرين في الشوارع.

جائحة كورونا ومخدر الشيطان

إبان انتشار جائحة كورونا، توقف النشاط الرياضي بالسودان تماماً، وصوّب ألتراس الهلال السوداني اهتمامه لمجالات متنوعة، فرفعت المجموعة رسائل من أمام وزارة الصحة وفي حوش الخليفة.. الأولى موجهة لأطباء الوطن ("جيشنا الأبيض .. نعلم ما تمرون به .. نحن معكم وحتماً سننتصر")، والثانية لإيطاليا، باعتبار الكارثة التي تسبب بها كورونا لبلاد مهد الألتراس في العالم، وتقول: "من السودان إلى إيطاليا مهد الألتراس.. ندعو لأجلكم".

واستمراراً للحملات المجتمعية، نُظِّمت بطولة "بلو ليونز" لكرة القدم الخماسية، تحت اسم "دوري سودان بلا إدمان"، في 2022، حيث شهدت تلك الفترة تفشياً لافتاً للمخدرات بين فئة الشباب، وخاصّة "الآيس كريستال" الفتاك الشهير بـ"مخدر الشيطان". كما أقامت المجموعة فعالية ترفيهية لأطفال إستراحة مرضى السرطان ("كلنا قيم - جوانا أمل") داخل أسوار إستاد الهلال بمشاركة لاعب الهلال أبو عاقلة عبد الله.. والسودان يعد من البلدان التي تسجل معدلات قياسية للإصابة بمرض السرطان.

الألتراس ولجان الأحياء

ناصر بابكر، الصحافي السوداني المختص بالرياضة، يقول إن الألتراس في السودان ملتزمون بمبادئ الألتراس العالمية، فلا يظهرون في وسائل الإعلام. ولكن صلابة تنظيمهم وتماسكهم وأهازيجهم وهتافاتهم أسهمت كلها في تقوية "لجان الأحياء" و"لجان المقاومة" بصورة لافتة، حيث انصهروا في تلك اللجان الثورية، دون تمييز لأنفسهم.

وتقف مجموعات الألتراس على مسافة واحدة من الجميع، وتنأى بنفسها عن الصراعات الإثنية والجهوية، وعلى العكس كانت الأندية الرياضية العتبات التي تزول عندها كل النعرات العنصرية والفوارق الطبقية، كما قال الشاعر السوداني الدكتور عمر محمود خالد في أبياته:

نحن في المريخ إخوة
نعشق النجمة ونهوى
واختلاف الرأي فينا
يجعل المريخ أقوى

أنشأ الألتراس سكان العاصمة التي قدِموا إليها من مختلف أنحاء البلاد، وتضاعفت أعدادهم بمتوالية هندسية، لعوامل جيوسياسية واقتصادية ومناخية. فقد قفزت أرقام المقيمين في الخرطوم من نصف مليون نسمة تقريباً منتصف الثمانينيات إلى عشرة ملايين نسمة تقريباً في الأعوام الأخيرة. في المقابل تنتشر روابط مشجعي الأندية الرياضية داخل وخارج البلاد.

إبان انتشار جائحة كورونا، توقف النشاط الرياضي تماماً، وصوّب ألتراس "الهلال" اهتمامه لمجالات متنوعة، فرفعت المجموعة رسائل من أمام وزارة الصحة.. الأولى موجهة لأطباء الوطن ("جيشنا الأبيض .. نعلم ما تمرون به .. نحن معكم وحتماً سننتصر")، والثانية لإيطاليا، باعتبار الكارثة التي تسبب بها كورونا لبلاد مهد الألتراس في العالم، وتقول: "من السودان إلى إيطاليا مهد الألتراس.. ندعو لأجلكم".

استمراراً للحملات المجتمعية، نُظِّمت بطولة "بلو ليونز" لكرة القدم الخماسية، تحت إسم "دوري سودان بلا إدمان"، في 2022، حيث شهدت تلك الفترة تفشياً لافتاً للمخدرات بين فئة الشباب، وخاصّة "الآيس كريستال" الفتاك الشهير بـ"مخدر الشيطان".

ترتبط مجموعات الألتراس بتشجيع الأندية ارتباطاً شديد القوة، ويتمايزون عن الروابط الجماهيرية التشجيعية الأخرى بالاستقلالية الكاملة عن مجالس الإدارات، بل ولهذا السبب، شكّل الألتراس الهاجس الأكبر للمجالس التي تسعى للتحكم بالأندية، وذلك أيضاً لشجاعتهم في التعبير عن رأيهم حول كل ما يدور في أنديتهم بقوة وبطرق متنوعة.

منعت بعض البلدان المباريات المفتوحة أو قننت بشكل أمني دخول الجمهور إلى الملاعب لتجفيف انطلاق الهتافات والأهازيج. وهذا حدث كذلك في السودان، إبان انطلاق الثورة ضد نظام البشير، فأقيم الدوري بدون جمهور.. كما تعرضت مجموعات الألتراس لمضايقات بدعم خفي من مجالس إدارات الاندية التي تربطها مصالح مع النظام الحاكِم. ومنع رئيس نادي الهلال "الكاردينال" ألتراس النادي من دخول استاد الهلال في تشرين الثاني/نوفمبر2019، ليخوض ألتراس الهلال معركة شرسة ضده، وقذفوه ببيان ثوري محموم تعهدوا خلاله بأنهم لن يدخروا جهداً "لدحر الدُخلاء والأرزقية (المرتزقين) والفاسِدين من جسدِ الهلال الطاهر"، وأكدوا أن"الفوز هو أن ننعتِق من جيوب الرأسمالية الفاسِدة التي تدفع شيئاً يسيراً من المال الفاسد لتحصد الكثير من البروباغندا والقليل من الانتصارات، ولا تولي هيبة الكيان أدنى أهمية، هيبة ضاعت تماماً في هذا العهد المظلم، وقيم وموروثات وأفكار سامية تأسس لأجلها "الهلال" أقسمنا أن نستخدم كل المُمكن للمحافظة عليها وبأرواحنا إن تطلّب الأمر"..

أما ألتراس نادي المريخ فوقف سداً منيعاً أمام تدخل قائد "مليشيا الدعم السريع" محمد حمدان (حميدتي) لصيانة استاد المريخ، وذكروا أن عهدهم مع الشهداء "قصي" و"عبد العظيم" و"محمد مجذوب"، الذين قتلوا بالرصاص إبان ثورة ديسمبر 2018 بأن يمنعوا ذلك، وعلقوا لافتة على مدخل النادي في 27 آذار/مارس 2022 تقول: "لا.. لتلميع القتلة على حساب الكيان".

والحال، يبدو جلياً أن أحلام تحالف السلطة والمال والسلاح استعادة التحكم بالوسط الرياضي تتعثر بفضل أجيال المشجعين الأكثر صدامية في تاريخ الكرة السودانية، وتركز الأهازيج والهتافات التي يرددونها بحماس شديد، مطالبين بالعدالة والقصاص لشهداء المجازر الوحشية من المدنيين العزل والمتظاهرين السلميين.. وأشهرها: "الدم قصاصه الدم، ما بنقبل الدية"..!

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

كتب خالد فتحي النص عن كرة القدم في السودان خلال هذه الايام السوداء التي يمر بها البلد وعاصمته بالاخص.
كتبه مرة اولى على جهازه في مكتبه ثم لم يعد الى هناك ابداً، فأعاد كتابة مساهمته على الهاتف!
النص ممتاز ولكن الصحافي لم يتمكن من تزويده بالصور والفيديوهات كما اراد. وسيحاول، ما ان تهدأ الاحوال قليلاً أن يستأنف العمل على هذه الناحية، وهذا كله يستحق التحية علاوة على الشكر الجزيل. 

______________________

1  - على النحو الذي أرّخه رئيس وزراء بريطانيا الأشهر، "ونستون تشرشل"، في مؤلفه" حرب النهر" إذ رافق الجيش الغازي، بوصفه مراسلاً حربياً.  
2  - تركزت أحداث ثورة 1924 في المدن، بقيادة الموظفين والعمال والجنود، ودعت للتخلص من الاستعمار ولـ"وحدة وادي النيل"، وكانت تنسق مع الحركة التحررية المصرية.  
3  - بتعبير محمد رامي عبد المولى: "كرة القدم في تونس: السلطة والجمهور يتنازعان الملعب"/ "السفير العربي". 

مقالات من السودان

"بوصلة" القاهرة السودانية: جولة أفق

معتز ودنان 2024-09-21

بعد مرور 17 شهراً على اندلاع المواجهات المسلحة في السودان، كيف يمكن تقييم الدور المصري؟ وهل كان على الحياد المطلق؟ أم أن السودان ليس إلا ساحة مستباحة للقاهرة، لتصفية حساباتها...