الشعر والأغنية في انتفاضة السودان: خطاب مجتمعات المقموعين

عكست الأغاني والأشعار التي تداولها المنتفضون في السودان خلال الثورة التي انطلقت في كانون الأول/ ديسمبر 2018، التعددَ اللغوي والثقافي الكبير في البلاد، واستلهمت مفردات وقواميس الطبقات المقصيّة في المجتمع، وشكلت بذلك أفق اختلاف عما كان سائداً من قبل.
2020-12-24

عادل كلر

باحث وفنان تشكيلي من السودان


شارك
| en
جدارية تحمل كلمات قصيدة حماسية رُدّدت خلال الثورة تنتهي ب"ترباس الطلقة ما تقتل، بيقتل سكات الزول"، و"الزول" باللهجة السودانية هو الرجل او الشخص.

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

بلورت ثورة كانون الأول / ديسمبر 2018 أفقَ اختلاف، شكّل علامةً فارقة على مستوى الأغنية السياسية في السودان، منتقلاً بها من سياق المضمون (التقليدي) بلغته العالية والمباشرة، إلى فصل أكثر شعبية، وبمضامينَ تنهل من فولكلور التعدد اللغوي والثقافي السوداني، ومن مفردات وقواميس الطبقات المقصية في المجتمع. وقد استلهمت مصطلحات لغة "الراندوك" – إحدى أشهر اللغات الشبابية المتداولة في السودان - فيما حوى الشكل الموسيقى قوالبَ عكست مزاج أجيال الثورة، وتطلعات المجتمعات المعنية بخطاب التغيير، والتي عبرت غنائياً وموسيقياً من خلال إيقاعات موسيقية متنوعة كـ"الراب" و"الريغي" من التراث الموسيقي العالمي، وكقوالب "المردوم" و"التم تم" و"الجراري" من الإيقاعات السودانية المحلية. وعكست مفردات الأغاني الثراء اللغوي لمجتمعات السودان وتباين الألسن بين أقاليمه. ويصف الشاعر السوداني خالد عباس واقع الأغنية والخطاب الشعري خلال "ثورة ديسمبر" بأنه كان كرنفالاً من الشفافية عكَس كامل صورة التنوع السوداني الثري، من خلال المفردات التي كانت تتناسل ما بين الهتاف والقصيدة والأغنية، وصحافة الصوت والكتابة، والتي يعتبرها نجحت في بلورة التعدد الثقافي والاجتماعي بصورة متناغمة ومحتشدة بخطابات الهوامش السودانية، بصورة خلاقة زاوجت بين الوسيلة التقليدية والوسيلة الحديثة، واستفادت من وسائط الإعلام الجماهيري في تحقيق الانتشار، في إشباع الاحتياج السودان التاريخي للانفتاح والتعرف على الآخر داخل حيز البلاد.

حلقة من حلقات الغناء خلال الثورة

ويضيف الشاعر خالد عباس أن ذيوع لغة "الراندوك" خلال "ثورة ديسمبر"، على مستوى البيان السياسي عبر "تجمع المهنيين السودانيين" الذي شكل العمود الفقري لقيادة الثورة في السودان، كان انتقالاً نوعياً مؤثراً عبَّر عن انحياز النخبة السياسية، مبكراً لصوت المجتمعات المقصيَّة الصوتِ، وتبنيها "الراندوك" كمستوًى من مستويات التمرد على النظام القديم، على صعيد اللغة ونسق وتقاليد التواصل في المؤسسة السياسية "النخبوية". وهو ما دفع بمستويات لغوية أخرى من نسيج التعدد في السودان إلى صدارة أجندة مفردةِ ولغة الشعر والأغنية خلال أشهر الانتفاضة.

أغنية "رصاصة حيّة" للمغني السوداني المعروف أيمن ماو ، وقد صارت أغنية الثورة الأشهر، وكان غنّاها في المهجر، ويؤديها هنا في ساحة الاعتصام في الخرطوم.

شارع الثورة كفضاء ممارسة العرض التشكيلي

تباينت أشكال الفن التشكيلي خلال "ثورة ديسمبر"، من الأعمال الفنية الفردية لمجموعات من الثوار والأفراد وأعضاء "لجان المقاومة" في الإطار الدعائي التعبوي، إلى المساهمات الفنية الجماعية للهواة والفنانين المحترفين بصورة أكثر منهجية، وصولاً إلى حركة فنية تبلورت ممارسةً وتنظيراً خلال الثورة، ولا تزال تتمدد بانفتاحتها على آفاق لا نهائية من التجريب على مستوى الممارسة الحرفية للتشكيل. ويشرح عضو "تجمع التشكيليين السودانيين" وعضو لجنة الميدان بتجمع المهنيين السودانيين، الفنان عبد المجيد عفيفي، أن الأعمال الفنية خلال الثورة بدأت بصورة إعلانية / دعائية عند انطلاق الثورة، كمساهمة في تحشيد المواطنين، على شكل أعمال جدارية بسيطة بالدهانات وبخاخات الرش لكتابة الشعارات، وذلك بسبب المخاطرة العالية في تنفيذ هذه الأعمال وسط قبضة أمنية بالغة القسوة والتشديد. وأشار عفيفي إلى أن قوات الأمن كانت تقوم بمسح هذه الأعمال بالدهان الأبيض نهاراً، ليعود الفنانون والأفراد ولجان المقاومة إلى إعادة الرسم والكتابة ليلاً مرة أخرى. وقال: "عملية المحو وإعادة الرسم بذاتها كانت عملية فنية جديدة تجسدت فيها طبقات على المسند الفني (الحيطان) عبرت بصرياً وجمالياً عن تاريخ الثورة". وقال عفيفي إن يوم السادس من نيسان/ أبريل 2018 مثّل نقطة تحول في العمل الفني، حيث وصلت جماهير "ثورة ديسمبر" إلى محيط قيادة الجيش السوداني بقلب العاصمة الخرطوم، معلنةً بداية "اعتصام القيادة العامة". وقد انطلقت خلالها مبادرة "تجمع التشكيليين السودانيين" – أحد روافد "تجمع المهنيين السودانيين" - للرسم على جدران في محيط قيادة الجيش والوحدات العسكرية المجاورة لها. وتشكلت المبادرة من ثوار غير دارسين، لكنهم يمتلكون قدرات تعبيرية هائلة ساهمت في إنتاج غني في تقنية الرسم والتلوين وأعمال الجداريات، بنسق فني أكثر تعبيرية وأبعد عن المباشرة الدعائية.

وأشار عفيفي أن الدائرة اللونية المستخدمة صارت تصدر أحاسيس أكثر حيوية وابتكاراً وفرحة، وذهاباً إلى الانتصار والرغبة في الحياة. وعلى مستوى الموضوعات (الـ"موتيف")، تمّ الابتعاد عن الشكل، حيث تنوعت المفردات المستخدمة ما بين علامة النصر والشجرة وأشكال النساء السودانيات المختلفة، ونقوشٍ تعكس التنوع الثقافي. غير أن عفيفي أشار إلى أن رسومات الأطفال باعتصام القيادة كانت أكثر انشغالاً بالسيارات العسكرية ذات الدفع الرباعي (TOYOTA) أو "التاتشر" كما يُطلق عليها في السودان، والمدافع العسكرية الرشاشة. وقال: "كانت هذه ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي موجودة لدى العديد من قطاعات الأطفال المشاركين بالرسم في محيط القيادة وعلى رأسهم الأطفال المشردين". وأرجع عفيفي هذه المرحلة الثانية من العمل التشكيلي خلال الثورة إلى إحساس جمهور الناس، ومن بعدهم الفنانون والأفراد المنفذون لهذه الرسوم بالانتصار، ولا سيما بعد إسقاط نظام الرئيس البشير، وخلفيته الجنرال ابن عوف، بالتتابع في أقل من يوم واحد، حيث تحولت غايات العمل الفني من التحريض والدعاية إلى أفق التجميل والتعبير الفني الحر.

يوم السادس من نيسان/ أبريل 2018 مثّل نقطة تحول في العمل الفني، حيث وصلت جماهير "ثورة ديسمبر" إلى محيط قيادة الجيش السوداني بقلب العاصمة، معلنةً بداية "اعتصام القيادة العامة". وقد انطلقت خلالها مبادرة "تجمع التشكيليين السودانيين"، أحدُ روافد "تجمع المهنيين السودانيين"، للرسم على الجدران في محيط قيادة الجيش والوحدات العسكرية المجاورة لها.

وقال عفيفي إن التحول الثالث جاء بعد مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في 3 حزيران/ يونيو 2019، حيث عادت الأعمال الفنية إلى مستوًى تعبيري قاسٍ للغاية، يتبدى من خلال ضربات الفرشاة على مسند الحائط والألوان المستخدمة.. غابت الألوان المضيئة والفرحة وتضاءلت بالتدريج، وصارت الألوان أكثر صراحة وحدة، والتعبيرات تحمل مواضيعَ تعبّر عن الشهداء والمغتصبات. وعكس تزواج الألوان المستخدمة حالةً وجواً نفسياً يموج بالغضب أكثر من الحزن، فقد تحولت الجداريات إلى خطاب فني غاضب، ومثلت الجداريات التي اشتغلتْ على قضية مفقودي مجزرة فض اعتصام القيادة العامة علامةً فارقة في الممارسة الفنية.

أنسنة صورة المرأة وفلسفة الفن في الثورة

ويخلص الفنان عفيفي إلى أن العمل التشكيلي في "ثورة ديسمبر" بالسودان استند على حقيقة فنية تاريخية تقوم على أن الثقافة السودانية عموماً ذاتُ إرث تالد في أعمال الجداريات. وهو إرث توارى بعد قدوم التعليم الفني الكولونيالي الذي أسس "مدرسة التصميم" – نواةَ كلية الفنون الجميلة بالسودان - وأدخل لوحة "الحامل" (أي الركيزة الخشبية )، فصارت من بعد ذلك اللوحةُ والعمل الفني حكراً على فئات محددة من المجتمع، خلافاً لتاريخ السودان القديم الذي عرف الرسم والنحت والتلوين على الجدران في معابد حضارات النوبة القديمة، وكنائس حضارات المسيحية القديمة في شمال السودان. وعادت "ثورة ديسمبر" فنياً وجمالياً لتستعيد هذا الإرث للبناء عليه، وتخطي السائد حالياً بما يشمل ذلك أزمة اللوحة في السودان كممارسة نخبوية، وأزمة المعرض الفني كملتقى نخبوي. وعادت الثورة بالعمل الفني إلى فضاء الشعب والشارع والحائط المشاع للجميع، تعبيرياً وجمالياً. وأكد عفيفي أن هنالك عدد من المكونات الفكرية والسياسية والفلسفية، نادت بهذا الطرح خلال "ثورة ديسمبر" بمعنى "إنزال الفن إلى الجمهور"، لا على مستوى الجمهور كمتلقٍ فقط، بل كجزء من فضاء الممارسة والعرض. وقال إن "ثورة ديسمبر" خلقت، من واقع هذه المنطلقات، حركةً فنية جديدة لا تزال مستمرةً في السودان، قابلةً للتطور والانفتاح على آفاق شتى وجديدة.

التحول الثالث جاء بعد مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في 3 حزيران/ يونيو 2019، حيث عادت الأعمال الفنية إلى مستوًى تعبيري قاسٍ للغاية، يتبدى من خلال ضربات الفرشاة على مسند الحائط والألوان المستخدمة. غابت الألوان المضيئة والفرحة وتضاءلت بالتدريج، وصارت الألوان أكثر صراحة وحدة، والتعبيرات تحمل مواضيعَ تعبّر عن الشهداء والمغتصبات.

وتشير المصورة جيهان الطاهر إلى حدوث تحسن وتقدم كبير في صورة المرأة خلال الثورة، في كافة أشكال الصورة المبذولة في الميديا، تمّ بطريقة عفوية، وفق منطق الثورة نفسها، على الأشكال والأوضاع النمطية السابقة. ولأن الميديا لا تنفصل عن الواقع الذي تعالجه وتشتغل عليه، تقدمت المرأة كمنتجة لصورة المرأة ابتداءً. الأمر الذي طرح كماً متنوعاً من صور المرأة، مبنيٌّ على حقيقة تنوع وتعدد مجتمعات السودان، ضد الذهنيات المحافظة والتقليدية والنمطية. كما برزت المرأة كموضوع في شكل مغاير للسائد، وكخطاب متكامل، من واقع شراكة السودانيات بالمساواة - وربما أكثر - في صناعة الثورة السودانية وخلقها وبنائها في جميع مراحلها، وبما يعني ذلك من صراع عميق ومتشعب مع منظومات قيمية ومجتمعية ودينية. وقالت: "رغم الأشواك، نجحت النساء في اجتياز الكثير من العقبات، ولا مناص من مواصلة المشوار".

جدارية تحتفي بمشاركة النساء في الثورة

السينما، وتأنيث المبادرة العامة

شهدت "ثورة ديسمبر" فتوحاتٍ فنية في حقل الفن السابع في السودان، بعد عقود من التدمير الممنهج للبنية التحتية لعرض وإنتاج السينما في البلاد، حيث تمّ حل مؤسسة الدولة للسينما التي كانت تتولى استيراد وتوزيع الأفلام على دور العرض في العام 1989، وإغلاق قسم الإنتاج السينمائي التابع لوزارة الثقافة في العام 1990. وبعدها توالى إغلاق دور وصالات السينما الجماهيرية، فيما قلصت ميزانية إدارة السينما المتجولة التي كانت تقوم بعرض أفلام توعوية بسيطة في المناطق الريفية، الأمر الذي ساهم في توقف نشاطها التنويري في مجتمعات الرحل والأرياف حول الموضوعات الصحية والتنموية.

تاريخياً عَرف السودان القديم الرسم والنحت والتلوين على الجدران في معابد حضارات النوبة القديمة، وكنائس حضارات المسيحية القديمة في شمال السودان. وعادت "ثورة ديسمبر" فنياً وجمالياً لتستعيد هذا الإرث للبناء عليه، وتخطي السائد حالياً بما يشمل ذلك أزمة اللوحة في السودان كممارسة نخبوية.

ومثلت مبادرة "أفلام في الشارع" التي أطلقتها الشاعرة والناشطة في المقاومة لمياء نبيل، إحدى أبرز تجليات الثورة في مجال العرض السينمائي. فقد نظمت سلسلةً دورية من العروض السينمائية والمناقشات في الساحات العامة والملتقيات المفتوحة في أحياء العاصمة السودانية الخرطوم. وأكدت عرَّابة المبادرة لمياء نبيل أن الشارع ظل طوال سنوات حكم نظام البشير مكاناً خطراً بالنسبة للفتيات بخاصة، والشباب عموماً، الأمر الذي تحول إلى النقيض تماماً أعقاب "ثورة ديسمبر" ونجاح اعتصام القيادة العامة. ولذا جاءت المبادرة كـ"احتلال مدني وشعبي" للشارع، بغية إعادة تعريفه كمكان مسترد من نظام الإسلام السياسي إلى الشعب، مكانٍ قابل لتثبيت الحقوق والحريات العامة، بما يشمل شكل ومستوى الحياة العامة التي ثار من أجلها الشباب، وقدم الشهداء دماءهم.

مسرح ساحة الاعتصام

وحول المستوى الفني والجمالي للأفلام المعروضة، قالت بأن النقاشات التي تمت بعد تقديم العروض الأولى أوضحت حقيقة وعي جمهور المشاهدين في السودان، الذي تبيَّن توجه ذائقته الجمعية بعيداً عن صيغ الأفلام التجارية، وأنساق الإنتاج الهوليودي والهندي، نحو خيارات أرفع. واقترحت مجموعات من المشاهدين عروضاً لأفلام رفيعة، فكان أن توجهت عروض مبادرة "أفلام في الشارع" نحو السينما الألمانية، الإثيوبية، الهندية، وغيرها من سينمات ذات جمالية مغايرة. وأضافت بأن المبادرة بهذه الممارسة نجحت في إرسال رسالة إلى مستوردي الأفلام في السودان، تؤكد على ضرورة احترام المشاهد السوداني الذي يحتكم إلى ذائقة جمالية رفيعة تتجاوز أفلام "إنتاج السبكي" المصرية، لجهة أن السوداني لا يزال مُحبّاً للفن السابع، وعاشقاً ومهتماً به رغم حروب دولة الإنقاذ ضده.

مثلت مبادرة "أفلام في الشارع" التي وُلدت خلال "ثورة ديسمبر" تناقضاً مع عقودٍ من التدمير الممنهج للبنية التحتية لعرض وإنتاج السينما في البلاد، حيث تمّ حل مؤسسة الدولة للسينما التي كانت تتولى استيراد وتوزيع الأفلام على دور العرض في العام 1989، وإغلاق قسم الإنتاج السينمائي التابع لوزارة الثقافة في العام 1990.

وفي سياق إعادة تعريف المكان العام جمالياً وثقافياً، بدأت تنتشر في مدينة الخرطوم ظاهرةُ اقتحام مجموعة من الشابات مجال الاستثمار الإبداعي والثقافي على مستوى ملكية المؤسسة الثقافية، بعد تجربة المهندسة "ميسون مطر" في تأسيس مشغل "فندورا" كمحترف مشغولات فنية معنيٌّ بثقافة تدوير النفايات في منتجات إبداعية استهلاكية، أو دار "المصورات" للنشر والتوزيع التي تمتلكها وتديرها سناء أبو قصيصة، أو صالة "دبنقا" للفنون التي تمتلكها وتشرف عليها لينا حجار. قبل سنوات من اندلاع "ثورة ديسمبر 2018"، جاءت تجارب أتيليه ومشغل "جهنمية" بمدينة الخرطوم بحري، الذي تعود ملكيته لثلاثة من الشابات السودانيات المشاركات في الثورة، ومقهى "ماريل" الثقافي بمدينة الخرطوم، وعدد آخر من المؤسسات الفنية التي تعود ملكيتها لنساء، وهو ما مثّل خروجاً على الصورة النمطية للمرأة السودانية في مجال الاستثمار عموماً، والذي كان سابقاً محصوراً في أشكال محددة مسبقاً وتقليدية، حيث كانت مشاركتها في الحقل الثقافي محصورةً – على النحو الغالب - في إطار الشراكة أو الاستفادة، فجاءت تجربة جيل نساء "ثورة ديسمبر" اللواتي صرن يحملن لقب "الكنداكة" أو "الكنداكات" - وهو لقب الملكات في الممالك النوبية القديمة في تاريخ السودان - في حقل إدارة النشاط الثقافي والإبداعي، منفتحات على الشارع والجمهور والطبقات الاجتماعية الشعبية والأقل حظاً في وسائل الترفيه والإبداع والثقافة.

____________
من دفاتر السفير العربي
2019: انتفاضات مبتورة النتائج
____________

وقالت تسابيح الأمين، مديرة ومالكة مقهى "ماريل" الثقافي بمدينة الخرطوم، إن بداية المشروع جاءت خلال الثورة، عبر المجهود والتمويل الذاتي الذي ساندها فيه عدد من صديقاتها وأصدقائها المقربين، واضطرت خلال ذلك لبيع هاتفها المحمول لتغطية النفقات، بهدف إنشاء المقهى كمنتدًى ثقافي يساهم في تقديم الفن والثقافة والوعي، وفتح الحوارات والمناقشات، بصورة هادفة وجادة ومغايرة للمنتديات السائدة في الخرطوم. وإن الغاية كانت إحداث تغيير مفاهيمي وثقافي وسط فئة الشباب، عبر إقامة الندوات والمناقشات والمسامرات بصورة مفتوحة على الجمهور والحضور دون تحديد سقف للحوار، موضحةً أن السياسات الثقافية والتخطيط الثقافي خلال النظام السابق كان معداً بصورة موجهة بحيث يخرج بخلاصات محددة سلفاً، فيما يجيء مشروع "ماريل" على النقيض من ذلك، من خلال فتح نقاشات عميقة في الواقع الاجتماعي، ومنفتحة على أسئلة أجيال مواليد تسعينيات القرن العشرين، وما يليه من عقود. وفي الوقت ذاته، أضافت أنه قصد فتح حوارات عابرة للأجيال، في منتدًى يتوسط مدينة الخرطوم، وفي موقع شعبي وسط طبقات المجتمع الكادحة والضعيفة. وأردفت أن "ماريل" هو المنتدى الذي يؤمه مثقفون ثوريون وشباب لجان المقاومة، جنباً إلى جنب مع عساكر الشرطة وبائعات الشاي والعمال، والذين وجدوا أنفسهم في مساحة تعيد تعريفهم، وتعريف علاقاتهم مع باقي أطراف المجتمع على شكل تعامل جديد عقب نجاح الثورة. وتلك هي ميزة المنتدى الأساسية، كونها ساهمت في هذا التجسير، وفي بلورة هذا الأفق الشعبي، في إطار الصراع الاجتماعي في السودان. وقالت تسابيح الأمين إن منتديات فترة الإنقاذ بصورة عامة، وحتى منها تلك التي تصنّف على أنها "منتديات ديمقراطية"، كانت عبارةً عن ملتقيات صفوية ونخبوية تخص قطاعات مخملية في التراتبية الطبقية، وتقام في مواقعَ لا يتوفر عليها سوى أصحاب الامتيازات من وسائل نقل وترحيل ومركبات خاصة، وتناقش أسئلةً تعيد إنتاج التفاوت الطبقي والمعرفي بين مركّبات المجتمع، وتحافظ على الامتيازات الإرثية الخاصة بالطبقات المخملية.

برزت المرأة كموضوع في شكل مغاير للسائد، وكخطاب متكامل، من واقع شراكة السودانيات بالمساواة - وربما أكثر - في صناعة الثورة السودانية وخلقها وبنائها في جميع مراحلها، وبما يعني ذلك من صراع عميق ومتشعب مع منظومات قيمية ومجتمعية ودينية.

وأشارت إلى أنها عانت في إطار تأسيس المشروع من مستويات عديدة من السلطات الأبوية، انطلاقاً من المنزل وإلى المجتمع، باعتبار أن هنالك أدواراً محددة للفتاة، ولا سيما الخريجة الجامعية، وهي معدة للعبها، إذ أبدى والدها كثيراً من القلق عليها من مجازفة خوض هذه التجربة، وتابعت بأنه قدرهنَّ كـ"كنداكات" ثورة ديسمبر، اللواتي واجهن القمع والرصاص والمعتقلات والسجون، أن يخضن تجارب كمقهى ومنتدى "ماريل" لفتح نافذة ضوء نحو أفق مختلف.

طالبات جامعيات سودانيات يرتدين الثوب السوداني الابيض احتفاء بيوم المرأة العالمي الذي صادف ذروة مواكب الثورة.

نقاشات عامة: الجسد كقيمة، الجسد كحقوق

فتحت وقائع "ثورة ديسمبر"، ولا تزال، عدداً غير يسير من النقاشات ذات الطابع الحقوقي، خصوصاً في الجانب المتعلق بالجسد، في نطاقات متباينة وعبر وقائع مختلفة من مراحل الثورة، كان من أبرزها النقاشُ الذي تفجر في كانون الثاني/ يناير 2019 على خلفية رفع طالبات من "جامعة الأحفاد للبنات" بأم درمان إشارة باستخدام الأصبع الأوسط من اليد من داخل مظاهرة للطالبات، ضمن مواكب الثورة. وقد تمت محاصرتها من قبل قوات الشرطة والأمن داخل الحرم الجامعي. عدت دوائرُ محسوبة على حكومة البشير في السوشيال ميديا، الحادث تجاوزاً لقواعد الأدب والسلوك والتهذيب، فيما انبرى التيار الحقوقي في توطين هذه الإشارة اليدوية في إطارها الصحيح ضمن سيميولوجيا الجسد والإيماءات التعبيرية، في سياق الخطاب الثوري المتمرد والرافض لكافة أنساق النظام، والثائر ضدها، وتجريده من الحمولة الأخلاقية والثقافية السالبة، والصورة النمطية للنوع الاجتماعي. كما فتحت النقاشَ الباحثةُ السودانية "نهلة محمود" (مقيمة بالمملكة المتحدة) في آذار/ مارس 2019 عبر نشرها لتعليق على صفحتها الشخصية على موقع فيسبوك عن علاقتها كأنثى مع الشَعر في جسدها. وأثار التعليق جدلاً عريضاً، شاركت فيه أطيافٌ واسعة من النسويات والناشطين الحقوقيين، حول موضوع الجسد والثقافة وحق النساء في أجسادهنَّ، ومعايير الجمال والتفضيل في الثقافات والتداخلات المختلفة حول الموضوع.

الباحثةُ السودانية نهلة محمود، والنقاش الذي اثارته حول علاقتها بجسدها (من صفحتها على فيسبوك)

كما دار جدال أكثر كثافة وعنفاً حول الحقوق الجنسية وتوجهات الأفراد، على خلفية مشاركة الفنان السوداني "أحمد عمر"، وهو مثليٌّ مقيم بالنرويج" في مسيرات ووقفات التضامن مع الثورة السودانية في شباط/ فبراير 2019 وبعدها، متوشحاً علم جمهورية السودان، حول الحق في التوجه الجنسي والخيارات الشخصية، ما بين مؤيد للخطاب الحقوقي والنزعة الحقوقية التي غرسها فعل الثورة في سودانيي الداخل والخارج، وما بين معارضين منطلقين من خطاب ديني وتقاليدَ ثقافية بعينها.

الفنان السوداني أحمد عمر، وهو مثلي ويرتدي هنا ثوب امرأة وزينتها، مثيراً نقاشاً حول حق الانسان في التصرف بجسده (من صفحته على فيسبوك)

وتذهب شذى بلع، الكاتبة والناشطة السياسية السودانية المقيمة بالولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن "ثورة ديسمبر" كانت تضم مجموعة من الثورات بداخلها. وأن إحداها ارتبطت بشكل خاص بتفنيد الإطار الأيديولوجي للجسد، سواء كان جسدَ المرأة أو الرجل، واللذين كانا مطيّةً عظيمة للمشروع الأيديولوجي للنظام القديم، الذي شرع في إطالة اللحى وفرض الحجاب وتحديد التمظهر الجسدي للمواطن السوداني، فكانوا يحلقون رؤوس الشباب، ويعتقلون البنات باسم "قانون النظام العام". وقالت إن هذه الثورة وصلت أوجها في اعتصام القيادة العامة حيث شاهد العالم تباينات المعتقدات، واختلاف التوجهات الفردية والسياسية والاجتماعية في كرنفال استمر لشهور. بيد أن الباحثة أشارت إلى أن عملية التغيير فيما يخص الجسد بصورة عامة قد تبدو بطيئةً، لأنها تخاطب الوعي الجمعي لمجتمعات تخرج لتوها من كبت استمر لثلاثين عاماً. إلا أنه من المهم الدخول في مثل هذه الحوارات والمعارك، ولا بد من الغرق فيها وفي كل ما يتصل بالجسد والنسوية والحقوق، لتتم زحزحة المفاهيم الراسخة حول الصورة المقبولة والمعتاد عليها. وأكدت أن أعظم تغيير متعلق بالجسد أحدثته الثورة، هو بروز هذه الحوارات على السطح وفي صدارة أجندة النقاش العام، بعد أن كانت صورة الجسد جزءاً من المسلّمات. وأكدت بأن الحوار سيستمر، وفي استمراره ستنشب الكثير من المعارك والانتصارات والهزائم، ولكن جوهر هذه العملية يكمن في أن صخرة المفهوم الواحد في طريقها إلى التفتت، وأن اكتمال التحول الديمقراطي، الذي يهدف إلى احتواء التعدد، سيشمل، فيما يشمل، احتواءَ التعدد على مستوى تمظهرات الجسد والتعبير عنه، ومن المهم أن تحَرس هذا التغيير وقيمه، منظومةٌ قانونية تعيد ترتيب الأخلاق وفق نواميس حقوق الإنسان والآخر المختلف، وهو ما تعكف عليه المؤسسة العدلية للحكومة الانتقالية، لإخراج الجسد من عنق زجاجة المفاهيم الأيديولوجية، وهو ما تحقق جزئياً عبر تعديل القانون الجنائي السوداني لسنة 2020. وقالت: "مواصلة الاصلاح القانوني ستسمح للثورات الكامنة بالتفجر لإعادة تشكيل، لا صورة الجسد فحسب، بل كامل التركيبة الثقافية والأخلاقية للمجتمع السوداني".

ثار جدل واسع حول موضوع الجسد والثقافة وحق النساء في أجسادهنَّ، ومعايير الجمال والتفضيل في الثقافات والتداخلات المختلفة حول الموضوع. كما دار جدال أكثر كثافة وعنفاً حول الحقوق الجنسية وتوجهات الأفراد، والحق في التوجه الجنسي والخيارات الشخصية.

وتذهب الباحثة في علم الاجتماع رشا عبد الحفيظ إلى أنه من المبكر الحديث عن تغيير اجتماعي كبير على مستوى الفئات الضعيفة في المجتمع السوداني، على الرغم من التقدم المحرز في بعض القطاعات والقضايا، كون ما يجري حالياً بالسودان في الفترة الانتقالية، لا يزال سطحياً في المستوى السياسي الفوقي، وليس بالتغيير الجوهري الذي يمس ويخلخل البنية الاجتماعية القديمة، وطرائقَ التفكير التي لا تزال سائدة.. وهو التحدي الماثل أمام شباب الثورة ولجان المقاومة، الجهتان صاحبتا الصوت الأعلى في التعبير عن الشارع، وأشواق التغيير ومطالبه، وكافة الحقوق، على المدى الزمني القادم والواجب لأي عملية تغيير حقيقي وجذري.

***

الصور بإذن من:
صفحة تجمع المهنيين السودانيين
https://www.facebook.com/SdnProAssociation
ومن صفحة تجمع التشكيليين السودانيين.
Sudanese Plastic Artists Rally (SPAR)

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من السودان