البربرية "المودرن" والتوحش السائد

أيها الرئيس السيسي: الآن وبشكل مباشر، سيشرِّفك - بعكس ما تعتقد - أن تُطلق سراح علاء عبد الفتاح قبل أن يلقى مصيره المحتوم، وأن تطلق سراح كل بريء معتقل، فتخفف من ثقل ذنوبك. وهو سلوك لا نفترض أن "ضميرك" سيمليه عليك، بل فلنقل إنها مصلحتك لو كنت مُدْركاً لها.
2022-11-09

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
رسم تضامني للرسام الإيطالي جيانلوكا كوستانتيني

لم نعد نمتلك أدواتٍ للفعل وللتأثير في الواقع. لا الإيمان – والأديان - ولا الفلسفات والأيديولوجيات التغييرية الكبرى – لا الشيوعية ولا الديمقراطية التي تتبنى مفاهيم المساواة والعدالة والقانون – عادت تنفع، وهي ربما قامت بدورها في فترات سالفة، ولكنها انتهت إلى الفشل أحياناً، وأحياناً أخرى إلى الانحراف عما تقول وقد صار ادعاءً، أو أن ما جرى في نهاية المطاف هو تخريب لها أو انقلاب صريح عليها.

وهكذا تمكّن البشر، بإرادة بعضهم وبقهر أكثريتهم الساحقة وخضوعها، من الوقوف "عراة" أمام الاحتمالات. ولعل أكثر المواقف إفصاحاً هو ما يجري مع المناخ، حيث يقول العلماء أن الأرض دُمِّرت، بمحيطاتها ويابستها وهوائها، وأن الإنسان وأغلب الأنواع صاروا، وبشكل جدي وقريب، معرّضين للفناء، وهو ما سبق أن شهده الكوكب مراراً (خمسة فناءات سابقة بحسب ما يقولون، ونحن نواجه اليوم الفناء السادس؟) خلال مئات ملايين السنين، كان معظمها قبل ظهور الإنسان. ولكن هل يأبه بهذا الخطر الإنسان العاقل والمتطور والمطّلع الذي صرنا إليه؟

 يتحرك بعض العلماء وبعض المناضلين "المثاليين" من كل الاتجاهات، وينادون ويحذّرون. تغرق نصف باكستان - حرفياً - بفيضانات عملاقة بينما ما تزال "البلدان الغنية" تناقش في مؤتمر المناخ الـ 27 ما يتوجب عليها فعله، وتعتبر أن مجرد طرح موضوع التعويضات لمن يعاني - بينما ليس هو المصدر الرئيسي للمشكل - إنجازا كبيرا! الثرثرة إذاً، مع العلم أن تلك "البلدان الغنية" تدفع هي الأخرى الثمن، ولو بفداحة أقل.. حتى الآن. ومع العلم أن الأرباح المهولة التي يجنيها أصحاب الصناعات الملوِّثة وتجار مصادر الطاقة الأحفورية (بترول وغاز ومن جديد الفحم..) لن تقيهم من الدمار، وهو دمارٌ جماعي وفردي. لكنهم لا يرون أبعد من الأفق المباشر لخزائنهم الممتلئة بمليارات الدولارات واليوان (عملة الصين)، ولا يبدو أنهم هاجسون بمصير أحفادهم المباشِرين.

وهذا المنطق نفسه هو ما بات يحكم سلوك الساسة في العالم كله، ومنهم حكام منطقتنا. حتى ليبدو أن مطالبات حكام "الدول الفقيرة" بتعويضات مالية عن الأذى اللاحق بدولهم نتيجة التدمير المنظم للكوكب إنما هو سعي إلى تحقيق فرص للاقتناص والربح.. الذي يذهب إلى جيوبهم (انظروا حالة لبنان حيث بُدّد في العشرين سنة الأخيرة 40 مليار دولار من "المساعدات" والقروض الممنوحة لإعادة بناء قطاع الكهرباء، فلم تكف هذه عن التراجع التدريجي ثم عن الانقطاع تماماً منذ سنوات وحتى اليوم، وفوق ذلك جرت "مصادرة" مدخرات المواطنين في البنوك نهباً ولتغطية العجز المالي. أو انظروا لحال العراق، البلد النفطي المحروم هو الآخر من الكهرباء، والذي بلغت سرقات من يحكمه - ولو لبضعة أشهر - عشرات مليارات الدولارات المكْتنَزة في البنوك العالمية، وإلى جانبها بعض الفتات الذي يوزع على الأزلام تعزيزاً للفساد المهول القائم في البلد). وإن لم تكن تلك المطالبات بغاية السرقة بالمعنى المباشر والموصوف، فهي وفي أحسن الاحوال موظفة لتمويل مشاريع عملاقة لا نفع عام منها، والتي تُنشأ فحسب لتعزيز صورة "العظمة" الشخصية للحاكم، فتعميه عن كل ما عداها.

ولأنهم كذلك، ينطبق على هؤلاء الحكام جميعهم بأنهم إنما تأخذهم العزة بالإثم. والأمثلة كثيرة وتنبع من كل دول المنطقة، برؤسائها وأمرائها، وآخرها مِن لدى حاكم مصر ذات الـ 110 مليون نسمة، الذي يراكِم القروض والديون ويبيع البلاد بالمفرق لمن يدفع أكثر، بغاية بناء عاصمته الجديدة (ومعها عاصمة صيفية لو تعلمون)، ومشاريع من قبيل الطرق السريعة وغيرها على المنوال نفسه لا يعلم بها إلا الله، وهي جميعها لا تخص 105 من الـ 110 مليون نَفْس. وهو يسيطر على كل ما يدر ربحاً ولو ضئيلاً ومعتاداً، وإلا فما سبب الطمع بشركة للألبان والأجبان ("جهينة")، ودك صاحبها التسعيني وابنه في الحبس لرفضهما التخلي عنها، وذلك فيما هو يصفّي معامل النسيج والحديد والصلب، ويصادر الأراضي، ومقالع الرخام، وبحيرات تربية الأسماك الخ الخ! وهو لا يطيق أن يُنتَقد ويعتبر أي كلام من هذا القبيل كفراً يستحق صاحبه الحبس، ولو عاند ولم يرضخ، فيستحق جهنم على الأرض. وهذه حال علاء عبد الفتاح وأحمد دومة وعبد المنعم أبو الفتوح، وهم، كلٌ في مجاله، يُمثّلون عشرات آلاف المعتقلين بشكل اعتباطي، ينهون الحبس الاحتياطي الطويل فيُحكَمون أو يجري "تدوير" حبسهم في قضايا جديدة لا تنضب، وكلها من قبيل "نشر أخبار كاذبة"!

هل السيسي "قوي"؟ بل هو في غاية الضعف والخوف، خشية انقلاب أجهزته عليه لطمع بعض ولاتها، أو لأنه طفح بهم الكيل وصاروا يشعرون بخطر أكيد عليهم جميعاً. ولكنه أيضاً يمتلك طباعاً استحواذية تجعله يضع أبناءه الثلاثة في مناصب حساسة – متخطياً الأصول والقواعد المتبعة في بلد كبير ومؤسساتي كمصر – وهو من طبعٍ حقود ومتحدٍّ يجعله يضع "رأسه برأس" الشابين أحمد دومة وعلاء عبد الفتاح، وهذا الأخير يتحضر للموت جوعاً وعطشاً دون أن يأبه له "الزعيم". وهو من طبع غيور (بمعنى الحسد) ما يفسر موقفه من عبد المنعم أبو الفتوح، الرجل الذكي والطيب، والذي وصلت به قدرته على النقد إلى ذاته - قبل انتقاد السيسي – فترك من زمنٍ حزب الإخوان المسلمين الذي كان قيادياً فيه، لأنه أدرك عجز التنظيم وفشله، ولخلافه معه في مسائل جوهرية.

هؤلاء الحكام جميعهم يدمّرون بلداننا ومجتمعاتها، من المحيط إلى الخليج، ويفعلون ذلك بخفة مدهشة، وعدم اكتراث ب"الفضائح" وقدرة غير مسبوقة على الكذب، وهي سمات العصر بدليل سلوك "العقلانيين" الغربيين في مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وفيما يخص مسألة المناخ. أنظروا سوريا بشار الأسد التي حُوِّلت إلى ركام ومقاطعات نفوذ لإيران وروسيا وتركيا والإمارات، بينما نصف مواطنيها لاجئون في دول الجوار، وقد راحت تجتاحها الكوليرا مؤخراً! أنظروا اليمن التي أطلقت عليها السعودية (والإمارات) حرباً قاتلة وحوّلتها هي الأخرى إلى ركام وإلى مرتع للفساد. أنظروا ما يتهدد تونس، البلد الوادع والمستقر، لأن حاكمه أحمق على طريقته الخاصة جداً... أنظروا السودان التي يجمّد حكامه العسكريون كل الحلول للخروج من المأزق، متعنّتين في المطالبة بالإعفاء من المساءلة بعد ارتكابهم المجازر، ومتعنتين في المطالبة بإعفائهم من المساءلة بعد نهب البلد وخيراته – وعلى رأسها الذهب – فيما نصف السودانيين تحت خط الفقر... هل نكمل في الأمثلة؟

مقالات ذات صلة

فيا الرئيس السيسي، الآن وبشكل مباشر، سيشرِّفك - بعكس ما تعتقد - أن تُطلق سراح علاء عبد الفتاح قبل أن يلقى مصيره المحتوم، وأن تطلق سراح كل بريء معتقل، فتخفف من ثقل ذنوبك. وهو سلوك لا نفترض أن "ضميرك" سيمليه عليك، بل فلنقل إنها مصلحتك لو كنت مُدْركاً لها.   

مقالات من العالم

جوليان أسانج حرّ

2024-06-27

فعل أسانج المحظور الأكبر في هذا العالم. كشف اللثام عن أكبر أكاذيب العالم وأكثر أساليب الدول وحشية، وفضح تلك البرودة الفظيعة التي يتمتع بها الجميع خلف الكواليس، وتلك السهولة الرهيبة...

عودة إلى فانون: عن فلسطين وسيكولوجيا الاضطهاد والتحرّر

لا يمكننا التكلم عن فانون دون التطرق لتحليله للعنف وسايكولوجيا الاضطهاد، خصوصاً خلال الحقبة الحالية التي يطبعها الدمار والموت. ماذا كان فانون ليقول عن الإبادة الاستعمارية و"سيل القتل" اللذين يحدثان...

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...