تونس: قانون انتخابي ملغّم

قد يفتح التقسيم الانتخابي الجديد للبلاد باب الشيطان. فتقسيم المحافظة إلى دوائر صغيرة قد يكون مدخلاً لخلق قوى سياسية أو بالأحرى اقطاعيات سياسية جديدة كالعروش والعائلات الكبيرة المتنفذة، "تعوّض" الأحزاب والمجتمع المدني وترجع بالبلاد إلى الخلف، فضلاً عن إمكانية التنافس "العنيف" فيما بينها مما قد يهدد وحدة البلاد واستقرارها النسبي.
2022-10-12

شارك
تونسيون يصطفون أمام مكتب اقتراع، أرشيف.

قطار الرئيس التونسي لا يتوقف، وها هو يستعد للدخول إلى المحطة الأخيرة من خارطة الطريق التي أعلنها في كانون الأول/ديسمبر 2021 وتتمثل في انتخابات برلمان جديد ليعوض البرلمان الذي تم تجميده في تموز/يوليو 2021 قبل حله نهائيا في اذار/مارس الفائت. وتمهيداً لهذه المرحلة الأخيرة، أصدر قيس سعيّد يوم 15 أيلول/سبتمبر الفائت مرسوماً جديداً عدّل بموجبه القانون الانتخابي القديم. شملت التعديلات 26 فصلاً فقط من جملة 176، لكنها نسفت روح القانون القديم وترجمت حرفياً أفكار قيس سعيّد فيما يخص "الديمقراطية المباشرة" و"البناء القاعدي" للسلطة السياسية. ماذا تتضمن هذه التعديلات؟ ما الذي تغير مقارنة بالقوانين القديمة؟ ماهي أهم الإيجابيات والمؤاخذات؟

موجز تاريخ النظام الانتخابي في تونس

طبعا لم تكن الانتخابات وقوانينها تشكل فارقاً كبيراً تحت حكم نظام ديكتاتوري فرض هيمنة الحزب الواحد طيلة نصف قرن ونيف. منذ استقلال البلاد سنة 1956 إلى حد سنة 2011 ظل "الحزب الدستوري" (بتسمياته المختلفة) مسيطراً على البرلمان ورئاسة الجمهورية، تارة بحكم "الشرعية التاريخية والنضالية"، وفي أغلب الأحيان بالتزوير والترهيب والشبكات الزبائنية. كان النظام الانتخابي المعتمد يقوم على القائمة المغلقة والأغلبية المطلقة، أي أن الناخب يختار قائمة واحدة بجميع مرشحيها دون إضافة أو شطب، وتفوز القائمة الحائزة على أكبر عدد من الأصوات بكامل مقاعد الدائرة. وطبعاً كان الحزب الحاكم يفوز بكامل المقاعد بعد انتخابات تنظّمها وتفرز صناديقها وتعلن نتائجها وزارة الداخلية. سعياً منه لتحسين صورته بعد تنكيله بالمعارضة (الإسلامية خصوصاً، واليسارية كذلك) بدأ نظام بن علي، انطلاقاً من الانتخابات التشريعية للعام 1994، في تخصيص بضعة مقاعد للمعارضة ك"مكرمة" في البداية ثم على شكل "كوتا" ثابتة (20 في المئة في انتخابات 2004 ثم 25 في المئة في 2009).. يتعلق الأمر طبعاً بأحزاب معارضة "إصلاحية" أو صورية صنعها النظام نفسه. كما خصص "كوتا" للنساء بلغت 25 في المئة في انتخابات 2009.

مع سقوط نظام بن علي وحزبه في بداية ،2011 دخلت البلاد في مرحلة "الانتقال الديمقراطي"، وكان من البديهي أن تحظى العملية الانتخابية بعناية خاصة. لذا بادرت "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" (تأسست في اذار/مارس 2011 ولعبت دور مجلس تشريعي انتقالي غير منتخب) بإنشاء "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" في نيسان/ابريل 2011 لتتولى مهمة تنظيم الانتخابات والاشراف عليها بدلاً من وزارة الداخلية. في شهر أيار/مايو من السنة نفسها، صاغت هيئة الانتخابات قانوناً انتخابياً جديداً صدر في مرسوم رئاسي.

 أُريد من هذا القانون أن يشكل قطيعة "مع النظام السابق المبني على الاستبداد وتغييب إرادة الشعب بالبقاء غير المشروع في السلطة وتزوير الانتخابات" وفق "مبادئ ثورة الشعب التونسي الهادفة إلى إرساء مشروعية أساسها الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة والتعددية وحقوق الإنسان والتداول على السلطة". وأُقر نظام الاقتراع في دورة واحدة على القوائم (الحزبية والائتلافية والمستقلة) المغلقة مع اعتماد مبدأ التمثيلية النسبية و"أكبر البقايا": يتمّ في مرحلة أولى توزيع المقاعد على أساس الحاصل الانتخابي. ويتمّ تحديد هذا الحاصل بقسمة عدد الأصوات المصرّح بها على عدد المقاعد المخصّصة للدائرة. ويسند إلى القائمة عدد مقاعد بقدر عدد المرات التي تحصلت فيها على الحاصل الانتخابي. وتسند المقاعد إلى القوائم باعتماد الترتيب الوارد لكل منها عند تقديم الترشيحات. وإذا بقيت مقاعد لم توزّع على أساس الحاصل الانتخابي، فإنه يتمّ توزيعها في مرحلة ثانية على أساس أكبر البقايا على مستوى الدائرة. وإذا تساوت بقايا قائمتين أو أكثر يتمّ تغليب المترشح الأصغر سنّاً.

كما فرض المرسوم تقديم الترشّيحات على أساس مبدأ التناصف بين النساء والرجال، وترتيب المترشحين داخل القوائم على أساس التناوب بين النساء والرجال، مع اسقاط القائمة التي لا تحترم هذا المبدأ إلا في حدود ما يحتّمه العدد الفردي للمقاعد المخصّصة لبعض الدوائر. وسمح لأول مرة للتونسيين المقيمين في الخارج بالمشاركة في الانتخابات التشريعية وتمّ احداث ست دوائر انتخابية تصعّد 18 نائباً إلى المجلس التأسيسي (دائرتين في فرنسا، دائرة واحدة في كل من إيطاليا وألمانيا، دائرة للقارة الأمريكية وبقية الدول الأوروبية، دائرة للدول العربية وباقي دول العالم). كما اشترط المرسوم ان تضم كل قائمة مرشحاً واحداً على الأقل يكون سنه دون الثلاثين، وخصّص لكلّ قائمة منحة بعنوان مساعدة عموميّة لتمويل الحملة الانتخابية، وذلك على أساس مقدار مالي لكلّ ألف ناخب على مستوى الدائرة الانتخابية. توزّع 50 في المئة من المساعدة بالتساوي بين جميع القوائم المترشحة قبل بداية الحملة الانتخابيّة، وتوزع الـ 50 في المئة الباقية أثناء الحملة الانتخابية. وكل قائمة لا تتحصل على 3 في المئة على الأقل من الأصوات المصرح بها على مستوى الدائرة الانتخابية، مطالبة بإرجاع نصف مبلغ المنحة. سعى المرسوم إلى اشراك أكبر عدد ممكن من الأحزاب والمنظمات والفئات الاجتماعية والشرائح العمرية في العملية الانتخابية وتسهيل إمكانية وصولها إلى المجلس التأسيسي، وكان من الواضح انه أراد أيضاً وضع مكابح أمام الإسلاميين ومنع سيطرتهم المطلقة على السلطتين التشريعية والتنفيذية.

كانت "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" (تأسست في اذار/مارس 2011 ولعبت دور مجلس تشريعي انتقالي غير منتخب) قد بادرت الى إنشاء "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" في نيسان/ابريل 2011 لتتولى مهمة تنظيم الانتخابات والاشراف عليها بدلاً من وزارة الداخلية. في شهر أيار/مايو من السنة نفسها، صاغت هيئة الانتخابات قانوناً انتخابياً جديداً صدر في مرسوم رئاسي.

في 2014، وبعد صدور دستور جديد والاتفاق على انهاء أعمال المجلس التأسيسي صدر في أيار/مايو 2014 قانون انتخابي لم يغيّر إلا بعض التفاصيل الصغيرة في مرسوم 2011. وحتى عندما سعت "حركة النهضة" مع رئيس الحكومة الأسبق وحزبه "تحيا تونس" في ربيع 2019 لتعديل القانون الانتخابي سعياً لضرب خصوم سياسيين آخرين وعرقلة وصول الأحزاب والائتلافات الصغيرة إلى البرلمان، فإن رئيس الجمهورية آنذاك، الباجي قايد السبسي، ماطل في التوقيع على القانون المعدل ثم رفضه بشكل صريح قبل وفاته بأيام قليلة، فبقي الأمر على حاله إلى حين سيطرة قيس سعيّد على السلطة في تموز/ يوليو 2021 واعلانه نيته تعديل القانون وهو ما تمّ فعلاً في الأيام الفائتة.

ما الجديد؟

لم تًمس التعديلات الجديدة الجزء الأكبر من القانون الانتخابي وحافظت على أغلب الفصول "الشكلية" المتعلقة بتنظيم الانتخابات وعمل "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" وفرز الصناديق وتسجيل الناخبين وغيرها من العمليات التقنية واللوجستية، لكنها أحدثت تغييرات جذرية وعميقة في نظام الانتخابات:

- من القوائم إلى الأفراد

ابتداء من الانتخابات التشريعية لعام 2022، سيكون الترشح لعضوية مجلس نواب الشعب فردياً وليس ضمن قوائم حزبية أو ائتلافية أو مستقلة. وهذا يعني ان الأحزاب التي ستدخل السباق الانتخابي - بعضها أعلن مقاطعته للاقتراع احتجاجاً على انفراد سعيّد بالقرار وفرضه قواعد "اللعبة - لن تستطيع تنظيم حملة انتخابية موحدة على المستوى الجهوي والوطني، وسيضطر مرشحوها إلى دفع ملفات الترشح باسمهم الخاص وتنظيم حملة في كل دائرة. كما سيكون الاقتراع على دورتين إلا عند نجاح مرشح في الحصول على الأغلبية المطلقة من الأصوات منذ الدور الأول أو في حالة تقدم مرشح واحد فقط في الدائرة الانتخابية.

- تعديل عدد النواب والدوائر الانتخابية

في السنوات الفائتة كان عدد الدوائر الانتخابية 33 (27 منها في الداخل و6 في الخارج) تصعِّد 217 نائبا (191 في الداخل و18 في الخارج). بعد التعديلات الأخيرة أصبح عددها الآن 161 دائرة تصعد 161 نائباً (151 في الداخل و10 في الخارج). في السابق أيضا كانت كل ولاية (محافظة) تعتبر دائرة انتخابية واحدة (باستثناء محافظات تونس العاصمة وصفاقس ونابل التي كانت تقسم إلى دائرتين نظرا لثقلها الديمغرافي). الكثيرون - وعلى رأسهم رئيس الجمهورية - كانوا يعتبرون ان التقسيم القديم لا يضمن تمثيلية لكل المناطق، وان عدة معتمديات (المعتمدية تقسيم ترابي/إداري أصغر من المحافظة) لا تصعّد مرشحين لمجلس النواب ويضطر أبنائها لانتخاب اشخاص لا يعرفونهم ولا يمثلونهم ولا يفهمون مشاكلهم. واقترح قيس سعيّد - حتى قبل وصوله إلى الحكم - ان تعتبر كل معتمدية دائرة انتخابية، وهكذا تكون لكل ولاية عدد دوائر انتخابية مساو لعدد معتمدياتها. لكن يبدو ان العدد الكبير للمعتمديات (274) وتفاوت أحجامها (من بضعة آلاف شخص إلى أكثر من مئة ألف) جعل الرئيس يتراجع قليلاً عن هذه الفكرة: الابقاء على مبدأ المعتمدية/دائرة انتخابية في المعتمديات الكبيرة والمتوسطة ودمج معتمديتين صغيرتين أو ثلاثة في دائرة واحدة.

- التزكية

اشترطت التعديلات الجديدة ان يجمع كل مترشح 400 تزكية من الناخبين المسجلين في دائرته الانتخابية حتى يتم قبول ملف ترشحه، مع النص على ضرورة ان تكون التزكية موقعة بشكل رسمي في إحدى المقرات الفرعية للهيئة العليا المستقلة للانتخابات أو البلديات. وحسب أنصار الرئيس، فإن هذا الشرط يهدف إلى ضمان جدية الترشيحات.

- سحب الوكالة

نصت التعديلات الجديدة على إمكانية "سحب الوكالة من النّائب في دائرته الانتخابية عند إخلاله بواجب النّزاهة أو تقصيره البين في القيام بواجباته النّيابية أو عدم بذله العناية المطلوبة لتحقيق البرنامج الذي تقدم به عند الترشح". أي أن الناخب أصبح بإمكانه - نظرياً على الأقل- الغاء التفويض الذي منحه للنائب واخراجه من البرلمان. ويمر السحب بعدة مراحل معقدة، فيجب أولاً ان يوقع 10 في المئة على الأقل من الناخبين المسجلين في الدائرة على عريضة سحب الوكالة، ثم تعرض على هيئة الانتخابات التي تنظر في التهم ومدى مصداقيتها ثم تقرر المصادقة عليها أو اسقاطها، وفي حالة المصادقة أو الرفض يمكن للنائب المعني أو مقدمي العريضة الطعن في القرار. إذا تم تثبيت العريضة يدْعى حينئذ الناخبون في الدائرة إلى التصويت المباشر على سحب الوكالة أو الابقاء عليها. وفي حالة التصويت بالموافقة على السحب يُعد منصب النائب المعني شاغراً ويتم تنظيم انتخابات جزئية لتعويضه.

- الغاء التمويل العمومي للحملات الانتخابية

لم يعد بإمكان المرشحين التعويل على مساهمة الدولة في مصاريف حملاتهم الانتخابية، فالتعديلات الجديدة تشترط أن يتمّ تمويل الحملة الانتخابيّة وحملة الاستفتاء بالتّمويل الذّاتي والتّمويل الخاصّ دون سواهما وفق ما يضبطه هذا القانون. ونذكر هنا بأنه في انتخابات 2011 كان المرشحون ينفقون على حملاتهم اعتماداً على التمويل الذاتي والتمويل العمومي دون الحق في التمتع بتمويل خاص من أي جهة أخرى. وفي انتخابات 2014 سمح بالانتفاع بالتمويل الخاص لكن مع وضع شروط وسقوف. ويبدو ان منطلق هذا الإلغاء هو "الحفاظ على المال العام".

إشكاليات وهواجس

التعديلات التي أدخلها الرئيس على القانون الانتخابي ليست مجرد تفاصيل تقنية إذ أنها تمس تقسيم المجال الترابي والبنى المجتمعية بشكل يثير عدة تساؤلات ومخاوف.

فضلاً عن التجانس الديني والمذهبي القائم في البلاد وغياب ثقافة حمل السلاح في المجتمع التونسي، فإن الوحدة المجالية وقوة حضور الدولة المركزية وضعف الدور الذي تلعبه القبيلة شكلت صمامات أمان جنبت تونس المآسي التي شهدتها عدة دول عربية بعد موجة ثورات 2011 (طبعاً علاوة على اختلاف موقع كل بلد والرهانات الجيوسياسية المحيطة به). فعلى الرغم من التفاوتات التنموية بين الجهة الشرقية للبلاد وغربها، وكذلك انتماء جزء كبير من التونسيين إلى قبائل عربية أو أمازيغية تعربت فإن هناك نوع من الوحدة الوطنية المتينة. منذ استقلال البلاد فرضت الدولة الناشئة حكماً مركزياً قوياً وسعت – بنجاح - إلى تصفية أو اضعاف أي "منافس"، فقلمت بداية أظافر رجال الدين عبر الغاء التعليم الديني والمحاكم الشرعية وإلغاء نظام "الحبوس" (الأوقاف)، ثم سعت إلى تحجيم دور القبيلة تدريجياً عبر تحكمها في المجال وتقسيمها له، وكذلك عبر التعليم والثقافة والإعلام.

لم تًمس التعديلات الجديدة الجزء الأكبر من القانون الانتخابي وحافظت على الفصول "الشكلية" المتعلقة بتنظيم الانتخابات وعمل "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" وفرز الصناديق وتسجيل الناخبين وغيرها من العمليات التقنية، لكنها أحدثت تغييرات جذرية وعميقة في نظام الانتخابات: 1- من القوائم إلى الأفراد، 2- تعديل عدد النواب والدوائر الانتخابية، 3- التزكية، 4- سحب الوكالة، 5- الغاء التمويل العمومي للحملات الانتخابية.

 بعد ثورة 2011، ومع اهتزاز النظام الحاكم والدولة وتفجر "الأحقاد" القديمة، بدأ الصوت العروشي (القبَلي) يعلو قليلاً وحصلت عدة اشتباكات في أكثر من منطقة دارت حول الأرض والمياه وحتى الأحقية في استعمال مرفق عمومي. لم يصل الأمر إلى حد لعب دور سياسي أو تشكيل سلطات مضادة، لكن التقسيم الانتخابي الجديد للبلاد قد يفتح باب الشيطان. فتقسيم المحافظة إلى دوائر صغيرة قد يكون مدخلاً لخلق قوى سياسية أو بالأحرى اقطاعيات سياسية جديدة كالعروش والعائلات الكبيرة المتنفذة، "تعوّض" الأحزاب والمجتمع المدني وترجع بالبلاد إلى الخلف، فضلاً عن إمكانية التنافس "العنيف" فيما بينها مما قد يهدد وحدة البلاد واستقرارها النسبي. وما يعزز المخاوف اشتراط القانون المعدل الحصول على مئات التزكيات التي يصعب الحصول عليها في الدوائر الصغيرة ذات الطابع القبلي دون رضا "أعيان" المنطقة او "إرضاء" عدد كبير من أبنائها بخدمات شخصية. وهنا قد تصبح الروابط الدموية والزبائنية مؤثرة بشكل كبير في نتائج الانتخابات. طبعاً هذا لا يعني ان كل هذه المظاهر تغيب تماماً في نظام الاقتراع على القوائم الحزبية أو المستقلة، لكن تأثيرها أخف.

الغاء التمويل العمومي للحملات لا يعني بالضرورة الحفاظ على المال العام لكنه سيتسبب بكل تأكيد في حرمان عدة تونسيين من حقهم في ممارسة العمل السياسي وتقلد مسؤوليات تشريعية. اغلب التونسيين يكابد لضمان اللقمة والمصاريف اليومية فما بالك بتمويل حملة انتخابية؟ هذا يعني ان الكثير من ضعاف ومتوسطي الحال لا يمكنهم الترشح او عليهم التعويل على "كرم" و"تبرعات" مواطنين آخرين، والأكيد ان أكبر المتضررين من الحرمان من التمويل العمومي سيكونون من النساء والشباب. هاتين الفئتين الأخيرتين ستتضرران أيضاً من الغاء نظام القوائم. 

فضلاً عن التجانس الديني والمذهبي القائم في البلاد وغياب ثقافة حمل السلاح في المجتمع التونسي، فإن الوحدة المجالية وقوة حضور الدولة المركزية وضعف الدور الذي تلعبه القبيلة شكلت صمامات أمان جنبت تونس المآسي التي شهدتها عدة دول عربية بعد موجة ثورات 2011 (طبعاً علاوة على اختلاف موقع كل بلد والرهانات الجيوسياسية المحيطة به).

منذ استقلال البلاد فرضت الدولة الناشئة حكماً مركزياً قوياً وسعت – بنجاح - إلى تصفية أو اضعاف أي "منافس"، فقلمت بداية أظافر رجال الدين عبر الغاء التعليم الديني والمحاكم الشرعية وإلغاء نظام "الحبوس" (الأوقاف)، ثم سعت إلى تحجيم دور القبيلة تدريجياً عبر تحكمها في المجال وتقسيمها له، وكذلك عبر التعليم والثقافة والإعلام. 

في كل الانتخابات التي نظمت بين 2011 و2019 نصت القوانين المنظمة لها على تشكيل القوائم بالتناصف والتناوب بين الجنسين. وهكذا عندما تكون المرأة على رأس القائمة أو في المرتبة الثانية فستكون لها حظوظ أوفر في الظفر بمقعد برلماني، خاصة عندما تكون مرشحة قوة سياسية وازنة. بفضل المناصفة حصلت التونسيات على 49 مقعداً في المجلس التأسيسي 2011 (24 في المئة من المقاعد) ثم 72 مقعداً في تشريعيات 2014 (33 في المئة) و57 مقعداً في تشريعيات 2019 (نسبة 26 في المئة). ويذكر انها حصلت على 47 في المئة من المقاعد في بلديات 2018. يصعب تصور حصول النساء التونسيات على مثل هذه النسب في نظام انتخابي يقوم على التصويت على الأفراد ولا يجبر الناخب على اختيار قائمة واحدة دون قدرة على شطب أحد المرشحين أو المرشحات. ومع وجود مزاج شعبي ذكوري يرى أن المرأة التونسية لها حقوق "أكثر مما ينبغي"، قد تصبح الأمور أصعب بكثير على المرشحات. شرط الحصول على التزكيات يزيد الطين بلة، ويجعل المهمة شبه مستحيلة للكثير من النساء اللواتي سيجدن صعوبات كبيرة في اقناع 400 مواطن/ة بتزكية ترشحهن والتنقل إلى مقر رسمي للتوقيع على الوثيقة. ولا يجب أن ننسى ان للمرشحين الذكور أفضلية كبيرة في مسألة الولوج للفضاء العام والتواصل مع الناخبين المحتملين.

 الشباب - إناثاً وذكوراً- الذين ضمن لهم قانون 2011 مكاناً واحداً على الأقل في كل قائمة مرشحة، وعزز قانون 2014 حضورهم بفرض تواجدهم ضمن المراتب الأربع الأولى في كل قائمة، سيفقدون هذا "الامتياز" مع نظام التصويت على الأفراد وسيعانون أيضاً من مسألتي الغاء التمويل العمومي واشتراط الحصول على مئات التزكيات، وهم الذين يعانون من البطالة والتشغيل الهش فضلا عن تشكيك "الكبار" في جديتهم وقدرتهم على المساهمة في الشأن العام وإدارة البلاد. ويبدو أن واضع التعديلات الجديدة أحس بالذنب في حق هاتين الفئتين فحاول معالجة الأمر وضمن لهما حصة.. في قائمة المزكّين. اذ يجب أن يكون نصف المزكّين من الإناث والّنصف الثّاني من الذكور، على ألا يقلّ عدد المزكّيات والمزكّين من الشّباب دون سنّ 35 عن 25 في المئة.

أما مبدأ "سحب الوكالة" وعلى الرغم من جاذبية الفكرة وما قد تفرضه من جدية أكبر في التعامل مع المسؤولية النيابية، فإنها قد تكون سلاحاً ذو حدين. فكما أوضحنا سابقاً، الكثير من الدوائر الانتخابية مكونة من معتمديتين او ثلاثة، وتضم أحياناً انتماءات عشائرية مختلفة، مما يعني ان صعود نائب من معتمدية أو "عرش" ما قد لا يعجب الناخبين من الدائرة نفسها الذين ينتمون إلى عروش أو معتمديات أخرى، وقد يسعون إلى عرقلته عبر عرائض سحب الوكالة. وحتى إذا لم تتم المصادقة على السحب فإن تكرر هذه العملية في عدة دوائر قد يشكل تعطيلاً للعمل النيابي. وفي حالة المصادقة على عدة عرائض فستكون هناك انتخابات جزئية تلك المناطق بكل ما يعنيه ذلك من هدر للوقت والمال وتكاليف للدولة، وقد تتحول المدة النيابية إلى انتخابات متواصلة. كما ان الخشية من سحب التفويض قد تجعل الكثير من النواب يلجؤون إلى الممارسات الزبائنية لتحصين مقاعدهم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحالات الموجبة لسحب الوكالة ضبابية وتخضع أساساً لانطباعات ابناء الدائرة ثم تقدير الهيئة المستقلة للانتخابات.

الغاء التمويل العمومي للحملات سيتسبب بكل تأكيد في حرمان عدة تونسيين من حقهم في ممارسة العمل السياسي وتقلد مسؤوليات تشريعية. اغلب التونسيين يكابد لضمان اللقمة فما بالك بتمويل حملة انتخابية؟ هذا يعني ان الكثير من ضعاف ومتوسطي الحال لا يمكنهم الترشح أو عليهم التعويل على "كرم" و"تبرعات" مواطنين آخرين، وأكبر المتضررين من الحرمان من التمويل العمومي سيكونون من النساء والشباب.

الشباب - إناثاً وذكوراً- الذين ضمن لهم قانون 2011 مكاناً واحداً على الأقل في كل قائمة مرشحة، وعزز قانون 2014 حضورهم بفرض تواجدهم ضمن المراتب الأربع الأولى في كل قائمة، سيفقدون هذا "الامتياز" مع نظام التصويت على الأفراد وسيعانون أيضاً من مسألتي الغاء التمويل العمومي واشتراط الحصول على مئات التزكيات. 

ومن المؤاخذات الكبيرة على هذه التعديلات انها صيغت وأقرت بشكل فردي من قبل رئيس الدولة دون أي نقاش عام حقيقي حولها ودون اشراك لممثلين عن الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والهيئات المهنية والشباب والمرأة، وطبعاً دون مصادقة برلمانية. من الخطير ان يتم تعديل قانون بمثل هذا الأهمية من قبل شخص واحد مهما كان منصبه ومهما كانت شعبيته. ولا يوجد أدنى شك في ان تعديلات القانون الانتخابي استهدفت بشكل كبير الأحزاب في سعي إلى تهميشها أكثر فأكثر في تماهٍ تام مع موقف الرئيس من العمل الحزبي و"الأيديولوجيات البالية". ويتخوف البعض من أن بعض الشروط الجديدة للترشح وضعت عمداً لإقصاء أطراف بعينها وتعبيد الطريق أمام أطراف أخرى.

***

لم تشغل التعديلات القانونية الجديدة التونسيين كثيراً فلقد تزامن صدورها مع العودة المدرسية التي ارتفعت تكاليفها بشكل جنوني لتزيد طين التونسيين بلة، وسط موجة غلاء أسعار رهيبة ونسبة تضخم غير مسبوقة. وفي الوقت الذي كان فيه الخبراء والناشطون والمسيسون، مناصرون ومعارضون، يحللون الفصول الانتخابية الجديدة، كان أغلب التونسيين يعانون الأمرّين في رحلة البحث اليومي عن علبة حليب وكيس سكر وقارورة زيت نباتي والماء المعلب وغيرها من السلع المفقودة، ويحسبون تكلفة الزيادة الثالثة في سعر المحروقات خلال سنة واحدة.  

مقالات من تونس

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...

للكاتب نفسه

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...