حادثة عنصرية بالسودان تعيد طرح الأسئلة الصعبة

"العبد" و"صاحب الأنف الكبير" لوصف مدير الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون المُقال بسبب نقل الهيئة للمظاهرات السلمية المناهضة للانقلاب. الكلام الهامس جرى داخل المحكمة المنعقدة لمحاكمة مدبري انقلاب 1989، وقد تلفظ به أحد المحامين من هيئة الدفاع عن البشير - من دون الانتباه الى وجود ميكروفون مفتوح – الذي أضاف ساخراً "وهل يعتقد أنه حاكم السودان؟".
2022-04-17

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
لقمان أحمد مدير التلفزيون السوداني

لم تكن مجرد نميمة بين محامييَن في قاعة محاكمة مدبري انقلاب 1989 بالسودان، والتي تخص المتهمين فيها، الرئيس المخلوع عمر البشير وأعوانه. تلك ال 20 ثانية التي تسربت عبر ميكروفون النقل المباشر لوكالة الأنباء الرسمية "سونا" وسارت بها ركبان مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة، أعادت طرح الأسئلة الصعبة حول الهوية والوحدة.

ما حدث أن محامييَن من هيئة الدفاع في بلاغ انقلاب الحركة الإسلامية 1989 أخذتهما غفلة عن الميكروفون المفتوح للوكالة الرسمية للأنباء التي كانت تنقل وقائع المحاكمة مباشرة على صفحتها بفيسبوك. كانا يتحدثان عن إعفاء مدير الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، لقمان أحمد، والذي جاء إعفاؤه بسبب نقل المظاهرات السلمية المناهضة للانقلاب. وفي خضم الكلام تلفظ أحدهما بعبارة عنصرية قبيحة في حق المدير المُقال حيث وصفه ب"العبد" و"صاحب الأنف الكبير"، وسخر قائلاً "هل يعتقد أنه حاكم السودان؟" وهذا السؤال الاستنكاري الذي صدر من المحامي حول أحقية الحكم، هو في حقيقة الأمر جذر الأزمة المسكوت عنها في السودان منذ نيله استقلاله عام 1956.

كيف وظّف الإسلاميون العنصرية لتثبيت حكمهم؟

يشهد السودان الذي تعاقبت على حكمه مجموعات سكانية بعينها، تحولات جوهرية بعد سقوط حكم الإسلاميين الذي استمر زهاء 30 عاماً، فتصعد قوى جديدة من الهامش كانت في خانة المعارضة وخاضت صراعاً مسلحاً ضد حكم البشير. وهذه القوى نفسها تشكلت على أساس أثني وقبلي وربما كان ذلك نتيجة طبيعية لسيطرة مجموعات سكانية بعينها على حكم البلاد، تلك التي عُرفت في السياسة السودانية ب"الوسط النيلي"، أي القاطنة وسط السودان وشماله، وهي بالضرورة متحدرة من العنصر العربي. ومن هنا برز مصطلح مركز وهامش في الأدبيات السياسية السودانية، حيث يشير الأول بالنسبة لكثيرين إلى العنصر العربي المتحكم بإدارة الدولة منذ الاستقلال بينما يشير الهامش إلى غيره من المكونات.

وقد تطرف الإسلاميون إبان حكمهم في توظيف العنصرية وتحويل تنوع السودانيين من نعمة إلى نقمة. لكن من المهم الإشارة إلى أن العنصرية موجودة في السودان من الأصل ومارستها الدولة السودانية عبر حكومات متعاقبة بدرجات مختلفة، بمعنى أنها لم تبدأ مع حكم الإسلاميين، ولكنه مارس احترافية عالية في توظيف العنصرية والتمييز الديني، ما قاد في نهاية المطاف إلى انفصال جنوب السودان... والجهد الذي قدمته الحركة الإسلامية لدفع الجنوبيين للانفصال، لو قدم ربعه باتجاه إدارة التنوع، لكان السودان في وضع مغاير اليوم.

كان قد اكتمل النقاش حول مشروع قانون متكامل لمكافحة التمييز العنصري أعدّ في فترة حكومة عبد الله حمدوك لكنه لم ير النور حتى وقوع انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.

صحيح أن قوىً دولية كانت صاحبة اليد العليا في دفع الطرفين للانفصال، لكن تمهيد الملعب وتسوية الأرضية كان مهمة النظام الحاكم الذي صادفت الأجندة الغربية هوى عنده.

ولا تحتاج عنصرية النظام المخلوع وانحيازه الفاضح إلى حشد الأدلة والبراهين، فهو الذي أسس حزباً وصحيفة خصيصاً لتبني الموقف العنصري إزاء جنوب السودان وتغذية خطاب الكراهية والتمهيد للانفصال. وقد ضم الحزب والصحيفة الناطقة بلسان حاله، صفوة المهوسين بالنقاء العرقي والديني فنشروا في حزبهم وصحيفتهم كراهية كان لا بد أن تؤتي أكلها انفصالاً وتشظياً.

وقبل أن ينفصل جنوب السودان رسمياً في 2011، انفجرت الحرب في دارفور، وكأنها انتقال من حرب في الجنوب إلى حرب في الغرب، ونشأ صراع إثني مسلح قادته حركات متحدرة من العنصر الأفريقي في رد فعل واضح على سياسة الدولة المركزية المنحازة للمكون العربي.

العنصرية موجودة في السودان من الأصل ومارستها الدولة السودانية عبر حكومات متعاقبة بدرجات مختلفة، بمعنى أنها لم تبدأ مع حكم الإسلاميين، ولكنه مارس احترافية عالية في توظيف العنصرية والتمييز الديني، ما قاد في نهاية المطاف إلى انفصال جنوب السودان... والجهد الذي قدمته الحركة الإسلامية لدفع الجنوبيين للانفصال، لو قدم ربعه باتجاه إدارة التنوع، لكان السودان في وضع مغاير اليوم.

انفجرت حرب إبادة في دارفور استهدفت العنصر الأفريقي عبر تجييش وتسليح القبائل العربية المتحالفة مع نظام الإسلاميين. ولا زال البشير يواجه تهم جرائم حرب وإبادة جماعية لم يخضع فيها للمحاكمة بعد.

عنصرية البشير نفسه كانت واضحة في خطابه السياسي. وتحفظ الذاكرة له ذلك التصريح الشهير بعد انفصال الجنوب الذي وصف فيه تنظيم "الحركة الشعبية" بالحشرة الشعبية، والحركة الشعبية هي الحزب الحاكم في جنوب السودان. بل وأبعد من ذلك حينما نقل عنه شيخه عراب الحركة الإسلامية، الراحل ،. والعنصرية أبعدت قيادات بارزة في الحركة الإسلامية من الوصول لسدة قيادة التنظيم.

لسنا هنا بصدد حشد البراهين بقدر حاجتنا لوضع صورة متكاملة لما زرعه تنظيم الإخوان المسلمين في السودان، وها هم السودانيون يحصدون هذا الزرع الفاسد.

وما فعلته الدولة السودانية على مدى السنوات التي أعقبت استقلال البلاد وتوَّجته الحركة الإسلامية بوضع البلاد على فوهة بركان، يُمكِن بدرجة عالية من حسن الإدارة أن يكون بذرة التغيير الذي طال انتظاره، تغيير يقود البلاد إلى وضع إجابات نهائية لهذه الأسئلة الصعبة وفي مقدمتها الهوية، كما يُمكن بدرجة من سوء التحكم في الغضب أن تتحول البلاد إلى بحور دماء وسط انتشار لا محدود للسلاح والمليشيات والتي بلا أدنى شك إن وقعت الواقعة فسوف تدافع كل مجموعة عن أبنيتها.

تفاعل سياسي وإجراءات قانونية

الحادثة العنصرية ضد مدير التلفزيون حظيت بتفاعل وتضامن واسعين، وقوبلت باستنكار بائن، وهذا في حد ذاته ربما يشير لدلائل عافية في الوعي المطلوب، وبذا يُمكن أن تتحول إلى ملحمة سياسية قانونية واجتماعية. وعلى الرغم من أن المحامي صاحب القول العنصري أنكر الحادثة، لكن الذين يعرفونه أكدوا أن هذا صوته، وعلى الرغم من أن الذي شاركه الحديث، وهو سياسي ومحامي معروف، أقر بالحادثة، لكن ذلك لم يسهم ولو بدرجة في طي هذه القضية التي تفجرت في الساحة السياسية والاجتماعية، حيث توالت على نحو منتظم بيانات الكيانات السياسية المنددة بالعنصرية والرافضة لها، والمطالبة باتخاذ إجراءات قانونية ضد مرتكبها. وبالفعل تحركت بعض الكيانات القانونية لاتخاذ إجراءات قانونية. وجدير بالإشارة هنا أن مشروع قانون متكامل لمكافحة التمييز العنصري كان قد اكتمل النقاش حوله في فترة حكومة عبد الله حمدوك لكنه لم ير النور حتى وقوع انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.

حظيت الحادثة العنصرية ضد مدير التلفزيون بتفاعل وتضامن واسعين، وقوبلت باستنكار بائن، وهذا في حد ذاته ربما يشير لدلائل عافية في الوعي المطلوب، وبذا يُمكن أن تتحول إلى ملحمة سياسية قانونية واجتماعية.

قبل أن ينفصل جنوب السودان رسمياً في 2011، انفجرت حرب إبادة في دارفور، استهدفت العنصر الأفريقي عبر تجييش وتسليح القبائل العربية المتحالفة مع نظام الإسلاميين. ولا زال البشير يواجه تهم جرائم حرب وإبادة جماعية لم يخضع فيها للمحاكمة بعد.  

ويمكن القول إنه حتى اللحظة تسير هذه القضية في طريقها الصحيح. أن يخوض دعاة التغيير ودولة المواطنة معركة قانونية حتى النهاية وأن يحرصوا على ألا تنحرف عن مسارها القانوني والتضامني بحيث لا تمس فوهة بندقية بأي حال من الأحوال، خاصة وأن لقمان أحمد تحدث في أول رد فعل على الحادثة أن هذا التوصيف العنصري لا يستهدفه بشكل شخصي بل يستهدف قطاع واسع من سكان السودان، وإن كان حديث لقمان معلوم بالضرورة إلا أن السياق شديد الحساسية.

مقالات ذات صلة

الثابت في كل هذا هو ضرورة النظر للتحولات الكبيرة التي يشهدها السودان وأن تؤخذ بعين الاعتبار. فتتغير خارطة حكم السودان بحيث لا تعود حكراً على مكونات بذاتها كما كانت، ويمضي الجميع نحو بناء دولة مواطنة حقيقة تعج بتنوع إثني وثقافي وديني، ويطوي السودانيون صفحة سؤال "كيف يُحكم السودان"، وهذا بات متاحاً الآن أكثر مما كان قبل بعد سقوط البشير وكم هتفت "ثورة كانون الأول / ديسمبر 2018" بشعارات دولة المواطنة... وأما إذا أخفق النادي السياسي في إدارة هذا الأمر وانجرف الجميع خلف الغضب، فسيكون السودانيون قطعاً أمام المزيد من التشظي والانقسام، وهذا في أفضل الحالات! 

مقالات من السودان

للكاتب نفسه