تصاعد القمع في السودان: ما الأفق؟

تدرس مطابخ القرار الخاصة بالنظام السابق اليوم خيارات استبدال البرهان إذا ما استمر الشارع في حراكه الرافض، وإذا استمر عجز البرهان عن التقدم خطوة، خاصةً وأن الوضع الاقتصادي اقترب من الخروج عن السيطرة. وعناصر النظام السابق لا ترغب في العودة للحكم بشكل مباشر، لكنهم يعملون لحماية أنفسهم من يد العدالة، وللحفاظ على مكاسبهم الاقتصادية التي تحققت طيلة سنوات حكمهم.
2022-02-24

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
لجان المقاومة السودانية

أكمل انقلاب قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان شهره الرابع، بينما لا يزال يترنح، فلا استطاع أن يُمسك بزمام الأمور ويبدأ مساراً جديداً في الفترة الانتقالية "يُصحح" به الوضع كما زعم، ولا تراجع عن قراراته.

بيد أن انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر دفع البلاد للعودة مجدداً للعزلة الدولية، بعدما كانت قد بدأت تنهض بخطوات متثاقلة باتجاه الخروج، وبدأ الجنيه السوداني رحلة تهاوي جديدة أمام الدولار مما دفع السلطة لاتخاذ قرارات زيادة في أسعار بعض السلع والخدمات، تراجعت عن بعضها لكن الزيادة المهولة في الكهرباء ألهبت جميع القطاعات الإنتاجية والخدمية التي ضاعفت أسعارها.

وأسس الانقلاب لموجة نوعية من القمع المفرط في مواجهة المظاهرات السلمية، حيث أحصت منظمة "حاضرين" - المهتمة بضحايا المظاهرات - 82 قتيلاً منذ الانقلاب، ونحو 2900 مصابٍ يتلقون العلاج بمختلف المشافي، وهذا رقم قياسي في مواجهة مظاهرات سلمية، ربما لم يبلغه نظام البشير نفسه.

مخاوف من نكسة

لم يتوقف الانقلاب عند حد قمع المظاهرات، وإنما انتقل إلى استهداف الصحافة والإعلام، وقد تمثلت الانتهاكات المرتكَبة باقتحام مكاتب قنوات فضائية، واعتقالات وسحب تراخيص، ومصادرة أجهزة بث، وضرب المصورين وحلق شعر بعضهم. ورصدت شبكة الصحافيين السودانيين (أبرز مكونات تجمع المهنيين السودانيين) 130 انتهاكاً منذ انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر، 70 منها ضد مؤسسات صحافية وإعلامية، و60 ضد صحافيات وصحافيين. وتواجه الصحافة في السودان بعد الانقلاب مصيراً قاتماً حيث لم يعد يعرف الصحافيون من هي الجهات التي تستهدفهم مع حالة السيولة الأمنية والعسكرية الناتجة من ارتخاء أداء السلطات وتداخل عمل الأجهزة الأمنية فيما بينها، وبات الصحافيون يُقتادون إلى مكاتب ومواقع لم يعتادوا عليها من قبل، ويواجهون أساليبَ غريبة كلياً، ما يُغذي المخاوف من نكسة كبرى في حرية الصحافة تعيد الوضع إلى أسوأ مما كان عليه إبّان حكم البشير، وتعبث بكل ما تحقق من مكاسب في حرية الصحافة.

أسس انقلاب 25 تشرين الأول/اكتوبر 2021 لموجة نوعية من القمع المفرط في مواجهة المظاهرات السلمية، حيث أحصت منظمة "حاضرين" - المهتمة بضحايا المظاهرات - 82 قتيلاً منذ الانقلاب، ونحو 2900 مصابٍ يتلقون العلاج بمختلف المشافي، وهذا رقم قياسي في مواجهة مظاهرات سلمية، ربما لم يبلغه نظام البشير نفسه

كما لم تقتصر انتهاكات السلطات على السياسيين والصحافيين ولجان المقاومة الذين لم يزل منهم في السجون العشرات دون توجيه أي تهم، بل طالت حتى المشتغلين في مجالات الفن والموسيقى، حيث اعتقلت السلطات مؤخراً مطرباً وملحناً قبل أن تطلق سراحهما بعد احتجاز دام لساعات.

أما سياسياً.. فقد بدأ قائد الجيش حملة اعتقالات واسعة طالت أعضاء لجنة تفكيك نظام البشير، ودونت بلاغات جنائية بحقهم، جميعها تتعلق بخيانة الأمانة، والتي تصل عقوبتها في القانون الجنائي السوداني إلى السجن لمدة 14 عاماً. وعلى الرغم من مرور نحو أسبوعين على بعض المقبوض عليهم، فلم تباشر السلطات النيابية أي جلسات تحقيق أو تحرٍ، ما يجعل هذه البلاغات تبدو كيديةً وسياسية أكثر من كونها حقيقيةً، وهذا ما يراه كثيرون.

ويبدو بوضوح أن استهداف لجنة تفكيك نظام "الثلاثين من يونيو 1989" كانت أحد دوافع انقلاب البرهان الأساسية، بتنسيق مع عناصر النظام السابق الذين بدؤوا بالعودة إلى الخدمة بقرارات من البرهان نفسه، بعدما أوقفتهم لجنة التفكيك في وقت سابق. وحتى وكلاء النيابة الذين يباشرون حالياً البلاغات في مواجهة أعضاء اللجنة، سبق وأن أحالتهم اللجنة إلى الصالح العام قبل أن يعودوا بأمر من البرهان، ما يجعل عنصر التشفي في قراراتهم قائماً.

ولجنة التفكيك، وعلى الرغم من الملاحظات والآراء السلبية حولها من قبل قوى الثورة نفسها، لكنها كانت مصدر رعب حقيقي لعناصر النظام السابق. وهي الجهة الوحيدة التي تعرضت لحملات هجوم منظمة. وحينما بدأت الحرب الكلامية بين العسكريين والمدنيين، كانت اللجنة الهدفَ الأول لقائد الجيش. ودون تبرير، قرر البرهان سحب جميع الحراسات الخاصة بعضو مجلس السيادة، محمد الفكي سليمان، الرئيس المناوب للجنة، وسحبت سلطات الجيش جميع الحراسات من مقار اللجنة بالعاصمة والولايات، كما سحبت الحراسة التأمينية من المؤسسات والعقارات التي استردتها اللجنة طيلة فترة نشاطها، وماطلت في تشكيل لجنة استئناف لمراجعة قرارات اللجنة في حينها، رغم المطالب المستمرة، ولم تستجب إلا بعد الانقلاب، حيث تشكلت لجنة استئناف، وقررت شطب عدد من قرارات اللجنة التي استردت بموجبها بعض العقارات والمؤسسات.

بدأ قائد الجيش حملة اعتقالات واسعة طالت أعضاء لجنة تفكيك نظام البشير. استهداف هذه اللجنة كانت أحد دوافع انقلاب البرهان الأساسية، بتنسيق مع عناصر النظام السابق الذين بدؤوا بالعودة إلى الخدمة بقرارات من البرهان نفسه، بعدما أوقفتهم لجنة التفكيك في وقت سابق

الحملات ضد اللجنة بدأت تأخذ شكلاً ممنهجاً من عناصر النظام السابق في أعقاب قراراتها باسترداد عقارات وأراضٍ ضخمة وصلت جملة مساحتها إلى 23 مليون متر مربع وفقاً لتقرير أداء للجنة، كما قررت فصل نحو 2000 موظفٍ بمؤسسات الخدمة المدنية تم تعيينهم حزبياً، وتشير تقارير تحالف "الحرية والتغيير" إلى 150 ألف موظف بالخدمة المدنية، تم تعيينهم بواسطة النظام السابق، ولدى قيادات "الحرية والتغيير" قناعة راسخة، أن دافع انقلاب البرهان هو التخلص من لجنة تفكيك نظام البشير.

والآن، فكل ما حققته اللجنة التي حصدت شعبيةً واسعة، صار في مهب الريح. ليس هذا فحسب، بل كل ما بدأ يتحقق خلال فترة الشراكة المتعسرة صار في مهب الريح، ولا يُسمع إلا صوت الرصاص في مواجهة المظاهرات.

من يتحكم في مقاليد الأمور الآن؟

بالمقابل، فإن الشارع الرافض لانقلاب البرهان مستمرٌ في غليانه ومتشدد في موقفه المطالب بمدنية الدولة كاملةً غير منقوصة، على الرغم من المحاولات الحثيثة لإعادة الشراكة بين العسكريين والمدنيين لم تتوقف، ولا تزال ساعيةً لتحقيق تسوية تحافظ على وجود العسكريين في معادلة الحكم. وتشهد الصالونات المغلقة لقاءات بين العسكريين والمدنيين لإيجاد مخرج من عنق زجاجة الانقلاب.

أولاً: الشارع، عبر لجان المقاومة في العاصمة والولايات، استطاع أن يُمسك بزمام الأمور منذ الانقلاب، إذ حاصر السلطة الانقلابية بالمظاهرات والمواكب المستمرة. صحيح أن الانقلاب لم يسقط بعد بالشكل الكلاسيكي للسقوط، لكنه معطلٌ وغير قادر على التقدم في أي اتجاه بسبب السخط الشعبي المستمر الذي يزيده حنقاً عنفُ القوات النظامية. وهذه لم تعد تحتاج للكذب في بياناتها، فانخرط الجيش نفسه في فض المظاهرات السلمية، واستخدام أسلحةً ثقيلة في مواجهة المتظاهرين، خلّفت عدداً من الضحايا. وهذه ظاهرةٌ لم يصل لها نظام البشير في ذروة أزمته.

ثانياً: انخراط الجيش في القمع مؤخراً فيه إشارة إلى أن السيطرة على القوات النظامية عادت لعناصر النظام السابق، بل إلى العناصر المتشددة منه. ومعلوم أن النظام السابق اعتمد سياسة "التمكين" في جميع مفاصل الدولة، وقد نالت القطاعات العسكرية والأمنية نصيب الأسد من هذه السياسة، وقد جعلها نظام البشير تحت سيطرته. ولأن طبيعة تركيبة القوات النظامية تعتمد على التراتبية فقد جرت السيطرة على القيادات التي تحمل الرتب العليا.

ولأن القوات النظامية هي آخر معاقل النظام السابق فليس من شك في أنه سيقاتل بها حتى آخر رمق، وليس بالضرورة هنا أن يكون ذلك بعلم أو موافقة رأس السلطة، قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، الذي تحول بعد الانقلاب إلى بيدق في يد المجموعات التنظيمية المرتبطة بالنظام السابق.

وعلى الرغم من هذه المطواعية، فإن مطابخ القرار الخاصة بالنظام السابق ربما تدرس اليوم خيارات استبدال البرهان إذا ما استمر الشارع في حراكه الرافض، وإذا استمر عجز البرهان عن التقدم خطوة، خاصةً وأن الوضع الاقتصادي اقترب من الخروج عن السيطرة، وعناصر النظام السابق لا ترغب في العودة للحكم بالشكل المباشر، لكنهم يعملون بجهد لحماية أنفسهم من يد العدالة ثم للحفاظ على المكاسب الاقتصادية التي تحققت طيلة سنوات حكمهم - أو هو على الأقل ما يرجونه في الوقت الحالي. لذا يحاولون سباق الزمن في تقديم بدائل، تضمن لهم الحماية، وتكون بالمقابل مقبولةً أكثر عند الشارع الثائر.

وأي سيناريو يُخرِج البرهان من المشهد يفرض سؤالاً مُلِحّاً حول مصير نائبه، قائد "الدعم السريع"، محمد حمدان دقلو المعروف بـ "حميدتي"، الذي يعلم أن ذهاب البرهان ربما يقوده إلى مصير مجهول. فهو يدرك أن الجيش في نهاية الأمر سوف يوفر مخرجاً لقائده كما حدث مع البشير مثلاً، لكن هل يوفر مخرجاً لزعيم قوات تنافس الجيش في القوة العسكرية والاقتصادية والنفوذ؟ بل هل يظل حميدتي مكتوف الأيدي لينتظر مصير البرهان حتى يُقرر مصيره هو؟ وأي موقف سوف تتخذه الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا إذا ما حدث هذا؟

أخذت الحملات ضد اللجنة شكلاً ممنهجاً من عناصر النظام السابق في أعقاب قراراتها باسترداد عقارات وأراضٍ ضخمة وصلت جملة مساحتها إلى 23 مليون متر مربع وفقاً لتقرير أداء للجنة، كما قررت فصل نحو 2000 موظفٍ بمؤسسات الخدمة المدنية تم تعيينهم حزبياً، وتشير تقارير تحالف "الحرية والتغيير" إلى 150 ألف موظف بالخدمة المدنية، تم تعيينهم بواسطة النظام السابق.

انخراط الجيش في القمع مؤخراً يشير إلى أن السيطرة على القوات النظامية عادت لعناصر النظام السابق، بل إلى العناصر المتشددة منه. ومعلوم أن النظام السابق اعتمد سياسة "التمكين" في جميع مفاصل الدولة، وقد نالت القطاعات العسكرية والأمنية نصيب الأسد من هذه السياسة، وقد جعلها نظام البشير تحت سيطرته. 

يبقى أن الكرة الآن في ملعب القوى المدنية التي بدأت تتحرك بشكل موسع للملمة أطرافها المتشرذمة بفعل تجربة حكم "الحرية والتغيير، على الرغم من أن بعض تلك الأطراف، وعلى رأسها الحزب الشيوعي، رافضةٌ لأي شكل من أشكال الوحدة بين قوى الثورة. لكن الحراك السياسي المتصاعد للجان المقاومة ربما يُجبرها على اللحاق بها، والوصول معها إلى تسوية توافقية مبنية على عهد جديد بين الأحزاب ولجان المقاومة بعدما اتسعت الهوة بينهما.

صعود القوى الجديدة المتمثلة في "لجان المقاومة" وشعبيتها الواسعة سوف يضع الأحزاب السياسية في امتحان انتقال حقيقي. لكن تبدو محاولة العودة إلى الشراكة بين المدنيين والعسكريين بالشروط السابقة ذاتها، وأي تسوية تبقي على الوضع معلقاً كما هو، لم تعد قابلةً للحياة.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه