للاستبداد أوجه عديدة. بعضها قد يتخذ شكل مهازلَ يمكنها أن تتحول عند اللزوم إلى كوارث. واحدةٌ منها هي الانتخابات النيابية أو التشريعية التي تنظّم كل بضع سنوات في بلادنا، وليس مفهوماً أبداً ما هي وظيفتها، خصوصاً في بلدان تنتشر فيها الميليشيات والأسلحة، لتقول هي كلمتها الأخيرة...
كيف يمكن تحقيق التغيير، وأسئلة أخرى قلقة..
19-11-2020
يمكن بالطبع إبراز عدة معانٍ لما جرى في انتخابات العراق التشريعية منذ أيام، من إن عدد المشاركين بالاقتراع لم يتجاوز في أحسن الأحوال الـ 43 في المئة ممن يحق لهم التصويت. ويدور سجالٌ مضنٍ وحسابات معقدة حول ما إذا كان الرقم فعلياً هو 38 في المئة، وحول مدى شرعية نتائج مستندة إلى تصويت أقلية من الناخبين، بين رأي أنيق وقانوني يقول إن التصويت حق يمارسه المواطن أو يتركه، وأنه ليس إلزامياً (في الانتخابات الأخيرة بلبنان وصلت نسبة المقترعين في بعض الأماكن إلى 11 في المئة ممن يحق لهم التصويت!)، وبين مشدّدٍ على أن هذه النتيجة الهزيلة تعني إن هناك مقاطعةً واسعة للانتخابات، وهي دعوةٌ وجّهت للناس كشكل من أشكال الاعتراض، وبين من يعتبر إن نجاح تيار السيد مقتدى الصدر في حصد نسبة أغلبية من المقاعد النيابية هو في واقع الأمر تصويتٌ ضد الميليشيات والحركات المقربة من إيران أو المدارة من قبلها، وإن ذلك هو المغزى الأساس.
ولكن وفي الأثناء، يثور الخاسرون، ويعلنون رفضهم لنتيجة الانتخابات، ويقولون أنه شابها التزوير، ويتظاهرون ويعتصمون.. ويترقب الناس مآل هذه المعركة، ويترصدون الانزلاق إلى العنف المسلح الذي قد يلي الخطوات الاعتراضية والرافضة تلك.
وإن كان الرابح في العراق هو تيارٌ يستند هو الآخر إلى الدين، ويحظى بميليشيا مسلحة وكثيرة العدد هي الأخرى، ويصعب إرهابه بالعنف الذي يمكن أن يطاله فيما لو أصر على حيازة نصره، فمن المستغرب أن تخرج أصواتٌ تنادي بتشكيل بدائلَ انتخابية ديمقراطية وتقدمية ومختلفة عن المشهد السائد، كاللوم الذي يحيط ببعض تيارات الانتفاضة الشبابية الشعبية التي انفجرت في 2019، من أنها لم تنجح في فرض نفسها لتشرذمها. أحقاً؟؟!! ولو كانت نجحت وحازت أغلبية المقاعد النيابية (على فرض، وفي عالم المدينة الفاضلة)، فهل كانت مجموعاتُ الميليشيات المسلحة على اختلاف مشاربها، تلك التي تتبع إيران أو تلك التي تناهضها، في السر إن لم يكن في العلن، ومعها المافيات المسلحة هي الأخرى بالإيمان والتقوى المزعومين، وبالآربي جي وكواتم الصوت... هل كان أولئك سيرضخون للعبة "الديمقراطية"؟ ألا يقع كل يوم اختطافٌ واقتناص واغتيال لكل من يرفع صوته؟ أليس المشهد المتوقع ساعتها أن يغلق شابان مسلحان المجلسَ النيابي، طاردين منه إلى بيوتهم هؤلاء الفائزين؟ أيُّ لعبة فاقدة للمعنى هذه التي تدور هنا؟ وما المتعة التي يجنيها هؤلاء الذين ينظمونها؟ لعلهم لم يجدوا سوى هذه الآلية لتنظيم الإدارة الفوقية للحياة السياسية، تلك التي تسمح لهذا وذاك أن يدّعي أنه يمثل الشعب وينطق باسمه، بينما قوى ما يقال له "الأمر الواقع"، هي من يقرر الواقع! وفي غالب الأحيان تجري مساومات في الكواليس لتنظيم التوترات وضبطها، تنتج عنها تسويات هي أسرارٌ يتكهن المحللون في فك رموزها وتخمين ملامحها، بينما يسود على السطح تطاحنُ الحياة وحاجاتها الأساسية، والغرائز واندفاعاتها البهيمية.. ويقال بتسامح متعالٍ من قبل "العارفين" إن الناس "يتلهّون"، فيما الأمر يتقرر في مكان آخر.
وسيحدث الأمر نفسه في لبنان الذي تقرر أن تجري انتخاباته النيابية قريباً. أحقاً؟! يتضور الناس جوعاً، ويتلوون حيرةً وراء الدواء والوقود، بعدما أخلوا المدارس من أولادهم، ولكنهم سيصوتون؟ هل بغاية أن يجري "تدوير" هؤلاء السادة – أو أبنائهم؟ هل لقياس قوة وشعبية كل فصيل، بينما يُعلن الفرقاء إنهم "شوارع" متماسكة ومحصنة، ويعلن حزب الله إن لديه جيشاً جراراً من مئة ألف مسلح تحت الطلب. أيُّ انتخابات هذه؟! ولو فاز أنقى الناس وأخلصهم وأفهمهم، فهل سيحاورون البندقية؟! كفى عبثاً!
حملة الانتخابات المغربية: تَعَدَّدت الملصقات والبرنامج واحد
07-09-2021
تونس على حدود الشرعية الديمقراطية
11-09-2021
بل إن المسخرة نفسها تسود في البلدان المستقرة والخالية من البنادق المنتشرة بين أيدي الناس، أو المنتظمة في جيوش موازية: في تونس والمغرب مؤخراً، على سبيل المثال. في الأولى يتمكن رئيس الجمهورية من تعليق المجلس النيابي، ومصادرة كل صلاحياته، مستغلاً سوء أدائه والنقمة الشعبية عليه، ولا يبدو الرئيس مضطراً لتعيين أفق زمني للتعليق ذاك ولا آليات للخروج منه. وفي المغرب يلعب الناخب الأكبر، الملكُ، دور الصوت المرجّح للتشكيلة المطلوب وصولها بعدما تُرك الوقت الكافي لافتضاح فساد وقلة كفاءة المغضوب عليهم، الأكثريين سابقاً.
فما الوظيفة، حتى الشكلية، لهذه "العجقة"؟ هل محاكاة الدول الغربية، أو إرضاؤها، وهي المتمسكة ببعض "الأصول" التي تشبه ما هي معتادةٌ عليه، وتعترف به كممارسة شرعية، حتى ولو كانت موقِنةً من خوائها. وهذا قد يبقى مقبولاً باعتباره "إعادة تأهيل" لقوًى وأشخاص مُعرّفين. بعضهم يتقن "اللعبة" ويعرف أصولها وشروطها، وبعضهم الآخر – كما حدث مع "حزب حركة النهضة" في تونس – يفقد توازنه فيسقط.
هذه المسخرة الخاوية المنتشرة هنا، والمدعوة انتخابات وديمقراطية وتمثيل وسلطة وفصل سلطات، وحتى دولة... (خصوصاً الدولة في بلادنا) إلى آخره.. تُدرّس في الكتب سيئة المستوى والبدائية. وهو نفسه، هذا الدرس والتدريس، ليس سوى فصل من المأساة القائمة، والتي تجعل السياسة قذرةً بنظر الناس، أو تجعلها مبهَمةً ومن اختصاص "السياسيين".
مأزقٌ بحق، إذ تنكشف رداءة وتفاهة العمليات السياسية، التمثيلية والانتخابية.. ولكن أي أدواتٍ إذاً للوصول إلى تغيير الوضع القائم، بالغ السوء والبشاعة؟ وحقاً: "ما العمل؟".