مع الحديث عن إحباط محاولة انقلاب، وإغلاق الطريق الهام الذي يربط السودان بمينائه الرئيسي إلى العالم الخارجي في بورتسودان، على ساحل البحر الأحمر، ودخول البلاد في حالة من السيولة الأمنية مع استعار التضخم... عاد الحديث مجدداً عن الأزمة الشاملة التي يعيشها السودان.
وكان رئيس الوزراء عبد الله حمدوك قد طرح مبادرة في حزيران/ يونيو المنصرم أسماها "خارطة الطريق إلى الأمام" بعد أن شخّص عناصر الأزمة، من صراعات وانقسامات بين العسكريين والمدنيين من جهة، وبين عناصر كل مكون من المكونين العسكري والمدني من جهة أخرى، اللذان تقوم عليهما الفترة الانتقالية الحالية بعد الإطاحة بنظام الإنقاذ ورئيسه عمر البشير قبل أكثر من عامين. حمدوك في خطابه ذاك أرجع الأزمة إلى غياب المشروع الوطني المتوافق عليه بين مختلف مكونات السودان السياسية، وعدم النجاح في وضع لبناته طوال فترة تزيد على العقود الستة هي تاريخ السودان دولة مستقلة.
ويبدو أن مسلسل الفشل هذا لا يزال مستمراً، فعلى الرغم من أن حمدوك في تشخصيه ذلك كان صريحاً لدرجة القول إن السودان موجه بتحدٍ أن يكون أو لا يكون، إلا أن الآلية التي قام بتشكيلها للخروج بحل سياسي في مواجهة هذا الوضع تبدو أقصر قامة في مواجهة الوضع المعقد، كما إن الحاضنة السياسية للوضع الانتقالي الحالي وهي قوى الحرية والتغيير ("قحت") لا تبدو أحسن حالاً.
ففي يوم الثامن من شهر أيلول/ سبتمبر الحالي، استضافت قاعة الصداقة في الخرطوم تجمعاً لإشهار الإعلان السياسي الجديد لـ"قحت"، وهي تجمع من الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني التي تمكنت من الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، ومن ثم أصبحت الحاضنة السياسية للوضع الانتقالي الجديد بعد إبرامها للوثيقة الدستورية التي تحكم هذه الفترة وتقوم على شراكة بين العسكريين والمدنيين.
"قحت" الجديدة
يصف موقعو الإعلان أنه عملية تطوير أساسية ل"ميثاق الحرية والتغيير" بعد تجربة الحكم التي استمرت عامين، لأن الوثيقة الأولى كانت تُعلي من عمل مقاومة النظام السابق، بينما أصبحت هي الآن الحاضنة السياسية للحكومة التي يترأسها الدكتور عبد الله حمدوك وعليها ابتدار الحلول.
وفي الوقت الذي نجح فيه الإعلان الجديد في إعادة حزب الأمة القومي إلى حظيرة "قحت"، وكان قد جمّد نشاطه هناك، إلا أنه يُلاحظ غياب تنظيمات سياسية أخرى لا تقل وزناً مثل الحزب الشيوعي الذي أصبح معارضاً لـ"قحت" والحكومة، وكذلك غياب كلاً من حركتي العدل والمساواة وجيش تحرير السودان الدارفورتين على الرغم من مشاركتهما في الحكومة. على إن الغائب الأكبر عن الاحتفال كان المكون العسكري الذي يشارك في السلطة.
يمكن لعملية الانقلاب المجهضة أن تسهم في إعادة ترتيب المشهد السياسي الحالي، وإحداث تناغم أكبر بين العسكريين والمدنيين لعله يدفع بقضية الانتخابات إلى مقدمة الأولويات، وهي بقي لها أقل من عامين، وتحتاج إلى إجراء تعداد سكاني وقانون للانتخابات وغير ذلك من ترتيبات فنية...
طرح رئيس الوزراء منذ أشهر "خارطة الطريق إلى الأمام" مرجعاً الأزمة إلى غياب المشروع الوطني المتوافَق عليه بين مختلف مكونات السودان السياسية، وعدم النجاح في وضع لبناته طوال فترة تزيد على العقود الستة هي تاريخ السودان كدولة مستقلة.
في فترة تسعة أيام بالضبط، واجهت القوى المنضوية تحت الإعلان السياسي الجديد أول تحدٍ جدي لها، وهو تحد لم يشهده السودان من قبل على طول عهده بالأعمال المناوئة للدولة، من الإضرابات بمختلف أنواعها إلى المظاهرات وحتى العمل المسلح. ويتمثل هذا التحدي في إغلاق طريق الخرطوم - بورتسودان، وهو الشريان الرئيسي للبلاد الذي يربط العاصمة ومناطق الإنتاج بالميناء الرئيسي في بورتسودان، وأخرى صغيرة على ساحل البحر الأحمر.
مطالب الشرق التي رفعها زعيم قبيلة البجا سيد محمد الأمين ترك، بدأت بالدعوة إلى إلغاء اتفاق مسار الشرق المضمّن في "اتفاق جوبا"، لأن الذين تفاوضوا ووقعوا على ذلك الاتفاق لا يتمتعون بالثقل السياسي والاجتماعي المطلوب في مناطق شرق السودان، ثم تطور إلى مطالب ذات طبيعة عامة، مثل دعوة القوات المسلحة إلى تولي السلطة، واستقالة حكومة حمدوك، وإلغاء عمل لجنة تفكيك التمكين المكلفة بإزالة آثار نظام الإنقاذ في كل المجالات.
نجح الإعلان السياسي الجديد ل"قوى الحرية والتغيير" في إعادة "حزب الأمة" إلى التحالف، إلا أنه يُلاحظ غياب تنظيمات سياسية أخرى لا تقل وزناً مثل الحزب الشيوعي الذي أصبح معارضاً لـ"قحت" وللحكومة، وكذلك غياب حركتي "العدل والمساواة" و"جيش تحرير السودان" الدارفورتين على الرغم من مشاركتهما في الحكومة.
المشكلة التي تفجرت مؤخراً ظلت تشتعل منذ حوالي العام، منذ التوقيع على اتفاق جوبا في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي. وجاء أول تحد عندما تمّ رفض تعيين والٍ لولاية كسلا، محسوبٍ على المجموعة التي وقعت على اتفاق جوبا، الأمر الذي دفع الحكومة لتجميد ذلك التعيين. لكن لم يحدث اختراق سياسي للأزمة التي ظلت تراوح مكانها لعدة شهور، حتى اشتعلت مجدداً وفي أول تطور من نوعه في تاريخ السودان: أن يتحدى زعيم قبلي الحكومة المركزية.
أول الأسئلة
مشكلة الشرق التي أدت إلى التطورات الأخيرة تثير أول هذه الأسئلة - ولكنها لا تقتصر عليها فقط - وتتعلق بمدى تمثيل السياسيين للأقاليم التي يدّعون أنهم يمثلونها. أحد مشاكل اتفاق جوبا أنه جمع حركات مسلحة تقاتل الدولة مثل حركات دارفور والحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال التي تنشط في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. لكن، ولتوسيع الدائرة وإعطاء الانطباع أن كل القوى المعارضة التي كانت تتجمع تحت راية الجبهة الثورية، ضُمّت إلى الاتفاق مجموعات تمثل شرق ووسط وشمال السودان، على الرغم من أنها لم تحمل سلاحاً، وذلك لإعطاء الجبهة الثورية صبغة وطنية شاملة للبلاد.
وفي واقع الأمر، فإن التساؤل عن مشروعية التمثيل تطال حتى حملة السلاح، لأنه ليس هناك مقياس لمعرفة مدى قبول القواعد الشعبية بهذه الزعامات التي لجأت إلى البندقية لمقاتلة نظام الإنقاذ. ويعزز هذا التساؤل تعدد الحركات حاملة السلاح مثل حركات دارفور التي أصبح عددها بالعشرات على الرغم من أنه يفترض أن يجمعها هدف واحد. وبسبب قضية شرعية التمثيل هذه التي حازت عليها بوضع اليد، فقد تمّ إبرام اتفاق سلام، وهو الاتفاق الذي أثار ثائرة الأقاليم الأخرى في الشرق والوسط والشمال، لأنه نظر إليه على أساس أنه صفقة بين قيادات متمردة والحكومة وإعطاء امتيازات لإقليم على حساب الأقاليم الأخرى. كما إنه لم يترافق مع بعد شعبي، أو دليل على وجود تعاطف من الإقليم الشمالي، وإلى حد ما إقليم الوسط، مع مبدأ رفض اتفاق جوبا الذي يراه هؤلاء أنه تبرع بالكثير من الكرم الحاتمي على دارفور وولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وإعطاء الأولى حكماً فيدرالياً، والاثنتين الأخريين حكماً ذاتياً حتى قبل عقد مؤتمر للحكم والإدارة لتفحص الخيارات، واستطلاع الرأي الشعبي قبل التقرير بشأن الحكم ومؤسساته.
وبهذا الترتيب، فقد أصبحت درافور بولاياتها الخمس إقليماً يتمتع بالحكم الفيدرالي، وتم تعيين أحد قادة الحركات وهو مني مناوي حاكماً لها، وربما يتبعها شرق السودان بولاياته الثلاث، وذلك من خلال وضع اليد واستخدام مختلف وسائل الضغط واستغلال حالة السيولة وضعف الحاضنة السياسية للحكومة لتحقيق ذلك الهدف.
برز تحد لم يشهده السودان من قبل على طول عهده بالأعمال المناوئة للدولة، من الإضرابات بمختلف أنواعها إلى المظاهرات وحتى العمل المسلح. فقد أغلق طريق الخرطوم - بورتسودان، وهو الشريان الرئيسي للبلاد الذي يربط العاصمة ومناطق الإنتاج بالميناء الرئيسي في بورتسودان، وبأخرى صغيرة على ساحل البحر الأحمر. وكان ذلك اعلان عن مطالب الشرق التي رفعها زعيم قبيلة البجا.
مشكلة الشرق التي أدت إلى التطورات الأخيرة تتعلق بمدى تمثيل السياسيين للأقاليم التي يدّعون تمثيلها. وهذا التساؤل يطال حتى حملة السلاح، فمن غير المعلوم مدى قبول القواعد الشعبية بهذه الزعامات التي لجأت إلى البندقية لمقاتلة نظام الإنقاذ. ويعزز التساؤل تعدد الحركات حاملة السلاح مثل حركات دارفور التي أصبح عددها بالعشرات على الرغم من أنه يفترض أن يجمعها هدف واحد.
محاولة الانقلاب العسكري الأخيرة المجهضة لن تغير كثيراً في المشهد السياسي الحالي لأنها تفتقر إلى القراءة الرشيدة التي تشير ببساطة إلى صعوبة، إن لم نقل استحالة القيام بأي محاولة انقلابية، وذلك بسبب تعدد حَملة البنادق، من الجيش إلى الدعم السريع إلى الحركات المسلحة التي أصبح جزءٌ منها مشاركاً في الوضع الحالي. هذا إلى جانب عاملين آخرين: إن الوضع الإقليمي الذي يتصدره الاتحاد الأفريقي أصبح مناوئاً لفكرة التغيير عبر الانقلابات العسكرية، وأهم من ذلك، الموقف الدولي والوضع الحالي في السودان الذي بدأ إعادة نسج علاقاته مع المجتمع الدولي والمؤسسات المالية العالمية، وهو ليس في وارد المغامرة بالتضحية بما تحقق، وبالعودة إلى مربع العزلة والحصار الذي ذاق مرارته.
وأهم من ذلك أن محاولة إعادة إنتاج التجربة المصرية، أو إلى حد ما التونسية، تبدو ضعيفةً للغاية بسبب اختلاف الظرف السوداني. ويتمثل ذلك الاختلاف في أن القوى الشبابية التي كانت رأس الرمح في الحراك الشعبي الذي تمكن من الإطاحة بالبشير تحمّل العسكريين من القوات المسلحة، وقوات الدعم العسكري المسؤولية عن الفض الدموي للاعتصام أمام القيادة العامة قبل أكثر من عامين. كما إن فشل لجنة التحقيق في تلك الواقعة في تقديم تقريرها حتى الآن عزز من قناعات هؤلاء الشباب بوجود تواطؤ على لفلفة الموضوع. وما لم يتم التوصل إلى توافق ما بصورة مرضية بخصوص قضية فض الاعتصام هذه، فإنها ستظل عائقاً أمام تسيّد العسكريين الكامل للمشهد السياسي في السودان.
لكن من الناحية الأخرى، فإن عملية الانقلاب المجهضة يمكن أن تسهم في إعادة ترتيب المشهد السياسي الحالي، وإحداث تناغم أكبر بين العسكريين والمدنيين يمكن أن يدفع بقضية الانتخابات إلى مقدمة الأولويات، وهي بقي لها أقل من عامين، وتحتاج إلى إجراء تعداد سكاني وقانون للانتخابات وغير ذلك من ترتيبات فنية. لكن على الرغم من ذلك، تظل الأسئلة والتحديات الأساسية تواجه الدولة السودانية، وإعادة تأسيسها قائمةً، وعلى رأسها قدرة القوى السياسية على التعامل مع هذه التحديات، واستيعاب قوى التغيير الشبابية ومطالب الأقاليم في السلطة والثروة، علماً أن مختلف القوى السياسية القديمة تعاني من حالة تجريف واضمحلال في الوقت الذي لم تحقق القوى الجديدة وجوداً يذكر حتى الآن.