رفاق اللحظات الأخيرة

من الإسكندرية إلى القاهرة إلى السويس، كانوا وكانت "يناير". 1050 شهيداً مسجّلون بشكل رسمي في الدفاتر على مدار الثمانية عشر يوماً، لكلٍ منهم رفيق أو أكثر، شهدوا ما جرى، وأصبحوا جزءاً من الرواية، على اختلاف مواقعهم وأسمائهم. "رفاق اللحظات الأخيرة"، يعيشون وسط الجمع، كأن لا فارق يفصل بينهم وبين الآخرين، كأنهم لم يفقدوا من كان إلى جوارهم.
2021-03-11

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
| fr
ضياء العزاوي - العراق

هذا المقال هو مساهمة "السفير العربي" في ملف مشترك أنجز في إطار نشاط "شبكة المواقع الإعلامية المستقلة حول العالم العربي".

كانت لحظةً أخيرة غير عادية، كانت حارقةً، محمومةً بهتاف وصراخ وأياد مجرمة ورؤوس غير محنية، جاءت مخلوطةً بالطعم النافذ للدم، والرائحة الخانقة للغاز واحتراق الرصاص. جاءته وهو لم يكن فيها لوحده، اختار القدر ألا تصيب الرصاصة غيره على امتداد هذا الحيز الضيق الذي لا يزيد عن متر واحد، فسقط هو، وبقي هذا الذي كان يقف إلى جانبه شاهداً مشدوهاً، ينظر إلى من فارقه ويقول بقلب مفتور، "شهيد"، ولا يدرك أن الحياة تنظر له بحسرة، وتقول سراً: وأنت من اليوم وإلى الأبد ستبقى "رفيق اللحظة الأخيرة".

رفيق أمسك بكف صديقه يجذبه للخلف والثاني يجذبه للأمام، رفيق يصرخ ويحمل هذا الذي لا يعرفه، ويجري محاولاً الإنقاذ، وهو يصرخ "وسع طريق"، رفيق أعمى الغاز عينيه، وحين فتحهما رأى آخرين يحملون فتاً غارقاً وجهه بالدم، وبعد لحظات أدرك ما جرى: هذا رفيقي الذي أصريّت عليه ألا يتقدم، فلماذا أفلت يدي؟ ولماذا تخلفتُ؟ رفيقة أخيرة هي الأم التي تجرأت، وبدلاً من أن تعود من سوق الخضار بصحبة ابنها مباشرة إلى البيت، انخرطت بالمظاهرة القريبة أمام قسم الشرطة، رفيق هو الأخ الذي عاد من السفر خصيصاً حتى يشارك أخاه اللحظة، وآخر خرج ليبحث عمن يكبره، وقال له، وهو بين الحياة والموت "جئت لأبحث عنك"، رفيقة كانت تعد كوباً من الشاي لصديقتها حتى يستكملوا الدرس حين وجدتها تسارع على وقع الصوت المدوي إلى الخروج للشرفة، فلحقت بها لتشاهد المنازعة الأخيرة.

مقالات ذات صلة

من الإسكندرية إلى القاهرة إلى السويس، كانوا وكانت يناير، 1050 شهيداً مسجلون بشكل رسمي في الدفاتر على مدار الثمانية عشر يوماً، لكلٍ منهم رفيق أو أكثر، شهدوا ما جرى، وأصبحوا جزءاً من الرواية، على اختلاف مواقعهم وأسمائهم. كانت "جمعة الغضب" بالنسبة لأغلبهم التجربة الأولى، ولدى البعض الأخيرة. هناك من غضب من الموت واستمر، وهناك من اختزله الموت فانكفأ، ثم جاءت الأحداث على التوالي تبتلع الجمع الواسع، تهضمه وتعيد تشكيله. وفى وسط هذا الزحام ذابت شارة "رفاق اللحظات الأخيرة"، يعيشون وسط الجمع كأن لا فارق يفصل بينهم وبين الآخرين، كأنهم مثل من لم يفارقوا بيوتهم، أو من مضوا دون أن يفقدوا من كان إلى جوارهم. يعيشون كأنهم وقد ذابت همومهم، واختلطت بأحلامهم على مشارف حياة جديدة، ذابوا كشهود، وبقيت الدهشة معلقةً في حسرة عند كل زاوية.

كفّان يتجاذبان

في صباح 28 كانون الثاني/ يناير 2013، وقف سكان شارع "مسجد السلام" في "سيدي بشر" يتابعون بكاميرات هواتفهم الحدث المنتظر، إسوةً بالعام السابق، متظاهرو أولتراس الزمالك "وايت نايتس" يهتفون "الشعب يريد حق الشهيد" و"في الجنة يا حسين"، وفي مساء نفس اليوم تأتي مجموعة متنوعة، وتشهد عمارة 42 أجواءً خاصة، حيث حرص والد شهيد جمعة الغضب "حسين طه" على إحياء ليلة ذكر وعشاء وألفة، تجمعه وزوجته وابنه وأصدقاء الشهيد. زرته وصديقةً لي في اليوم نفسه هذا العام فقال: "كل شيء تغير، لم تعد هناك فرصة ـ لأسباب كثيرة عامة وخاصة ـ أن أجمعهم سنوياً كما كنت نذرت من يوم صلاة الجنازة، بعضهم يتصل هاتفياً وبعضهم غاب تماماً، لا ألومهم، هؤلاء الشباب يحق لهم أكثر من غيرهم أن يتغيروا.

تريني والدة الشهيد بعضاً من صور تلك الأمسيات. أسألها، ولكن أين "هشام" بين هؤلاء؟ ينظران لبعضهما البعض، يقول الأب: "حاولت أن أحافظ على التواصل قدر ما استطعت، لكني احترمت مشاعره وانسحبت".

يحدثني الأخ الأصغر: "هشام اختفى عقب الاستشهاد بشهور قليلة، لم أعد أستطيع الوصول إليه،على الرغم من أنني التحقت بكلية الحقوق مثله ومثل حسين أخي، كنت أود أن أخبره أن شخصاً قد أرسل لنا فيديو صُوّر من أمام مسجد القائد إبراهيم، وفيه المشهد الذي انهار، وهو يحكيه لنا، وقرر من بعدها الامتناع عن زيارتنا".

أمام كاميرا إحدى البرامج في حزيران / يونيو 2011، ظهر هشام للمرة الأخيرة. اتصل به والد الشهيد، وطلب منه مشاركتهم التصوير، وطلب منه فريق البرنامج أن يكون التصوير عند ساحة المعركة، من أمام مسجد القائد إبراهيم.

"ما إن انتهت الصلاة حتى بدأت الهتافات، وفي الوقت نفسه إطلاق كثيف لقنابل الغاز التي كنا نجرّبها للمرة الأولى، كان العدد كبيراً جداً، ولكن أيضاً كان عدد المجندين كبيراً، كَوّنوا بزيهم الأسود ثلاثة أضلع لمربع، وكنا نحن المتظاهرين نشكل الضلع الرابع باتخاذ قرار بالتوجه نحوهم والتحرك لزحزحتهم. في لحظة، وبينما نحن نتقدم شعرتُ بأن الخطر يزداد، لأنهم يرفضون التقهقر، جذبت "حسين" من يده، وقلت له الأفضل أن نرجع قليلاً، وكان رأيه أن نتقدم مع المتقدمين حتى ينفتح الضلع المواجه لنا، انتهى الكلام، وبدأ إطلاق الرصاص، والغاز يزداد حتى اضطررت أن أغمض عينيَّ، فتحتهما وكنا قد تباعدنا، لكني لمحت صديقي على الأرض يخرج الدم من صدره كنافورة، وآخرون يحملونه بسرعة ويجرون للخلف".

دامت رحلة الأسرة للوصول إلى المكان الذي نقل إليه الشهيد ثلاثة أيام، فالشاب الشاهد الوحيد فقد القدرة على التصرف أو تتبع الإسعاف، وعندما خرجت الجنازة من مستشفى السلام، مشى وسط الآلاف، يصلّون على 52 شهيداً، والتقى هناك بكل أصدقاء طفولة "حسين" ممن كان يحكي له عنهم، وأنهم مختلفون عنه، وليست لديهم نية للتظاهر.

حكى "رامي" و"مصطفى" وكل من استطعتُ التواصل معه من مجموعة شباب مدينة "طوسون" في أبوقير بالإسكندرية، حكوا عن جلستهم التي لم تتغير طوال تلك السنوات عند "سلالم عباد الرحمن". يقول مصطفى: "هذه هي جلستنا منذ كنا بالإعدادية، الآن أغلبنا خرج من المدينة للعمل أو السفر أو الزواج لكننا نعود بالإجازات والأعياد لزيارة أهلنا ونلتقي هنا".

 صورة "حسين" لا تزال تتوسط جلستهم، يجددون "اللافتة" كل عام حتى لا تبهت ألوان الصورة، ويقول: "نحن مدينون لهذه الجلسة، لم نتمكن لشهور بعد استشهاده من الاجتماع، لم ننسَ كيف كنا نجلس هنا. لم نشارك في الثورة إلى أن اقترب منا شخص يحمل محفظة، وقال لنا هل تعرفون "حسين طه؟".

ينتظر "عبد الرحمن" مولوداً بعد 7 أشهر. قال سأسميه "حسين". ليست لديَّ معلومات عن "هشام"، كنت أتمنى أن أوصلك به ونطمئن عليه، لم ألتقيه إلا في الجنازة، لكن شعرت أن حسين قرر أن يجمعنا، نحن لم ننزل معه، و"هشام" فعل ما يستطيع وعاش تجربة صعبة، لكن حين أفكر الآن، أرى نفسي تخليت عن صديقي، ولم يكن كتفي إلى جانب كتفه في يوم كهذا. أسأل: "هل لو كانت مجموعتنا الكبيرة التي يجمعنا فيها حب الكرة موجودةً في التظاهرة، هل كنا سنتمكن من تفادي الرصاصة التي قتلته؟ ثم استغفر الله، وأقول: أقدار".

يبتسم الأب، وأنا أنقل له الحوار الذي استمعت إليه من شباب "أبوقير"، ويقول: هم رفاق الطفولة، كان يجمعهم بحسين حب الكرة، أما "هشام" فجمعهما حب البلاد وكره الفساد، وبعد وفاته اجتمع لدي كل أصناف المحبين إلى حد اختلاط الأمر على شباب الأولتراس، اختلطت القصة على كثير منهم، يتصل بي شباب من أولتراس أهلاوي ويقولون لي "مش هنسيب حق حسين والـ74 شهيداً"، في إشارة لمذبحة ستاد بورسعيد، ثم أُفاجأ منذ أعوام ببعض شباب أولتراس الزمالك يتصلون ويعتبرون "حسين" أحد شهداء الدفاع الجوي. بالنسبة لي كل شاب شارك في يناير هو من رائحة حسين ابني".

قبل إنهائي للزيارة، يطالبونني بطمأنتهم عن "هشام" في حال الوصول إليه، تقول أم الشهيد بحسرة وتعاطف معه: "بعد الاستشهاد بأيام، حضر عدد كبير من الشباب، جميعهم عرّفوا بأنفسهم عدا واحداً فقط، وكان ينظر دوماً للأرض، وخلال حديثنا معهم أخبرتهم أن صديقاً لحسين اتصل قبل صلاة الجمعة، وأصر أن أوقظه له، ولم أكن أعرف أنهم قرروا المشاركة بالمظاهرات. عندها انفجر هشام بالبكاء، وقال لي: "أنا آسف، أنا هشام يا طانط". "أقدار" كانت الكلمة الأخيرة في هذا الحوار.

جاء من السفر فأهداه حياته

أن تعود من أجل أخيك لتشاركه النزول في التظاهرات، فيخبرك خلال طريقكما أنه يريد لك العودة إلى السويس، وعدم التمسك بالفرص غير المستقرة في القاهرة، وأنه سيحاول أن يُلحقك بالعمل في شركة البترول التي يعمل فيها موظفاً صغيراً.

هكذا تنقلت فصول قصة حياة المحاسب "تامر رضوان" شقيق شهيد جمعة الغضب بمدينة السويس "شريف رضوان". التقيته مرتين، الأولى بعد خلع مبارك بأشهر قليلة، لم يذكر لي هذا التفصيل، كان تركيزه على وصف بشاعة ما حدث أمام قسم السويس، وكيف وهو يجري وكفه في كف أخيه، سقط منه فظن أنه تعثر، فحاول أن يساعده على الوقوف مرة أخرى مردداً: "يلا يا شريف مفيش وقت، ففوجئ ببقعة الدم الصغيرة في جانبه الأيمن".

مرت السنوات، وأصبح تامر هو الأب والعم لابنة وابن "شريف". تزوج في 2013، وسكن في الشقة المجاورة لهم، وذلك بعد أن حصل على وظيفة في الشركة نفسها تكريماً لروح الشهيد. وقبل عامين حصل على ترقية مناسبة سمحت له بشراء بيتٍ من طابقين لأسرته وأسرة أخيه الشهيد.

تذكّر كم بكى قبل سنوات أمامي، وأنا أقوم بالتسجيل من وراء الكاميرا، وقال: "لم أعد أبكي إلا في بعض الأوقات، وأنا أصلي الفجر، أدعو له أمام الله، وأعده بحماية أولاده وأشكره، فقد منحني مستقبله، ولم أدرك أنه كان يقول لي ذلك، ونحن في طريقنا نحو الرصاص والموت".

جميلتان ما زالتا في الشرفة

 ومن مشاركة النزول إلى لشارع إلى مشاركة الوقفة في الشرفات، مرت عشر سنوات أخرى بمشاعر بعضها يقترب مما سبق وبعضها يتجاوزه، "كان الأسبوع الأول الذي تحمل فيه "أميرة" هاتفاً محمولاً"، تقول "هدى" مدرّسة الرسم الآن، التي ما زالت تسكن مع أسرتها في البناية المجاورة، ولا تملك إلا قراءة الفاتحة لصديقتها كلما خرجت بكوب شاي إلى تلك الشرفة.

تحكي هدى: "كنا في الثانوية العامة، وتأتي "أميرة دويدار" صديقة طفولتي لتلقي بعض الدروس الخصوصية هنا. وفي جمعة الغضب اشتعلت الأمور أمام قسم رمل ثاني، ووقفنا كغيرنا نتابع، لكن "أميرة" كانت أكثر غضباً مني، ولعلهم لاحظوا هذا، ولهذا اختارها القناص. رفعت الهاتف وأخذت تصور من عدة زوايا، دخلتُ وفي يدي كوب شاي، سقطت هي أمامي ولم أفهم في البداية، سقط كوب الشاي أيضاً، وللحظة خفت عليها من سخونته، ثم رأيت كمية الدم النازف من بطنها، نظرت إليَّ وهي تحاول التقاط النفس ثم فقدت الوعي، وكان آخر ما سمعته هو صراخي وأهلي يجرون نحوي. لم أتمكن من التفكير في تلقينها الشهادة أو سؤالها عن شيئ".

تخبرني والدة الشهيدة أنها تشفق على "هدى" كثيراً، "لا أحب أن أراها وهي تحكي وتسترجع المشهد". تقول "هدى": "لم أعد أبكي كما كنت كلما طالبني صحافي أو زائر أن أحكي، لكن كلما مر الوقت تحولت "أميرة" داخلي لمصدر للفخر. لكني حزينة عليها، كنت أتمنى أن أجدها الآن في شرفتها بالبناية المجاورة، وهي خريجة كلية هندسة أو تستعد للزواج". تزور "هدى" و"زينب" والدة الشهيدة باستمرار، تحبهم كثيراً وتقول لي: "كنت شديدة التزمّت في تربية ابنتي، حكوا لي كيف كانت تبكي لأنني لا أسمح لها بالخروج معهم، أو السفر في رحلات المدرسة، أرى فيهم الآن ما أتمنى لو تتاح لي الفرصة من جديد لاستعادتها ومنحها حياةً أسعد بين رفيقاتها".

أم الشهيد ورفيقته

لم يكن التواصل مع السيدة "سهير" سهلاً، كيف يمكن لأم أن تعود بعد سنوات لتحكي عن طفلها الذي فقدته، لا لأنه نزل للمظاهرات دون علمها، أو بتشجيع منها، ولكن لأنها هي من دعته للانضمام إليها ومشاركتها.

كان هذا عقب صلاة الجمعة في منطقة "دار السلام" الشعبية بالقاهرة. نزلوا وهتفوا مع المتظاهرين، وفي اللحظة التي قررت فيها الانسحاب لتضع ما تحمله من مشتريات في المنزل ثم العودة مرة أخرى، لم تكمل دقائق حتى وجدت من يلحقها يطالبها بالعودة.

تتماثل الأم الثورية هذه الأيام للشفاء من عملية جراحية في الرحم. لم تبك، بل ابتسمت كأنها تتبادل الابتسامة مع شخص يربت على كتفها، ولا نراه: "لا أنسى يوم ولادته بعملية قيصرية. منذ أفقت من البنج وأنا أفكر به، وفكرت في الموت كثيراً، وأنا على باب غرفة العمليات".

ماذا لو لم تتعب ذراعيها من حمل أكياس الخضار، هل كان من الممكن أن تحصدها الرصاصة بدلاً من ابنها؟ لم تقلها، ولكن عبّرت عنها بطرق عدة، تقول ابنتها والشقيقة الصغرى للشهيد "خالد السيد": "دائماً ما تفعل هذا على مدار عشر السنوات، ونحن نفضل عندها عدم الرد، أو تجاهل الملاحظة غير المباشرة".

فلان الفلاني يشعر بالخذلان

"أنا جبان علشان ما ساعدتش أحمد"، ينشر الصحافي "أحمد الشيخ" هذه الرسالة التي وصلته من شخص طلب منه عدم ذكر اسمه. والسبب: "كنت إلى جوار الشهيد "أحمد بسيوني" صديقك الذي لم أكن أعرفه حينها، ولم أساعده بالشكل الكافي".

يكمل صاحب الرسالة: " كان في يده كاميرا متخصصة، تمكنه، باستخدام خاصية الزووم، من أن يرى من يطلق الرصاص، وكان يقول لنا "أنا شايف الضابط، اتحركوا هنا.. تعالوا كده"، حكى كيف أنقذ الشهيد أكثر من شاب من رصاصة مقصودة، ليس فقط بتحذيره شفوياً ولكن بدفعه له أيضاً. شعرتُ أن الاقتراب منه فيه درجة كبيرة من الأمان، وطلبت منه أن أصاحبه، قال لي: "خلي عينك عليا". وفي إحدى المرات التفت ليقول لي على مكان القناص، كما في كل مرة من الساعات الثلاث التي نسجتْ معرفتنا، فوجدت الرصاصة سبقت صوته وأسقطته أيضاً".

لم يستطع رفيق اللحظة الأخيرة غير التحرك إلى الأمام في ظل صوت الرصاص المنهمر من فوق مجمّع التحرير فور دخول الميدان بيوم جمعة الغضب. بعد خطوتين صرخ، وحاول العودة، وطالب المتظاهرين بالتوجه معه لسحب "أحمد"، لكن المدرعة كانت أسرع منهم، لم يصدقوا أعينهم وهم يرونها تدهسه".

يقول لي "الشيخ": قابلت هذا الشخص مرتين، نشأت بيننا صداقة إلكترونية محدودة ولكن حميدة، حاولتُ أن أخفف عنه، أخبرته أني ارتحت قليلاً رغم كل ما قاله، لأن صديقي الذي كان من المفترض أن أكون معه لم يكن لوحده، كنا اتفقنا أن أنزل من الإسكندرية لأشاركه النزول للتحرير، لكنني باللحظة الأخيرة توجهت إلى شارع "القائد الكبير" (القائد إبراهيم). استشهد هو في القاهرة، وفقدت أنا عيني في الإسكندرية".

شبح الذنب والهزيمة

تزخر مكتبة الطب النفسي بكل ما يمكن أن يشرح باستفاضة عن "كرب ما بعد الصدمة"، عن شيوع الشعور بالذنب عند الفقد المفاجئ خاصةً لمن كان في السنوات الأولى من شبابه، والذي يولّد شعوراً يجعله يصف نفسه بـ"أناني" أو "جبان".

وعقب اندلاع ثورة يناير بشهرٍ واحد كتب د. "خليل فاضل" أستاذ الطب النفسي في مقال شهير عن مستقبل "كرب ما بعد صدمة، تداعيات يناير"، فقال: "إن التأثير النفسي المتعلق بالثورة أكبر وأعظم لتعلقه بالوعي الجمعي". وتكلم عن ارتباط الاحتمالات المختلفة بما ستؤول إليه الأحداث. ثم توقف بالتدقيق عند الأصدقاء، من عادوا بعد أن رأوا الموت بأعينهم...

***

مرت عشر سنوات. مرّ كثيرٌ من المُرّ.. رحل "الشهيد" وبقي "الرفيق".. زادت الحسرة والانكسارات، ولم نزل نتمسك بتحقق الحلم. 

______________

• أنتج هذا النص في اطار "شبكة المواقع الاعلامية المستقلة حول العالم العربي" التي يشارك فيها "السفير العربي"، وفي ورشة "عشر سنوات على 2011".

_____________
"شبكة المواقع الإعلامية المستقلة " هي إطار تعاون إقليمي تشارك فيه "السفير العربي"، "الجمهورية"، "مدى مصر"، "مغرب امريجان"، "ماشا الله نيوز"، "نواة"، "حبر" و"أوريان XXI".

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...