قومية المشاريع
حدثت تحولاتٌ عديدة في جمهورية مصر العربية خلال الخمسين عاماً الأخيرة، وهي ترسخت خلال السنوات بسبب السياسات النيوليبرالية في العالم والتغيير في أشكال الرأسمالية. أثناء الموجات الثورية من كانون الثاني/ يناير 2011 وحتى 2013، أُجهضت جميع محاولات المشاركة السياسية والتغيير نحو الديموقراطية. حدث الكثير من التغييرات نحو دولة أكثر سلطوية بعد تموز/ يوليو عام 2013، تضمنت بناء العديد من السجون، وسجن العديد من المعارضين السياسيين. كل هذه الخطوات تراكمت في أشكالٍ من التغييرات السياسية والاجتماعية على حد سواء. النظامُ أراد ضمان الاستقرار، واستقرار حكمه على الأخص، بحيث لا يتكرر ما حدث مع دولة مبارك وأفرادها في عام 2011، أو مع محمد مرسي في 2013 .
تجلت تلك السلطوية النيوليبرالية (1) من خلال خطاب قومي يعلن عن مدى عظمة الدولة، وكيف يتم إعادة بناء الوطن من خلال مسار التنمية. تضمنت خطابات الدولة إعلانها الحرب، وحالة الحرب ضد أعداء الدولة داخلياً وخارجياً، وكل من تُسوّل له نفسه "معاداةَ الوطن". تضمن الخطاب لهجةً أبوية وكأن رب الأسرة غاضبٌ من أهل بيته، ويأمرهم بما يفعلو، وما لا يفعلون، لأنه هو الشخص الوحيد الذي يعلم الصالح العام. وعليه فغيرُ مسموح بعلو أي أصوات فوق صوت المعركة والصالح العام.
بدأت الحكومة في تنفيذ أجندة عمرانية قومية تسمى ب"خطة مصر للتنمية المستدامة 2030". اعتمدت تلك الخطة على عدد من المحاور، تضم عدداً من المشاريع القومية كقناة السويس. كما قررت الحكومة البحث عن مستثمرين يمكنهم إنقاذ الوضع الاقتصادي، ويضخون أموالاً في الأسواق المصرية، كما حدث في العقود السابقة من الالفية الجديدة، سواءً أموال مصرية أم خليجية. تضمنت تلك الخطوة العفو عن رجل الأعمال المعروف هشام طلعت مصطفى، بتهمة قتل سوزان تميمي، في مقابل أن يشتري مساحة500 فدان في العاصمة الإدارية الجديدة، والذي قُرر أن يتم إنشاء المرحلة الثانية من "مدينتي"، كامتداد لمدينتي 1 .
العنف العمراني
تضمنت الخطط العمرانية أشكالاً مختلفة من العنف ضد المواطنين والمواطنات، جعلتهم مدافعين/ات عن العمران في مواجهة الدولة. قرر النظام بناء دولة جديدة بنظم تتبع رؤيته الخاصة، دونما استشارة أي من المواطنين أو المواطنات، كما تضمنت عدم المشاركة السياسية من أي من الأحزاب تجاه تلك الرؤى والتغييرات العمرانية، ولا لأي من الناشطين العمرانيين والذين تحدثت عنهم سابقاً. العنفُ المتبع من النظام يتضمن عنفاً مادياً وعنفاً رمزياً (2). ومنذ 2015 وحتى 2020، تضمنت الأجندة العمرانية الجديدة (3) عدداً من التغيرات.
القاهرة في عشر سنوات... هل نعرفها؟ (2/1)
25-01-2021
من ضمن هذه التغييرات الصور المسجلة المبثوثة على شاشات التلفزة للمناداة للآذان الإسلامي في الصلوات الخمس. فبدلاً من الصور المعتادة لمسجد الحرم النبوي ومكة المكرمة، في السعودية، صارت تنقل تلك التي تظهر مسجد "الفتاح العليم" بالعاصمة الإدارية الجديدة. هذا بالإضافة إلى تغيير مكان إقامة صلوات عيد الميلاد في 7 كانون الثاني/ يناير، إلى كاتدرائية العاصمة الإدارية الجديدة، بدلاً من كاتدرائية العباسية بالقاهرة. جاءت رسالةُ تغيير الصورة المصاحبة للآذان ومكان الصلاة وكأنها تقول بأن "القبلة" منذ 2017 أصبحت العاصمةَ الإدارية الجديدة، وهو أمرٌ ليس بالهين على المصريين، المسلمين منهم والمسيحيين.
وتتضمن العاصمة الإدارية الجديدة نقل جميع السفارات الأجنبية إلى أرضها، بالإضافة إلى جميع المباني الحكومية ومؤسساتها. ما يعني إجبار المواطنين على زيارة العاصمة الإدارية الجديدة حتى يحصلوا على الخدمات الحكومية الأساسية في حياتهم اليومية. فالاختراق للصحراء الشرقية للقاهرة لا مفرَّ منه، ووضعت المصريين على جبهة الدفاع العمراني دون خيار آخر. هؤلاء المدافعون العمرانيون يجب عليهم أن يجدوا وسيلة مواصلات إلى تلك العاصمة، سواء كانت مواصلات عامة أو خاصة. ويجب أن يتحملوا التكلفة، والتي تزداد غلاءً كل يوم بسبب رفع الدعم عن أسعار البنزين. تتضمن خطة إنشاء العاصمة الجديدة أيضاً عدداً من المباني ذات الصفة الأمنية العالية، مثل قصر رئاسي جديد، وزارة الداخلية، وزارة الدفاع، بالإضافة إلى عدد من الوزارات الحيوية، والتي لن تتعطل مرةً أخرى عن العمل إذا قرر المواطنون والمواطنات التظاهر، أو الاعتصام أمام تلك المباني، مثلما حدث في "ثورة يناير 2011" والتي تم أثناءها تعطيل عمل حوالي 12 مبنى حكومي حيوي في وسط المدينة.
الأمن العمراني
تحوّل الإحلال الطبقي العمراني، كظاهرة عالمية، الى خطط للحكومات (4) ، وارتبط بشكل أساسي بالأمننة، حيث يتضمن وجود مواطنين "رسميين"، وهم من يستطيعون دفع أقساطهم في البنوك. وتعتبر حياة هؤلاء المواطنون/ات مراقبةً من خلال الضرائب وأقساط البنوك، ما يجعل الأشخاص جزءاً أساسياً من مجتمعات التحكم ونظام مراقبته (5) . في الجانب الآخر هناك مواطنو المناطق غير الرسمية، الذين يعملون كعمالة مؤقتة وغير ثابتة، ولا يملكون حسابات بنكية، ولا يعلمون كم هو دخلهم السنوي، ولا يستطيعون وضع خطة لخمس سنوات مستقبلية. حياتهم غير الثابتة والمعرضة دائماً للتهديد (6)، وغير المرتبطة بنظام الدولة في بعض المستويات. في دول الجنوب، يعتمد الاقتصاد الرسمي على ذاك غير الرسمي. وبالتالي تم إقصاء مواطني المناطق غير الرسمية، والاقتصاد غير الرسمي إلى الجبهة العمرانية، جبهة يسحقون فيها عن طريق عمليات جعل كل شيء، رسمياً سواء على مستوى الاقتصاد أو العمران، بتسليع الأراضي، وجعل الحياة اليومية مستحيلةً وقاسية سواء في السكن أو المواصلات أو المياه أو الكهرباء أو الطرق.
تغيرت الصور المسجلة المبثوثة على شاشات التلفزة للمناداة للآذان الإسلامي. فبدلاً من الصور المعتادة لمسجد الحرم النبوي، حضرت صورة مسجد "الفتاح العليم" بالعاصمة الإدارية الجديدة. وجرى تغيير مكان إقامة صلوات عيد الميلاد، إلى كاتدرائية العاصمة الإدارية الجديدة، بدلاً من كاتدرائية العباسية بالقاهرة. جاءت رسالةُ تغيير صورة الآذان ومكان الصلاة وكأنها تقول بأن العاصمةَ الإدارية الجديدة أصبحت "القبلة".
ولم يعد الاقتصاد النيوليبرالي ينحصر فقط في قطاع التشييد، بل شمل إعادة توجيه المال العام إلى "صندوق مصر السيادي"، والذي تأسس (7) في عام 2018، حيث تم تحويل معظم المال العام من مبانٍ وأراضٍ إلى ملكية الصندوق، ما سوف يمكّن من بيعها وخصخصتها في السنوات المقبلة. لا يشمل تسليعُ الأراضي في القاهرة إعادة هندسة المدينة لصالح الطبقات الحاكمة فحسب، التي تمتلك مصادر الدخل، وتعيش في مجتمعات سكنية مسوّرة. بل هو يشمل أيضاً التحكم في الموارد الاقتصادية، وإعادة استغلال الأراضي طبقاً لاستثمارات تعود بالنفع على شريحة صغيرة من الطبقات الاجتماعية، هي تلك المتحكمة في الدخول والأموال. الجبهةُ العمرانية أصبحت مكاناً للخسارة، خسارة الممتلكات العامة، بالإضافة إلى خسارة قيمة وجودة الخدمات اليومية، والتي لا يستطيع المواطنون/ات تحمل تكلفتها نظراً لخصخصتها.
تم تمديد التغييرات العمرانية لتشمل كل ركن وحي في القاهرة. ولم تكتفِ الأجندة العمرانية بالمشاريع الكبرى والاستثمار في الصحراء، بل اشتملت "خطة التنمية المستدامة لمصر 2030" على مشاريعَ يتم فيها تحويل القاهرة إلى عاصمة تراثية وتجارية واستثمارية. وهذه التحولات العمرانية تلعب دوراً حيوياً في التأثير على ذاكرة المدينة بمناطقها وأحيائها. تلك الذاكرة هي التي تشكّل الحياة اليومية، وتفاصيلها، والعلامات المدينية في حياة سكانها. هنا أشير إلى تغييرات عمرانية تتضمن تغيير ملامح المدينة إلى أخرى، يصعب التعرف على ملامحها المحفورة في ذاكرة ساكنيها. ولا أقصد هنا بالمرة تفعيل الرومانسية في فهم المدينة، وأدرك أن المدينة كائنٌ ديناميكي مثله مثل السكان، وليس شيئاً مصمتاً وساكناً ولا يتغير، ولكن سرعة وعجلة تلك التغييرات العمرانية هي ما أشير إليه، وطريقة التغيير في حد ذاتها. في مصر، المستوى السياسي من أعلى الى أدنى الحوكمة وصنع القرارات، وَضع ساكني المدينة في مصاف العرائس المتحركة. لا يُستشار المواطنون/ات في هذه التغييرات بالمرة، كما توقف عمل المجالس الشعبية المحلية منذ عام 2011، وهي التي كانت تلعب دور المستشار والوسيط بين الدولة والمواطنين المحليين. غياب هذه المجالس المحلية حوّل المواطنين/ات إلى ضيوف في المدينة.
واحدٌ من المشاريع الكبرى في القاهرة، هو زيادة ممرات وخطوط سير السيارات في الطرق لتخفيف الكثافة المرورية، ولتسريع حركة السيارات نحو شرق القاهرة.. باتجاه العاصمة الإدارية الجديدة. جغرافياً يقع حيّا مدينة نصر ومصر الجديدة في الموقع ما بين قلب القاهرة العاصمة، والعاصمة الإدارية الجديدة. كلٌ من الحيين ليس بالصغير. "مدينة نصر" تحتوي على طبقات وسطى ذات مكانة اقتصادية معقولة إلى مرتفعة نسبياً، وهم من نزحوا إلى تلك الصحراء في الثمانينات الفائتة. أما "مصر الجديدة"، ذات الطابع المعماري والعمراني الذي نقل إلى مصر من أوروبا، فتحتوي ميادين وحدائق في كامل نواحيها، مما يعطيها بعضاً من جودة الحياة اليومية المختلفة عن بقية أحياء القاهرة. تسكن مصر الجديدة طبقاتٌ أكثر ارتفاعاً من الطبقة الوسطى، في حي امتاز بالتأمين الدائم أيضاً، حيث يحتوي على قصر رئاسة الجمهورية، وهو ما يجعل صيانة شوارعه وطرقه وحدائقه أمراً مستمراً. منذ شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2019، تم تحويل حيي "مصر الجديدة" و"مدينة نصر" إلى مناطقَ مهدمة، ذات تغييرات عمرانية تحدث كل يوم، حيث هدمت جميع الحدائق، سواء المستقلة أو غيرها، التي تقع في منتصف الشوارع، ونزعت كل الأشجار، وكل ذلك من أجل توسعة الطرق، ورفع درجاتها من مسارين إلى أربع أو خمس مسارات في كل اتجاه مروري. وهو الأمرُ الذي مثّل لسكان الحي كارثةً في حياتهم اليومية، حيث أصبحت عملية عبور الشارع على الأقدام مهمةً انتحارية، وأخذت حوادث الطرق الكثيفة تخلّف العديد من الموتى.
لم يعد الاقتصاد النيوليبرالي ينحصر فقط في قطاع التشييد، بل شمل إعادة توجيه المال العام إلى "صندوق مصر السيادي"، الذي تأسس في عام 2018، حيث تم تحويل معظم المال العام من مبانٍ وأراضٍ إلى ملكية الصندوق، ما سوف يُمكّن من بيعها وخصخصتها في السنوات المقبلة.
الشيء نفسه حدث في مدينة نصر، مما جعل ساكني الحيين يواجهون فجأةً فقدان كل الامتيازات التي اكتسبوها على مر السنين. وأولها هو أمان عبور الشوارع حول منازلهم، والتحرك بين النقاط المختلفة لخدمتهم، وثانياً، فقدان كل المسطحات الخضراء، والتي تمتع بها الحيان على مدار سنوات طويلة، وأخيراً تغيير القيمة المادية للعقارات نظراً لتغيير درجات الطرق بها. أتحدثُ هنا عن حيين مميزين، يسكنهما سكان من طبقات ممكّنة اجتماعياً واقتصادياً بشكل أو بآخر بالمقارنة مع باقي سكان أحياء القاهرة الكبرى، فهم الطبقةُ المتعلمة، أولاد الأفندية (8) في كل المستويات الاجتماعية في التقييم والتحليل، والذين استطاعوا دفع أثمان تلك الجودة العمرانية في مناطق سكنهم. التغييراتُ العمرانية شملت هدم أنفاق وتحويلها جميعاً لجسور خرسانية تمتاز بقبح شديد، يمتاز تصميمها بممرات مرورية للسيارات عريضة، ولون رمادي خرساني يعبر عن عمارة وحشية وقبيحة بالأساس، ولا تعطي أي مظاهر إنسانية أو حساسة تجاه مستخدمي تلك الطرق والمناطق. وضع ساكني تلك الأحياء في الجبهة العمرانية من أجل جعل العاصمة الإدارية الجديدة مشروعاً ناجحاً، ما يمر على أجساد أحياء أخرى، ودفع ثمن للنيوليبرالية السلطوية في السياسات العمرانية. قرر سكان "مصر الجديدة" محاولةً للتنظيم والتجمع وعمل اجتماعات مع الحي والمحافظة من أجل محاولة وقف أو تبديل التغييرات العمرانية المزرية، ولكن ذهب كل هذا المجهود هباءً، ولم يتغير أي شيء، وتمّ تجاهلهم تماماً من قبل الحكومة والسلطات المحلية، التي أكملت خططها العمرانية دون سماع المواطنين الذين هم أولى بكل السماع والخدمة.
إخفاء الفقر...
سكان أحياء أخرى لم يكونوا أكثر حظاً، بل واجهوا عنفاً عمرانياً، وجرى إخلاؤهم بشكل تام من مناطقهم. وهذا واحدٌ من أهداف خطة مصر للتنمية المستدامة 2030، أي القضاء على العشوائيات تماماً بحلول عام 2020. وهو ما فعلته الحكومة بالفعل. المناطق العشوائية هي من تمّ تصنيفها كذلك عن طريق صندوق تطوير المناطق العشوائية، بعد إنشائه في 2008. وفي عام 2010، صنّف الصندوق أكثر من 400 منطقة في محافظات مصر بدرجات أربع في الخطورة على حياة الإنسان. اتبعت تلك التصنيفات الأربع المعايير الدولية للموئل الدولي في تصنيفات المناطق، وخطورتها على حياة ساكنيها. وفي عام 2018، أعلنت الحكومة المصرية أنه في غضون عامين ستصبح مصر خاليةً من العشوائيات، وسوف تتحول القاهرة على الأخص إلى "عاصمة حضرية وحضارية". منذ 2014، أعلنت الحكومة العمل على 357 منطقة غير آمنة بميزانية بلغت 41 مليار جنيه مصري.
الخديوي السيسي بين عاصمتين
17-09-2014
قبل الثورة المصرية في كانون الثاني/ يناير 2011، تم نقل 13500 أسرة من مناطقهم إلى المدن الجديدة في "النهضة" و"السلام"، ومساكن "الأولى بالرعاية" في "6 أكتوبر"، طبقاً لإحصائيات عام 2011 من محافظة القاهرة. تضمنت عمليات النقل إخلاءً قسرياً، وعنفاً ضد السكان من قبل السلطات التنفيذية، وظهر ذلك في نقل السكان من منشية ناصر، والدويقة، ومصر القديمة (9) . فيما بعد، في عام 2013، قررت الحكومة اتباع العمليات نفسها في الإخلاء والنقل، والتي تضمنت بناء عدد من العمارات السكنية في المدن الجديدة بهدف نقل السكان إليها. وعليه، صرفت مليارات الجنيهات على عمليات تشييد تلك المشروعات. وتمّ إصدار "معيار" جديد خاص لإعادة تسكين الأهالي، يتضمن عدداً من الشروط، وهو الذي يجب أن تتبعه إدارات الأحياء في المناطق المختلفة، والسلطات التنفيذية تباعاً. كتب هذا المعيار قبل نقل سكان منطقة "مثلث ماسبيرو" في حي "بولاق أبو العلا"، حيث مثّل "شكلاً نموذجياً" للحكومة، على أن تنفّذ بقية المشاريع تباعاً بالمنهجية نفسها. تضمن كتيّبُ إعادة التسكين طرح ثلاثة خيارات على السكان، أولها التعويض المادي، وثانيها هو التعويض بوحدة سكنية، ويضم خيارين سواء بوحدة سكنية في واحدة من مشاريع الإسكان الاجتماعي، أو في المنطقة بعد تطويرها.
لا يشمل تسليع الأراضي في القاهرة إعادة هندسة المدينة لصالح الطبقات الحاكمة فحسب، التي تمتلك مصادر الدخل، وتعيش في مجتمعات سكنية مسوّرة. بل هو يشمل أيضاً التحكم في الموارد الاقتصادية، وإعادة استغلال الأراضي طبقاً لاستثمارات تعود بالنفع على شريحة صغيرة، هي تلك المتحكمة في الدخول والأموال.
تم تحويل حيي "مصر الجديدة" و"مدينة نصر" المميزان نسبياً، إلى مناطقَ مهدمة، حيث هدمت جميع الحدائق التي تقع في منتصف الشوارع، ونزعت كل الأشجار، وكل ذلك من أجل توسعة الطرق، وزيادة خطوط سير السيارات من مسارين إلى أربع أو خمس مسارات في كل اتجاه مروري. وهو الأمر الذي مثّل لسكان الحي كارثةً في حياتهم اليومية.
مشروع منطقة "مثلث ماسبيرو"، نظراً لكونه المشروع - الأنموذج للدولة، فقد نفذت إعادة التسكين طبقاً لكتيّب الإسكان، ولم يتم مخالفته في أي شيء. في السنين اللاحقة، وخصوصاً في منطقة مصر القديمة، والتي احتوت على عدد من المناطق لإعادة التسكين، خولفت معايير كتيّب الإسكان. حيث طُردت مئات الأسر من سكنها قبل تسليمهم وحداتهم السكنية الجديدة أخلي السكان قسرياً وهدمت بيوتهم وحُطّمت ممتلكاتهم، وعاشوا في خيم في المنطقة المهدمة، حتى استلم بعضهم وحداته السكنية (نصف عدد الأسر تقريباً).. أما البقيّةُ، فقد طردوا من المنطقة بعد شهر أو اثنين، وقُبض عليهم لاعتراضهم على ما حدث لهم. وأقصي المطلقين/ات والأرامل، لأن قيمة معاشاتهم المثبتة رسمياً لا تتعدى 300 جنيه مصري، وهي القيمة الإيجارية المطلوبة في الوحدات السكنية ب"الأسمرات"، دون أن يتضمن المبلغ قيم فواتير الكهرباء والنظافة والغاز في المجمع السكني. أصبحت مئات الأسر بدون مأوًى، أو تعويض مادي عن تركهم لوحداتهم السكنية في مصر القديمة، علاوةً على العنف الجسدي الذي تعرض له الأطفال والرجال والنساء في عمليات إخلائهم من بيوتهم. كما تم إيقاف أي صحافي أو صحافية أرادوا إثبات الحالة، والكتابة والنشر عما حدث في المنطقة. وفي محاولاتي المضنية لجعل السكان يأخذون وحداتهم السكنية، قدمتُ عدة شكاوى تحتوي إمضاءات السكان إلى عدة جهات، وتم تسليم بعض من هؤلاء الأسر وحداتهم، ونصفهم لم يتسلموا بدعوى عدم استحقاقهم لتلك الوحدات. كما اضطرت الأسر المنقولة والمستحقة دفع الرشاوى في عدد من الجهات الحكومية للموظفين حتى يتم اعتبارهم من المستحقين على الرغم من استحقاقهم. هذا بالإضافة إلى مبلغ مالي يبلغ 4000 جنيه مصري، ويجب دفعه قبل استلام الوحدة السكنية كمبلغ تأميني للوحدة المستلمة في الأسمرات.
هل تتحول مدننا إلى مطارات؟
27-12-2020
بالتوازي مع عمليات الإخلاء القسري لسكان المناطق، يحدث ما أطلق عليه الإخلاءات التفاوضية (10)، مثلما حدث في منطقة "مثلث ماسبيرو". حيث تم إعلانها منطقةَ إعادة تخطيط، وتحويلها لمنطقة سياحية واستثمارية وتجارية. وإعلن عن عدد من المشاريع المستقبلية السياحية في مناطق "مثلث ماسبيرو"، و"مصر القديمة"، و"جزيرة الوراق" (11). من ضمن المشاريع المعلنة في حي مصر القديمة مشاريع حول بحيرة "عين الصيرة" (12) ، وخلف سور "مجرى العيون" (13)... هذا إلى جانب جزيرة الوراق، والتي أعلن المشروع الاستثماري فيها حتى قبل إخلائها من ساكنيها، وتم تحويل ملكية أراضيها بالكامل إلى "هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة" (14).
الجبهة العمرانية
وُضع جميع سكان القاهرة، بشرائحهم الطبقية الاجتماعية المختلفة، في الجبهة العمرانية، وعليهم أن يواجهوا ما يحدث من تحولات عمرانية. حتى الطبقات الاجتماعية الأكثر حظاً، والمميزةُ أيضاً، تواجه سلبيات تلك التحولات العمرانية. فقد دفع مواطنو القاهرة الى جبهة عمرانية يواجهون فيها مخاطرَ جديدة، تضم نزع ملكياتهم الخاصة في أي وقت، وتعريضهم لتحولات عمرانية في أحيائهم لم يختاروها ولم يُستشاروا فيها. وتلك التحولات العمرانية تمنع المواطنين المصريين من ممارسة حق المواطنة، أو المشاركة في عمليات اتخاذ القرارات في ما يخص تفاصيل حياتهم اليومية. ويعاقب النظام المواطنين بمنعهم من ممارسة حقوق المواطنة في أبسط التفاصيل اليومية، من خلال عدم وجود مجالسَ شعبية محلية، بالإضافة إلى رسائل النظام إليهم والتي تقول لهم أن لا قدرة لديهم على الشكوى. يُعتبر المواطنون الحضريون الآن، والواقعون في الجبهة العمرانية للعاصمة في وضع شبيه بأطفال في رعاية أب ذكوري مهيمن وسلطوي ولا يقبل النقاش، يأخذ زمام إدارة الأمور في العائلة دون سماع أي آراء أخرى، وخصوصاً المغايرة. هذا الأبُ يمسك بسوط جلدي يضرب به من تسوّل له نفسه الاعتراض، أو السؤال عن الخطط الموضوعة لمستقبلهم وحياتهم.
طُردت مئات الأسر من سكنها قبل تسليمهم وحداتهم السكنية الجديدة. أخلي السكان قسرياً وهدمت بيوتهم وحُطّمت ممتلكاتهم، وعاشوا في خيم في المنطقة المهدمة، حتى استلم بعضهم وحدته السكنية. أما البقيّةُ، فقد طردوا من المنطقة بعد شهر أو اثنين، وقُبض عليهم لاعتراضهم على ما حدث لهم. وأقصي المطلقين/ات والأرامل، لأن قيمة معاشاتهم المثبتة رسمياً لا تتعدى 300 جنيه مصري، وهي قيمة الاجار.
يعتبر المواطنون الحضريون الآن، والواقعون في الجبهة العمرانية للعاصمة، في وضع شبيه بأطفال في رعاية أب ذكوري مهيمن وسلطوي ولا يقبل النقاش، يأخذ زمام إدارة الأمور في العائلة دون سماع أي آراء أخرى، وخصوصاً المغايرة. هذا الأبُ يمسك بسوط جلدي يضرب به من تسوّل له نفسه الاعتراض، أو السؤال عن الخطط الموضوعة لمستقبلهم وحياتهم. وقد بني 12 سجناً جديداً
خطط هذا النظام السلطوي تنمو في مصر، وتُسكت كل من له صوت. ورسالة النظام لنا واضحةٌ، ببناء 12 سجناً جديداً في السنوات الأخيرة، وهو ما يدفعني أنا شخصياً لخوف يصل حدَّ الرعب. يتبع النظام كل سياسات النيوليبرالية بأي ثمن، مما يدفع بسكان القاهرة الكبرى إلى الجبهة العمرانية في مواجهة التغييرات، وتحمّل نتيجتها وحدهم دون النظام، ومن يعترض سوف يسجن، أو يموت جراء معركة الإخلاء القسري للمناطق، وأثناء ممارسة الحقوق الأساسية للمواطنة، حيث يسجن المواطنون جراء الاعتراض، أو كتابة تعليقات على منصات التواصل الاجتماعي، مثلما الحال مع الباحث العمراني إبراهيم عز الدين، والذي انتقد علناً سياسات السلطة، فتم اخفائه قسرياً لمدة 7 أشهر، وما زال قيد السجن في وضع غير إنساني بالمرة. يُهين هذا النظام من مكانة المواطنين المصريين، ويجعلهم أعداءً للدولة في كل يوم يضعهم في جبهة عمرانية في سياق القاهرة الكبرى، وتغيراتها العمرانية، والتي سوف تؤدي إلى مدينة لن نتعرّف عليها.
1)Lama Tawakkol, “Reclaiming the City’s Core: Urban Accumulation, Surplus (Re)Production and Discipline in Cairo,” Geoforum, January 2020, S0016718519303525, https://doi.org/10.1016/j.geoforum.2019.12.014.
2) Pierre Bourdieu, “Social Space and Symbolic Power,” Sociological Theory 7, no. 1 (1989): 14, https://doi.org/10.2307 /202060.
3)Omnia Khalil, “The State as Un Urban Broker: Subjectivity Formation, Securitization, and Place-Making in Post-Revolutionary Cairo,” Urban Anthropology and Studies of Cultural Systems and World Economic Development. 48 (1,2) (2019): pp 85-128.
Neil Smith, “New Globalism, New Urbanism: Gentrification as Global Urban Strategy,” n.d., 24. (4
Deleuze. Society of Control. (1992). (5
6) Butler, Judith. Precarious Life: The Powers of Mourning and Violence. (2006)
Presidential decree No 177, year 2018. (7
Jacob, Wilson Chacko. Working Out Egypt. (2011) (8.
Amnesty report. We are not trash. (2011). (9
10) Khalil, “The State as Un Urban Broker: Subjectivity Formation, Securitization, and Place-Making in Post- Revolutionary Cairo.”
Khalil, Omnia. Visions or Illusions? State Development Plans and Violence in al-Warraq. TIMEP. (August 2017). (11
12) admin.mhuc.gov.eg//Dynamic_Page/637362897225347589.pdf
13) admin.mhuc.gov.eg//Dynamic_Page/637362889664787680.pdf
https://www.alaraby.co.uk/society/2019/9/12 (14/حكومة-السيسي-تتوعد-أهالي-الوراق-نزع-ملكية-300-فدان