المنيب.. حي سقط من حسابات الدولة ورسم قانونه الخاص

وصفٌ لشروط حياة سكان أحد الأحياء العشوائية الكبيرة القريبة من القاهرة، ولآليات ضبطهم، ولأساليب استخدامهم من قبل السلطات، وهي معطيات تتداخل وتتفاعل لتنتج قانونها الخاص، ومن ضمنه الطرق المبتكرة للإفلات من سلطة غاشمة تقابلها هشاشة السكان.
رائد شرف - لبنان

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

يبدو المدخل كمحاولة اختراق وكر تحاول السلطات أن تخفيه عن الأنظار، أو توهم نفسها بعدم وجوده: سورٌ عالٍ يمنع راكبي السيارات على الطريق الدائري، المتجهين للأحياء الفخمة شرق القاهرة، من رؤية "الجانب الآخر من عاصمتهم"،الذي يتناقض مع الإعلانات الضخمة المعلقة أمام أعينهم عن المدن الفاخرة الجديدة التي تبنيها الحكومة والمستثمرون.. سلالم مرتفعة معلّقة تشكل المدخل والمخرج الرئيسي للحي، وتوحي بأن الهروب إلى خارجه خطوة تستلزم جهداً شديداً. أنه حي المنيب، الذي يعيش وفق قانونه الخاص، لكن تحت أنظار سلطة تجعل من سكانه كائنات تجرِّب عليهم سلطتها القوية.

من أعلى سلم المدخل، ترتسم صورة صاخبة، تُظهر صراع أهالي الحي فيما بينهم والضجة التي تهاجم آذانهم وعيونهم. يتسابق سائقو عشرات التكاتك المتراصة (جمع تكتك، وهي سيارات النقل الصغيرة والخفيفة) لإقناع الزبائن الذين يريدون الدخول إلى الحي بالركوب. تصدح من هذه التكاتك أغان شعبية متقاطعة، تمتزج بأصوات مكبرات الأصوات التي يستخدمها بائعو الفواكه والمخللات الذين يفترشون الشوارع والممرات، بعدما أدركوا أن أصواتهم العادية ليست كافية لجذب انتباه المشترين، وتختلط بها أصوات القرآن التي تنطلق من مكبر صوت في محل "كشري" مجاور. على سور مدرسة حكومية قريبة، كُتب "بالعلم يبني الناس مجدهم"، وكأن الدولة حذفت عمداً كلمة "والمال" من شطر البيت الشهير لأحمد شوقي،حرصاً على مشاعر الأهالي.

مدخل الصعيد إلى القاهرة

يصعب تقصي تاريخ نشأة المنيب، إلا أن الحي العشوائي الموجود على الطرف الجنوبي لمدينة الجيزة، بدأ في التوسع مع تزايد الهجرة من المناطق الريفية إلى هوامش القاهرة، بداية من خمسينات القرن المنصرم، واستفحالها خلال السبعينات منه، مع تطبيق سياسة الانفتاح. تحول المنيب إلى بوابة الصعيد للقاهرة، إذ يشكل نقطة تمركز للقادمين من جنوب ووسط مصر إلى العاصمة بحثاً عن عمل، مع تردي الدخل من الزراعة وتدهور الخدمات في القرى.

عدد من ساكني الحي، وبالأخص الوافدون منهم في العقد الأخير،يحتفظ ببطاقة هويته التي تحمل عنوانه في الصعيد. وعلى الرغم من العدد الهائل - الظاهر للعيان- لسكان الحي، فليست هناك أرقام رسمية تحدده. فما تنشره السلطات يفصح فقط عن العدد الكلي للدوائر، دون التطرق للأحياء أو التجمعات الصغرى. يُحصي مركز التعبئة والإحصاء في تعداده الأخير في أيلول/ سبتمبر 2017 عدد سكان دائرة الجيزة التي ينتمي إليها الحي بأكثر من 285 ألف مواطن.

لم تصل التصميمات الهندسية للمدن الحضرية التي تضعها الدولة أو المهندسون المحترفون إلى المنطقة، ربما لأنها لم تشهد كارثة تجبر الدولة على تطويرها، كما حدث لحي الدويقة في المقطم. في المقهى، يتداول الأهالي قصص الأحياء الشعبية التي تهدمها الدولة - مثل بولاق ومجرى العيون - وتنقل أهلها لمساكن في الصحراء بدعوى التطوير. يحمد الأهالي الله على أن حيهم لا يشكل أهمية استراتيجية في نظر الدولة تجعلها تستحوذ عليه.

سورٌ عالٍ يمنع ركاب السيارات على الطريق الدائري، المتجهين إلى الأحياء الفخمة شرق القاهرة، من رؤية "الجانب الآخر من عاصمتهم"، الذي يتناقض مع الإعلانات الضخمة المعلقة أمام أعينهم عن المدن الفاخرة الجديدة التي تبنيها الحكومة والمستثمرون..

يضع المقاولون في اعتبارهم الظروف المتدرجة بين الصعبة وشديدة الصعوبة لأهالي الحي، فيصممون بعض الطوابق على شكل غرف منفصلة يتوسطها حمام صغير، وهكذا يمكن للأسر الأشد فقراً أو المهاجرين الفرادى العثور على مأوى.

شيّد الحيَّ أجيالٌ من المقاولين الذين قدموا من الصعيد على مرِّ العقود الماضية المتتالية، بعد أن باعوا أراضيهم لتمويل عملهم الجديد. وتجري عملية البناء في الغالب عبر شراكات يعقدونها مع أصحاب الأرض الأصليين،حيث يتحمل المقاول تكاليف البناء كاملة، على أن يتقاسم مع صاحب الأرض ثمن الشقق التي يبيعانها للباحثين عن أماكن سكن جديدة. يفهم هؤلاء –وهم غير عارفين بقواعد الهندسة الحديثة، وربما أغلبهم غير متعلم بالأساس - نمط أهالي الحي، وكيفية الاستفادة من كل متر لاستيعاب العدد الضاغط من السكان والمهاجرين الذين يتدفقون يوماً بعد الآخر.

صمم المقاولون الحي في مبان مرتفعة ذات شقق صغيرة المساحةتفصلها جدران رفيعة، على جانبي ممرات ضيقة لا تصل الشمس إلى أرضها. بفعل هذا النظام في البناء، تصبح الممرات متاهات متداخلة يصعب الخروج منها إذا ما تجول فيها شخص غريب.يدركون عدم جدوى الشرفات في المباني الواقعة في هذه الممرات، لذا يستغلون المساحة المسموحة للشرفات فوق الشارع من أجل زيادة مساحة الشقق متراً إضافياً، ما يزيد من ضيق الممرات. يضعون في اعتبارهم أيضاً الظروف المتدرجة بين الصعبة وشديدة الصعوبة لأهالي الحي، فيصممون بعض الطوابق على شكل غرف منفصلة يتوسطها حمام صغير، وهكذا يمكن للأسر الأشد فقراً أو المهاجرين الفرادى العثور على مأوى.

بعض الأسر التي امتلكت شققاً في هذا الحي منذ عقود، اضطرت لفصل غرف منها،وعرضها للإيجار للمساعدة في تحسين دخلها مع تدهور أوضاعها. ومنذ السبعينات الفائتة، تقلصت المساحة المتوافرة للأهالي الذين يصعب عليهم مغادرة هذا الحي الفقير، مع تزايد الضغط العددي. أدى هذا الصراع إلى محاولة التكيف العددي مع أصغر المساحات. يحكي ربيع سيد، القادم من محافظة بني سويف أنه يعيش مع زوجته وأطفاله الثلاثة في شقة لا تتجاوز مساحتها 40 متراً، تتكون من غرفتين صغيرتين وحمام.

وعلى الرغم من أن هذه المساحات الضيقة والغرف المتلاصقة صُممت لاستيعاب أكبر عدد من السكان، إلا أنها تسلبهم خصوصيتهم. يتسامر الشباب في جلسات المقاهي في الحي حول قصص سماعهم أصوات جيرانهم خلال ممارسة "العلاقة الحميمة"المعتادة، كروتين ليلي. يعمّق فصل الصيف هذا الانتهاك، مع ترك الأهالي النوافذ مفتوحة والجلوس بالملابس الخفيفة خلفها، لينتظر الجيران المتلصصون هذه الفرصة بما أنهم يجدون صعوبة في تمرير مللهم، وربما يتبادلون الحديث مع السيدات،فتثور الغيرة وتندلع الشجارات الذي تظهر فيها الأسلحة النارية، ويسقط في الغالب قتلى أو مصابون.

من هم؟

في الجانب الديموغرافي، يضم مجتمع المنيب جماعة سكانية غير متجانسة تشكّلت عبر الهجرة، وخلال عقود طويلة. أغلبهم من الذكور، ومن المحافظات الجنوبية المختلفة. يحتل الأصل المناطقي مركزاً هاماً في تشكيل الجماعات والعصبية داخل الحي، وهو مركز حماية في مجتمع شامل متصارع على إثبات النفوذ، يُنظر فيه للمهاجر الجديد كدخيل. وينبغي على هذا "الدخيل" أيضاً أن يثبت سريعاً خضوعه لقانون المنطقة الجديدة التي يقطنها، وأن ينسج علاقات مع رموز القوى في الحي، سواء كانوا كباره أو بلطجيته، ما يوفر له نوعاً من الحماية من أية جريمة قد يتعرض لها، ولاسيما السرقة، مع ضعف وسائل الأمان على المساكن. وتشكل المقاهي المنتشرة في غالبية المخارج الرئيسية للشوارع في الحي -والتي تعد مخرجاً من الملل اليومي للمهاجرين ورجال الحي على السواء هرباً من ضيق مساكنهم- نقطة هامة في نسج هذه العلاقات وبناء صداقات تشكل "ظهراً" للمهاجرين إلى هذا المجتمع المتشابك والمعقد مثل شوارعه.

يضم مجتمع المنيب جماعة سكانية غير متجانسة تشكّلت عبر الهجرة، وخلال عقود طويلة. أغلبهم من الذكور، ومن المحافظات الجنوبية المختلفة. يحتل الأصل المناطقي مركزاً هاماً في تشكيل الجماعات والعصبية داخل الحي، وهو مركز حماية في مجتمع شامل متصارع على إثبات النفوذ، يُنظر فيه للمهاجر الجديد كدخيل.

نتيجة لتدهور الخدمات، أنشأ الأهالي نظاماً تضامنياً بينهم قائماً على الجيرة، لجمع الأموال لسد النواقص وتعويض غياب الدولة. عقدوا مثلاً اتفاقاً مع جامعي القمامة في حي منشية ناصر، للقدوم إليهم وجمعها مقابل مبالغ يساهم فيها الأهالي بشكل شهري. الإنارة غائبة عن الشوارع أيضاً، لذا يجمعون أموالاً لشراء لمبات إضاءة.

ينتاب أرباب الأسر الشكوك والحذر في الغالب من المهاجرين العزّاب، هؤلاء القادمون الذين يعملون نصف يوم ويجدون صعوبة في تمرير الوقت فيما تبقى من يومهم البطيء، ما قد يدفع بعضهم –بحسب شكوك بعض الأسر- إلى البحث عن علاقات عاطفية مع بنات وسيدات الجيران. في أيار/ مايو 2018، قتل أب ابنته البالغة 17 عاماً في المنيب بعدما شاهدها تسير مع شاب لا يعرفه بالقرب من منطقتهما السكنية.

التغلب على غياب الدولة وخدماتها

في عصر كل يوم منذ أكثر من شهرين، تخرج السيدات من المنازل في جنوب الحي للجلوس أمام البيوت. تبدو الصورة ورديةكجلسة تسامر عن أوضاع الحي التي لا تتحسن، أو الحكايات التي يتم ترويجها بداخله، أو عن ارتفاع الأسعار. لكن اختيار الوقت ليس جزافاً، ففي هذا التوقيت تنقطع الكهرباء لمدة ساعتين. تحكي السيدات أن الكهرباء ليست مشكلتهم الوحيدة، فالمياه تنقطع لساعات طوال اليوم، وتجبرهم على ملءمستوعبات بلاستيكية ("غالونات"أو "جراكن") باستمرار لتخزينها. يتحول وجه السيدات للغضب والاحمرار عند سماع كلمة "الصرْف"، الذي ينسّد باستمرار وتنفجر مواسيره، وتجبر أهالي الحي على التدخل بأنفسهم لحل الأزمة. على مدار أعوام، يسمعن وعوداً من أفواه المسؤولين والنواب البرلمانيين المتوالين بتطوير الحي ورصف طرقه. لكن أعينهن لم ترَ هذا التطوير حتى الآن، باتت هذه الوعود مملة ولا ترسم الدهشة على وجوههن، بل تثير السخرية في بعض الأحيان.

على الرغم من تشدد الدولة في تحصيل الفواتير في هذا الحي وغيره، التي أصبحت مورداً أساسياً للموازنة العامة، إلا أن الخدمات تتدهور فيه باستمرار، وسط تلكؤ من "مسؤولي الحي"(إدارة محلية تعينها الدولة، وهي تلعب دور البلدية في الرقابة على النظام العام والخدمات) عن حلها سريعاً. في عام 2016، واجه محصِّلو الكهرباء تهديدات من أصحاب المتاجر في المنيب بسبب الزيادات المتتالية.

نتيجة لتدهور بعض هذه الخدمات، أنشأ الأهالي نظاماً تضامنياً بينهم قائماً في الأساس على الجيرة، لجمع الأموال لسد هذه الفجوات وتعويض غياب الدولة. منذ أربعة أعوام، استطاع الأهالي عقد اتفاق مع جامعي القمامة في حي منشية ناصر للقدوم إليهم وجمعها مقابل مبالغ يساهم فيها الأهالي بشكل شهري. الإنارة غائبةعن الشوارع أيضاً، لذا يجمعون أموالاً لشراء لمبات إضاءة.أحد الأهالي، من ذوي الشقق الواسعة، يتطوع لاستقبال المدرّسين الخصوصيين في منزله خلال حصص لبعض أطفال الحي.

كما طور المهاجرون للحي تضامناً من نوع آخر، يرتكز على الأصل المناطقي من أجل الحصول على سكن أوعمل. فيأتي المهاجر إلى الحي للإقامة مع مهاجرين سابقين من بلدته، الذين يوفرون له عملاً معهم أو مع أصدقائهم. يؤثر هذا الأصل المناطقي في توزيع الأعمال في الحي، حتى بات مهاجرو كل محافظة من محافظات الجنوب يشتهرون بمهن محددة.

غياب اهتمام الدولة بهذه الأحياء ذات الطابع العشوائي،يفسره إدراكها بأنها لا تشكل خطراً سياسياً على السلطة الحاكمة، فغضب هؤلاء السكان موجه ضد بعضهم البعض وليس ضد السلطة، ونادراً ما يتذمر أهالي المنيب منها، وحتى إن فعلوا، فيكون من أجل مطالب فئوية ليس لها طابع سياسي، كتحسين خدمة أو اعتراض على نقص الوقود لأيام عديدة.

منجم تصويتي لكل سلطة

هنا في المنيب، يجد أحمد موسى، الإعلامي المعروف بدفاعه الشرس عن النظام، صدى لترويجه الضخم ل"إصلاحات النظام الاقتصادية" وما يصفه بـ"الخراب" الذي خلفته "ثورة يناير". ويحدث هذا في ظل السيطرة الحكومية على الإعلام التي جعلت منه صوتاً واحداً.

في المقاهي، يعبّر الكثير من الناس عن إيمانهم بالإنجازات، وبالمستقبل المشرق الذي ينتظر الأجيال القادمة والذي سيحققه نظام الرئيس السيسي. فعلى الرغم من اعترافهم بتدهور أوضاعهم المالية، إلا أنهم يبررون ارتفاع الأسعار الذي يعانون منه بالفاتورة التي ينبغي سدادها لتحقيق النهضة الاقتصادية التي يسعى إليها النظام، وهو الخطاب الذي يروّجه الإعلام.

على مرّ الحقب، بقي أهالي الحي منجماً تصويتياً سهلاً لكل سلطة تأتي،وآذاناً واسعة تستقبل الوعود التي تقدمها الأنظمة المتوالية، بإيمان لا تملك سواه. كما شكّل الفقر سلاحاً هاماً في الحشد للنظام السياسي القائم كما لمعارضيه، ولاسيما الإخوان المسلمين الذين أنشؤوا نظاما متماسكاً من المساعدات الاجتماعية والطبية.

غياب اهتمام الدولة بهذه الأحياء ذات الطابع العشوائي، يفسره إدراكها بأنها لا تشكل خطراً سياسياً على السلطة الحاكمة، فغضب هؤلاء السكان موجه ضد بعضهم البعض وليس ضد السلطة، ونادراً ما يتذمر أهالي المنيب منها، وحتى إن فعلوا، فيكون من أجل مطالب فئوية ليس لها طابع سياسي.

خلال "ثورة يناير"، كان المنيب الأمل الأخير لبعض رموز نظام مبارك للتصدي لجحافل الثوار الغاضبة التي ترفض مغادرة ميدان التحرير. فالبلطجية الذين كانوا العصا القوية لترهيب منافسي حزب مبارك خلال الانتخابات السابقة للثورة، ووسيلة للحشد يعتمد عليها بفاعلية خلال أي دورة انتخابية في الحي (كما في نزلة السمان المجاورة)، أُسندت إليهم مهمة مصيرية: الذهاب بالجمال والأحصنة والأسلحة البيضاء لترهيب وتفريق المتظاهرين في صباح 2 شباط/ فبراير 2011، في الحدث المعروف بـ "موقعة الجمل". لكن المهمة فشلت ووقع نظام مبارك في ورطة جديدة ساهمت في إزاحته عن السلطة بعد 9 أيام من ذلك .

أما القسم من الأهالي الذين آمنوا ببصيص الأمل مبكراً، وشارك بعضهم في حرق قسم شرطة الحي، إبان الفوران الثوري في 28 كانون الثاني / يناير 2011، ونظموا العديد من الاحتجاجات الصغيرة، للمطالبة بإصلاح أوضاعهم في الفترة التالية،فهم ما لبثوا أن شعروا بالخذلان تجاه نخبة ثورية وإسلامية نظرت لمطالبهم كوقود لحراكها لايستحق الأولوية، بل واعتبرت بعض وسائل احتجاجهم – كقطعهم الطرق للضغط لتحسين أحوالهم- كنوع من البلطجة.

أما السيسي،فلم يفكر في أساليب إبداعية جديدة تجذب أهل الحي للتصويت. فاكتفى باللعب على وتر الفقر، عبر مبالغ مالية ومساعدات عينية تصرف لكل من يصوِّت، وعمليات حشد إجبارية بواسطة الشرطة والبلطجية، الذين طافوا بعض المنازل خلال التعديلات الدستورية في نيسان / أبريل الماضي، بحسب شهادات لأهالي، لإجبارهم على الذهاب لصناديق الاقتراع.

بؤس تفاقمه البطالة

نتيجة التنافس العددي الضاغط، تصبح فرصة العمل نادرة. يحاول الشباب في الحي بلا كثير جدوى إيجاد عمل يوفر دخلاً يومياً يكفيهم، أو يساهم في احتياجات أسرهم، وسط فقر مستشري وأفق مغلق أمام وجوههم. هذه البطالة والدخل غير الكافي، يقيدان الشباب، حتى من اقترب منهم من سن الثلاثين، في منازل آبائهم دون القدرة على تحقيق استقلال سكني أو زواج.

الضغط على فرص العمل له فوائد أيضاً، إذ يجعل البعض يبدع وسائل بسيطة لتدبير أموره، فهناك شباب يخرجون بعربات صغيرة لبيع المكرونة "الإندومي" الساخنة لتلاميذ المدارس، وآخرون يفتحون "فاترينات" (عربات زجاجية) لبيع ساندوتشات الكبدة. غيرهم يُقبلون على شراء "تكاتك"والعمل عليها كسائقين، لنقل الأهالي في ظل غياب أية وسيلة مواصلات أخرى داخل الحي. بعض الموظفين الحكوميين الذين لا تكفيهم رواتبهم، يجدون في"التكتك" وسيلة دخل إضافية لأسرهم تساعدهم على توفير "عفش" زواج بناتهم. أية مهنة تنجح في المنيب يُقبل عليها الآخرون بزخم، فنجاح التكاتك دفع عدداً كبيراً لشرائها والعمل عليها، ما بات يشكل تخمة في شوارع الحي الضيقة، حتى أصبح عددها يفوق عدد المتنقلين فيها.

البلطجية كانوا العصا القوية لترهيب منافسي حزب مبارك خلال الانتخابات السابقة للثورة، وقد أُسندت إليهم مهمة الذهاب بالجمال والأحصنة والأسلحة البيضاء، لترهيب وتفريق المتظاهرين في صباح 2 شباط/ فبراير 2011، في الحدث المعروف بـ"موقعة الجمل". لكن المهمة فشلت ووقع نظام مبارك في ورطة جديدة.

وللبطالة وجوه عدة قبيحة. فبعض الشباب يميلون للدخل المريح بعيداً عن المشقة و"ذل العمل لدى الآخرين"، من خلال توزيع المخدرات على نواصي الشوارع والمناطق الحيوية خلال الليل. مهنة خطيرة، ولكنها ممكنة باحتياطات بسيطة كرقابة الشوارع الجانبية عبر تعيين بعض "الناظرجية" للإبلاغ بقدوم الشرطة والاحتماء بكبار البلطجية، وخفض العمل خلال شهور نهاية العام التي تشهد كثافة في الحملات الأمنية لتسوية "المحاضر".يمكن أن يمر كل شيء بسهولة، وينهي الموزع ليلته بجمع مئات الجنيهات، وهو مبلغ لن يكسبه خلال عمله لمدة أسبوع في أية مهنة أخرى مشروعة.بفضل بيع الحشيش والترامادول وحتى الأقراص المقوية جنسياً، أصبح المنيب موقعاً رائجاً لتجارة هذه المواد.

في موقف "التكتك" بمدخل الحي، على مقربة من قسم الشرطة، يدلّك الجميع بدون تردد إلى "الدولاب" (موزع المخدرات) في المكان، الذي يعمل بشكل علني تقريباً في ظل غياب واضح للشرطة في الشوارع. وتتداول صفحات وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات في هذا الشأن منها لموزع مخدرات يتنافس عليه المشترون بشدة للحصول على مبتغاهم قبل أن تنتهي بضاعته.

شباب آخرون يتجهون إلى البلطجة والنشل كوسيلة لكسب عيشهم،حيث أضحى سائقو الموتوسيكلات مصدر رعب للأهالي. هؤلاء النشالون ينتظرون لحظة رؤية هاتف على أذن شخص أو حقيبة سيدة في يديها، ليظفروا بها في لمح البصر ويذوبوا كالملح.

جراء البطالة المستشرية والحياة الضاغطة وصعوبة الزواج، أصبح حي المنيب منجماً خبرياً لأقسام الحوادث والجريمة في الصحف المصرية، ولاسيماالقتل والاغتصاب. تذكر الصحف أن عاملة في مستشفى تعرضت للاغتصاب من ثلاثة سائقي تكاتك في المنيب في آذار/ مارس 2018، وأن بلطجية لم يرحموا توسلات سيدة حامل اغتصبوها في كانون الأول/ ديسمبر الماضي بعدما أجبروا زوجها على الوقوف بسيارته وضربه، وأن 12 "ذئباً بشرياً" آخراً تناوبوا على اغتصاب فتاة في الحي في عام 2013، وقدموا شهاداتهم "ببرود" إلى النيابة قائلين بأنهم لم يندموا على ما فعلوا.

البلطجية وإدارة الأمن في الحي

هذا ما يرتكبه صغار البلطجية، أما الكبار فيحظَون باحترام ممتزج بالخوف في مناطق الحي، حيث يلجأ إليهم الأهالي لحل المشكلات الصغيرة، كخلاف مالي أو شجار صغير بين أسرتين. بمرور الوقت، عزز هؤلاء البلطجية روابط قوية مع نواب برلمانيين،شكلوا نواة أساسية لحشد الأصوات وترهيب المنافسين،وأكسبتهم هذه الروابط مكانة اجتماعية مميزة.

ترتاح الشرطة لوجودهم أيضاً للسيطرة على صغار البلطجية من أية حماقات كبيرة، أو لتسهيل عملية القبض على ملاحقين. في المنيب، تستطيع الشرطة القبض على مرتكبي الجرائم بسرعة لا تُصدق، والفضل يرجع لهؤلاء البلطجية النافذين الذين تسند الشرطة لهم بعض الأدوار الصغيرة، ضمن عقد اجتماعي متوارَث،كأن يكونوا عينها-في حيٍّ يحتاج أعداداً ضخمة غير متوفرة من رجال الأمن - مقابل السماح لهم بنفوذ اجتماعي، والتساهل مع جزء من نشاطهم غير الشرعي. بعد الإطاحة بمرسي في 2013، ساعد هؤلاء الشرطة في ملاحقة أعضاء جماعة الإخوان المسلمين أو المقربين منهم.

بعض الأهالي يلجؤون إلى أئمة المساجد للعب دور الصلح في حل مشكلات أخرى. لكن يبقى دورهم هامشي، إذ ساهم تصاعد درجة العنففي خلافات الأهالي إلى إقصاء الشيوخ من دور الوسيط،والاعتماد أكثر على البلطجية النافذين.

غياب الشرطة والرعب منها

ينعكس اعتماد الشرطة على البلطجية والأهالي في تسوية خلافاتهم المحدودة، في الغياب الملحوظ لانتشار رجالها في الشوارع بالمنيب، طالما أن هذه الخلافات لا تصل إلى درجة تهديد عالية،أو لا تشكل تعدياً على سلطات رجال الأمن أنفسهم.

مع ذلك، لا تنسى الشرطة فرض سطوتها بالقوة المفرطة، وخارج القانون على الأهالي لإشعارهم بأن لها اليد العليا المطلقة التي ينبغي خشيتها. فمن حملات التفتيش العنيفة بين الحين والآخر، إلى الاعتقالات التعسفية لمشتبهين بهم، والاتهامات والإهانات المستمرة، تركّز الشرطة على تذكير الأهالي دائماًبمدى ضعفهم أمام سلطتها.

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، قُتل سعد سعيد، شابمن الحي تحت التعذيب في قسم الشرطة، عقب احتجازه جراء مشاجرة وقعت بينه وبين بلطجية هاجموا منطقته السكنية. تفصح الشهادات بشأن هذا الحادث عن كيفية تعامل الشرطة مع المواطنين: السحل والضرب العنيف بكعوب الأسلحة والعصي أمام أهالي الحي للإذلال، ثم التعذيب المبرح، مع تلفيقات سهلة بحيازة سلاح أبيض. وحينما يموت السجين، تكفي مكالمة صغيرة لأهله لإبلاغهم بوفاته.

يدرك رجال الشرطة جيداً أنهم نادراً ما يتعرضون لملاحقات جراء تجاوزاتهم، وإن كانت هناك عقوبات فستكون مخففة. والحادث المذكور خير دليل على ذلك، إذ لم يصدر الحكم على أفراد الشرطة المتورطين إلا بعد مرور خمسة أعوام، وجاء الحكم بالسجن خمس سنوات فقط للضابط الرئيسي. أما إذا كان الهجوم على الشرطة، فهي لا تفكر كثيراً، تعتقل كل من تطاله يدها،ثم تأتي النيابة والقضاء ليكملا المهمة بإنزال عقوبات مشددة على المتهمين.

تستطيع الشرطة القبض على مرتكبي الجرائم بسرعة كبيرة، بفضل البلطجية النافذين الذين تسند الشرطة لهم بعض الأدوار الصغيرة، ضمن عقد اجتماعي متوارَث، كأن يكونوا عينها في حي يحتاج أعداداً ضخمة، غير متوفرة، من الشرطة مقابل السماح لهم بنفوذ اجتماعي، والتساهل مع جزء من نشاطهم غير الشرعي.

لا تنسى الشرطة فرض سطوتها بالقوة المفرطة وخارج القانون على الأهالي، لإشعارهم بأن لها اليد العليا المطلقة التي ينبغي خشيتها. فمن حملات التفتيش العنيفة بين الحين والآخر، إلى الاعتقالات التعسفية لمشتبه بهم، والاتهامات والإهانات المستمرة، تركّز الشرطة على تذكير الأهالي دائماً بمدى ضعفهم أمام سلطتها.

أمام سلطة غاشمة بمقابل هشاشة السكان، يندفع البعض للبحث عن طرق مبتكرة للإفلات. أصبح إظهار الانتماء السياسي الموالي للنظام في الحي وسيلة للبعض للتحايل على هذه القبضة الأمنية. يكفي أن تضع صورة السيسي بالزي العسكري على واجهة المنزل أو السيارة وستنجو من بعض المضايقات. أحد المتهمين في قضية "حرق نقطة شرطة المنيب"، الذي وقع في كانون الثاني/ يناير 2015، أدرك ذلك. فخلال المحاكمة، كتب على قميصه "تحيا مصر ويحيا الرئيس السيسي وجيش وشرطة وقضاء مصر".كانت هذه الجملة كافية لأن تفلته من حكم مشدد بالسجن 10 سنوات، ف"أعيدت" محاكمته من جديد، على عكس أقرانه في القضية ذاتها الذين نفذ فيهم ذلك الحكم.

لم تكن مطالب أهالي المنيب يوماً كبيرة. خدمات بسيطة ووظائف تسمح بدخل يكفي معيشتهم، دون الحلم بمستقبل كبير... ربما لم تعد هذه المطالب مطروحة بقوة مثلما كان الوضع قبل وخلال الأعوام التالية لثورة يناير. بل تتمادى لدى الأهالي الرغبة بأن تتمادى الدولة في نسيانهم، مع تحولها بجميع سلطاتها إلى عبء أكثر مما هي وسيلة لتنظيم حياتهم وحل مشكلاتهم.

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه