عاصمة أخرى لمصر، تتلافى "25 يناير" أخرى

كان مشروع جمال مبارك و"لجنة السياسات" التخلص من المجتمع وهمومه والمسؤولية عنه، والاكتفاء بما قُدّر وقتها بـ5 ملايين مصري "نافع". وهنا فلن يتمكن الناس من الوصول الى العاصمة الجديدة، ولا مسّها.
2018-09-06

أمنية خليل

معيدة واستاذة مساعدة في جامعة مدينة نيويورك CCNY، من مصر


شارك
زينة عاصي - لبنان

في آذار/ مارس 2015، تَمّ الإعلان عن إقامة عاصمة إدارية جديدة من قبل عبد الفتاح السيسي، الرئيس الحالي لجمهورية مصر العربية، خلال مؤتمر "دعم وتنمية الاقتصاد المصري". استطرد الرئيس في شرح مشاكل الكثافة السكانية في مصر وزيادتها التي لا تنتهي.. ما سمعناه مراراً وتكراراً منذ ثمانينات القرن الفائت. جاء ذلك ضمن خطاب عالمي تنموي، وضع نصب عينيه فقراء البلاد في العالم الجنوبي وأطفالهم، معتبراً أن زيادة أعدادهم هي السبب الرئيسي في انهيار اقتصاد الدول التي تقع خارج دائرة التنمية، وذلك بالضد من النظريات الاقتصادية الحديثة، التي افترضت بعد الحرب العالمية الثانية وانتهاء الاستعمار في العالم، أن كل الدول سوف تنمو بشكل طردي. وبالطبع، اثبت الواقع (والعديد من المنظّرين الاقتصاديين) ان نظريات الحداثة تلك لن تتحقق، بسبب ان الدول الاستعمارية ستظل مهيمنة على مركز القوة (بمعناه المتعدد) بينما ستقع بقية الدول ومنها تلك المُستعمرة سابقاً على أطراف تلك الدائرة لتظل في وضع اقتصادي لا يهيئ لها ان تنمو أو تتطور. لم يُثبط هذا التفارق النظري الأمم المتحدة عن الاستمرار عن اصدار خطابات تنموية تصر على التأكيد على مشاكل الكثافة السكانية، ومعها خطابات "توعوية" تتميز بالفوقية وبعدم مراعاتها لثقافات الشعوب. تكمن المشكلة في التأكيد على اقصاء الاسر التي لا تتكون من أربعة افراد، واقصاء الأمهات المعيلات، بل واقصاء كل من لا يندرج تحت مظلة شكل الاسرة الصحية المقبولة في العالم.. علاوة على تجاهل قيمة العمالة في تلك الاسر ودورها الإنتاجي في اقتصاد بلدانها.

وبالتزامن مع ذلك، لم يتغير كثيراً خطاب الدولة المصرية حول مفاهيم الزيادة السكانية، ولم تعد النظر في النظريات التنموية العمرانية وغيرها، التي نصت على الخروج من المدينة العاصمة وبناء تجمعات سكنية جديدة في محيطها، وهي الخطة التي تبنتها السلطات المصرية في سبعينات القرن الفائت، بهدف التخفيف من الكثافة السكانية في المركز وانشاء مراكز صناعية ومهنية وسكنية في أماكن أخرى. وتجمدت الدولة المصرية عند هذه النظرية، ولم تنظر الي تطبيقاتها في محيطها الجغرافي. المدن الأربع الاولى ضمن المشروع تضمن مدينة "السادس من أكتوبر"، و"السادات"، و"العاشر من رمضان"، و"الخامس عشر من مايو". لاحقا تضخمت اللائحة لتضم 20 مدينة جديدة، كان من المخطط لها أن تستوعب 3.5 مليون نسمة في عام 2006، و8 مليون عام2017. ولكن في عام 2006، لم يتجاوز تعداد سكان تلك المدن الـ800 ألف نسمة طبقاً لإحصاءات الهيئة العامة للتعبئة والاحصاء.

تقع العاصمة الإدارية الجديدة على بعد 45 كيلومتراً من مركز وسط القاهرة، وتضم حياً حكومياً مؤلفاً من 18 مبنى وزارياً اضافة الى مباني الرئاسة والبرلمان ورئاسة الوزراء، ووزارة دفاع مصممة على شكلٍ مثمَّن، تبلغ مساحتها خمسة أضعاف مبنى البنتاغون!

تركز السلطات المصرية ليس على المحيط ولا على الوقائع، وهي ليست عمياء، بل مهتمة بتاريخها المعاصر وبالمحاولات المستميتة لحماية القلاع المنصوبة حول الرئاسة والحكومة و"كبارات" البلد كما يقولون في الشارع المصري. فمنطق العاصمة الإدارية الجديدة ليس معنياً بالزيادة السكانية، ولا بالاستثمار في حد ذاته، بل هو يقوم بالأساس على اعتبار أمني بحت: حماية مؤسسات الدولة وكياناتها من الشباب الثائر الذي قام بتعطيل منشآت الدولة في اعتصاماته في عامي 2011 و2012. هناك وعلى مدى عامين ونصف تَمّ تعطيل المنشئات الحيوية في وسط المدينة، وهي "مجمع التحرير" الذي يحتوي على عدة مصالح خدمية حيوية لسكان مصر، ويقصده يومياً الآلاف من المواطنين لإنهاء معاملاتهم الرسمية، وهو يقع في ميدان التحرير، "مبنى الإذاعة والتلفزيون" ("ماسبيرو") الواقع شمال ميدان التحرير في مثلث ماسبيرو بحي "بولاق أبو العلا"، "مبنى مجلس الشورى"، "مبنى مجلس الشعب"، "مبنى مجلس الوزراء" ورئاستها الواقع في منطقة "المنيرة" جنوب ميدان التحرير، "مبنى وزارة الداخلية" الواقع في شارع "الشيخ ريحان" المتفرع مباشرة من شارع "القصر العيني"، على بعد أمتار قليلة من ميدان التحرير، "مبنى وزارة العدل" في "لاظوغلي" بشارع مجلس الشعب ويقع بين مجلس الشعب ووزارة الداخلية، "مبنى أمن الدولة" (المسمى بـ"الأمن الوطني" بعد ثورة يناير) الواقع بميدان "لاظوغلي" هو الآخر. هذا بجانب وقوع عدد من الوزارات منها "وزارة التربية والتعليم"، و"وزارة الإسكان" وغيرهما في منطقة المنيرة.

مقالات ذات صلة

كل اعتصام وتظاهرة ومسيرة في ميدان التحرير أدت الى شلل كلي أو جزئي لمؤسسات الدولة الرئيسية، بل طال الشلل أهم مؤسساتها الأمنية على الاطلاق، وهي "وزارة الداخلية" التي اضطرت لنقل اعمالها الى خارج مبناها. صار كبار رجال الدولة والمتحكمين في مصائرها يتساءلون كيف لهؤلاء الشباب - واصفين إياهم بـ"العيال" للاستهانة بهم - أن يعطلوا مصالح الدولة ووظائفها الحيوية بغلق مداخل ومخارج الشوارع الرئيسية، علاوة على تعطيل حركة المرور. وامتد السؤال الى شرائح أخرى، وأخذ منحى طبقياً ضد شباب ذوي هيئات متواضعة بل فقيرة، منهم العاملين بالمياومة وآخرين يعملون بمهن صغيرة تدر عليهم أجراً يومياً بالكاد يكفيهم... وافتُرض أنه لا يليق بهم أن يثوروا!

تلك هي إحدى جوانب الصورة التي توضح دافع السلطة الجديدة (سلطة السيسي وحكومته) لانشاء عاصمة إدارية جديدة. وهو يشبه النهج الذي اتبعه كل حكام مصر "المستعمِرين"، حيث يتم إنشاء عاصمة جديدة بمجرد انجاز الغزو العسكري لأي مدينة! عمرو ابن العاص الذي أقام "الفسطاط" في 641 ميلادية، وصالح بن علي العباسي في 750 ميلادية، أول والٍ لمصر في العصر العباسي الأول، الذي أسس عاصمة إلى شمال الفسطاط، وبديلاً منها، وأطلق عليها اسم " العسكر"، تلتها "القطائع" التي بناها أحمد بن طولون في 868 ميلادية، ثم القاهرة الفاطمية أو "قاهرة المعز" والتي عمّرها جوهر الصقلي في 969 ميلادية والتي امتدت لتصبح القاهرة التي نعرفها الآن... وهو منطق يحركه إثبات الوجود، وانشاء مقر مغاير للحكم. وأما المنطق المرادف فكان بناء حصون عسكرية على أطراف المدينة للحماية من الأعداء..

هذه عاصمة الدولة ورجالها وكبار أفرادها الذين يعملون بدأب ليضمنوا أن العامة من الشعب المصري والأفراد من "حثالته" لن يستطيعوا دخول قلعتهم الحصينة المشادة بعيداً، في عمق صحراء مصر.

تقع العاصمة الإدارية الجديدة على بعد 45 كيلومتراً من مركز وسط القاهرة و80 كيلومتراً من السويس. تتفاخر الحكومة فتقول انها عاصمة بمساحة دولة سنغافورة، وأن مساحتها هي أربعة أضعاف العاصمة الاميركية واشنطن (مساحتها 170 ألف فدان). العاصمة تضم حياً حكومياً مؤلفاً من 18 مبنى وزارياً اضافة الى مباني مؤسسة الرئاسة والبرلمان ورئاسة الوزراء. كما تضم قطاعاً سكنياً مؤلفاً من 25 حياً، بنحو 101 مليون وحدة سكنية، و40 ألف غرفة فندقية. وهناك أيضاً وزارة الدفاع التي صُممت لتكون على شكل مثمَّن ("اوكتاغون") والتي تبلغ مساحتها خمسة أضعاف مبنى وزارة الدفاع الأمريكية ("البنتاغون")، والى جانب كل ذلك عدد من السفارات الأجنبية. ولا يكفي بالطبع تحليل تصميم العاصمة الإدارية الجديدة، حيث لبناها منطق آخر علاوة على ذاك الأمني، يخص سياسات اقتصادية تتبع أجندة استثمارية...

مقالات ذات صلة

ما نراه هنا هو قلعة محصنة من الخارج تقع على بعد 45 كيلومتراً من مركز القاهرة الذي تم احتلاله في يناير 2011 بغاية الإطاحة بنظام الحكم السابق، وللمطالبة بالعدالة الاجتماعية. العاصمة الإدارية الجديدة هي عاصمة الدولة ورجالها وكبار افرادها الذين يعملون بدأب ليضمنوا أن العامة من الشعب المصري والافراد من "حثالته" لن يستطيعوا دخول قلعتهم الحصينة المشادة في عمق صحراء مصر. فالمسافة لا يمكن قطعها سيراً على الأقدام! وإن أراد الشعب ان يثور على حكامه فهو لن يستطيع الوصول إليهم، ولن يستطيع أن يصل أيضاً الى برلمانه الذي يزعم تمثيل الشعب. لن يمكن لهؤلاء الفتية والفتيات ذلك، كما لن يستطيعوا - حتى يجبروا السلطة على التحدث إليهم - تعطيل مصالح الدولة ومؤسساتها بالاعتصام أمام بوابات المباني الحكومية الحيوية. ولن يستطيعوا الاعتراض على "عجلة الإنتاج" كما هي قائمة. وهكذا تضمن المؤسسة الأمنية للدولة المصرية عدم حدوث "25 يناير 2011" مرة أخرى!

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

معاداة الأخضر ومجزرة الأشجار

أمنية خليل 2024-07-11

ما يحدث هو نزع مباشر لأهلية المواطنة، بمعناها الأوسع. من أن المواطنين يمكنهم اختيار شيء، بل والتحكم بعض الشيء في حياتهم اليومية. نزع صفة التحكم، والقول لهم بكل الأشكال المباشرة...

القاهرة في عشر سنوات... هل نعرفها؟ (2/2)

أمنية خليل 2021-02-01

لم تكتفِ الأجندة العمرانية للسلطة بالمشاريع الكبرى والاستثمار في الصحراء، بل اشتملت "خطة التنمية المستدامة لمصر 2030" على مشاريعَ يتم فيها تحويل القاهرة إلى عاصمة تراثية وتجارية واستثمارية. وهذه التحولات...