تظاهرات تشرين العراقية: ثابت السياسة وتحوُّل المجتمع

ما إنْ اندلعت التظاهرات، حتى جمعت آلاف الشبّان في ساحة التحرير وسط بغداد، وحملت هموماً وقضايا لا تُعد. خرج إليها اليائس والباحث عن عمل، خرج إليها الغاضب على العائلة والعشيرة، وخرج كذلك من يبحث عن مساحة في هذه البلاد الشاسعة، ليصرخ. لكن فكرتين جمعتهما: "الحق" و"الوطن"، وهم لذلك تمسكوا بشعاري "نازل آخذ حقّي"، و"نريد وطناً".
2020-10-16

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
| en
ساحة التحرير، بغداد. تصوير: علي دبدب - العراق

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

زعزعت التظاهرات الواسعة التي شهدها العراق في الأول من تشرين الأوّل / أكتوبر عام 2019، والتي استمرت حتى الآن - وإن بتفاوت في الوقع والحجم - الكثيرَ من المفاهيم السياسية والاجتماعية، وتلك التي تخص طريقة فهم العراقيين لبلادهم وعلاقتهم بالسلطة والسياسة والمجتمع والعائلة...

أثناء التظاهرات وبعدها، تخلّق مجتمع وتقاليد جديدة، وبرز جيل مختلف يحمل نفساً أطول في مقارعة السلطات. هو جيل لم يعرف سوى النظام الذي أُرسي بعد احتلال بغداد في نيسان / أبريل عام 2003، وهو الجيل ذاته الذي عاش تفتّت الهويّة الوطنية الجامعة، وانهيار المنظومة القيمية، وعاصر مدن العراق في أكثر مراحلها بشاعة وعسكرة، وهو جيل لا يعرف من يمارس العنف في البلاد، ولا يُشارك في السياسة، لأن السياسة، على ما يُفسّرها، محتكَرة من قبل مجموعة تسكن في المنطقة الخضراء المُحصنة بالجدران الكونكريتية والأجهزة الإلكترونية المتطورة، وتتصرّف بمعزل عن متطلبات مجتمعها، ولذلك فهو يبغض الأحزاب.. جميعَ الأحزاب.

والجيل هذا، الذي ولد الأكبر سنّاً من بينهم في أواخر التسعينيات، بلا مستقبل. فالبلاد تغرق بوحل سياسات الإفقار والفساد والسلاح والتبعيّة كل يوم أكثر فأكثر، وحديث الإصلاح فيها ليس سوى قبض ريح، والأحزاب والقوى التي عُوّل عليها لبناء قارب نجاة، سرعان ما سبحت مع التيار، وتركت القارب مفككاً وسط الوحل العراقي.

على هذا الأساس، فالتظاهرات التي انطلقت في تشرين الأول / أكتوبر 2019 ويحاول العراقيون اليوم بث الحماسة لاستعادة زخمها، قد زرعت الأمل في الكثيرين، وأطنبت أعمدة يأس جديدة في نفوس آخرين. والانطلاق من الخاص - من العائلة - إلى العام، تبدو لي المحاولة الأجدر لفهم ما جرى خلال عام الأمل والخوف والتفكير. أخي الأصغر وُلد في بغداد عام 2001، وما بين جيلينا فوارق. وقد اعتمدتُ على عدد من الحوارات مع أشخاص من جيلينا أخي وأنا، من طبقات وفئات وأفكار مختلفة، لأفهم كيف بتنا نفكّر.

خلال الأيام الأولى للتظاهرات، سال دم كثير في شوارع بغداد. اتخذ قناصون البنايات العالية، وأغلقت أرتال عسكرية المخارج من المناطق، واعتقل كُثر للاشتباه بأنهم في "سنّ التظاهر"، وصارت بغداد مدينة خارج العالم بعد أن قُطعت خدمة الإنترنت، وأضعفت شبكات الهاتف المحمول. جيلي وصف تلك الأيام بـ"الهزيمة"، ودبَّ الخوف من تغوّل السلطات. وبالنسبة للكثيرين آنذاك، ساد الاعتقاد بأن التظاهرات انتهت.

وفي عرف المجتمعات المستقرة، قد تبدو 13 عاماً هي فارق العمر بيني وبين أخي، أو بين جيلي وجيله، لا تشكّل فارقاً، وقد نُحسَب، ربما، من الجيل ذاته، وقد يكون لدينا الاهتمامات ذاتها، والهموم والتفكير نفسه. لكن العراق، الذي يبدو مختلفاً في الكثير، يُحدِث أيضاً فارقاً كبيراً بين جيلين لا يفصل بينهما أكثر من عقد ونيّف. تبدو المسافة الزمنية، والحال هذه، عقوداً وليست عقداً فحسب.

الاهتمام بالسياسة

على الرغم من أن السياسة في منزلنا - كبقيّة البيوتات العراقية - تأخذ حيّزاً كبيراً من حديثنا اليومي، وتسيطر برامج الحوارات، ونشرات الأخبار على مساحة واسعة من جدول مشاهدة التلفاز، فقلّما سمعت أخي الصغير يتحدث في السياسة أو يبدي رأيه فيها، وهو لا يلقي بالاً لما يحصل في العراق. من ناحيتنا – نحن الذين عايشنا النظام البعثي وحروب صدام حسين وأيام الحصار – فقد رددنا ذلك إلى كونه مراهقاً له عالم خاص، لا نعلم ما يدور فيه. ولكننا كنا على يقين بأنه سيدخل في يوم ما عالم الشغل والمؤسسات الرسمية والتفكير في مستقبله.. وعندها سيهتم بالسياسة، وسيُكوّن رأياً عنها، وسيصبح عراقياً ناصعاً، ناقماً على السلطة.

لكن الشاب بدّد تصوّرنا عنه، ففي أيلول / سبتمبر عام 2019 حشّد، مثل أقرانه، للتظاهرات التي ستنطلق بعد قليل في الأوّل من تشرين الأول / أكتوبر من العام ذاته. من بين خمسة أبناء لوالديّ، بقي هو وأختي في بغداد. وتسللنا نحن الثلاثة، بحجج مختلفة، الواحد بعد الآخر، إلى خارج البلاد.

كتبت له، متعالياً وآمراً، أن "ابقَ في المنزل، فلا شيء سيحصل لو شاركت في التظاهرات". تصرّفتُ كمجرّب، كأخ كبير وككاتب خبر الأحداث وكتب عنها، والأهم منذ ذلك: عاشها. ردّ: "أعرف، لن أُشارك". ولكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ لا أنا، ولا هو كنا نعرف أن تظاهرات تشرين ستكون مغايرة لكل ما عرفه العراق من احتجاجات منذ سقوط نظام صدام حسين. فما إن اندلعت التظاهرات، حتى جمعت آلاف الشبّان في ساحة التحرير وسط بغداد، وحملت هموماً وقضايا لا تُعد. خرج إليها اليائس والباحث عن عمل، خرج إليها الغاضب على العائلة والعشيرة، وخرج كذلك من يبحث عن مساحة في هذه البلاد الشاسعة، ليصرخ. لكن فكرتين جمعتهما: "الحق" و"الوطن"، وهم لذلك تمسكوا بشعاري "نازل آخذ حقّي"، و"نريد وطناً"، واستعملوهما في الأغاني والغرافيتي واللوحات، في المنشورات والبوسترات على مواقع التواصل الاجتماعي.

تمثّل "الحق" في المطالبة بالخدمات الغائبة، بالسكن والطاقة الكهربائية والطرقات المعبّدة والتعليم، وبشكل أساسي: العمل. كل هذه الحقوق مستلبة في العراق، وإذا ما توفّر أيٌّ منها، فإنها توزع دون انصاف بين فئة سكّانية مقرّبة من الأحزاب، أو تحاول هذه الأخيرة استمالتها. أما الوطن فبدا أنّه صورة العراق المهشّمة التي لم يجمعها أحد بعد سقوط النظام السابق، والذي ساد طويلاً، لما يزيد عن ثلاثة عقود..

بالنسبة لجيل أخي الصغير، فكل واحد منهم يحمل وطناً في مخيلته، لكنه وطن جامع: يؤمن بالحريات ويحترم الحقوق ويُعامَل فيه الجميع على أساس القانون. لم يكن في خاطر الشبّان أيُّ تحرّك عنيف، إذ حملوا أعلاماً ولافتات، الرصاص والقنابل الدخانية تطايرت في كلّ مكان. قُتل نحو مئة شخص، وجُرح نحو 4 آلاف خلال الأيام الخمسة الأولى، إذ لم تتوانَ أيُّ سلطة مسلحة في العراق عن قمع هؤلاء الشبّان العُزل.

أيام العنف

مطلبا "الحق" و"الوطن" أرعبا السلطة. خلال الأيام الأولى للتظاهرات (1-5 تشرين الأوّل / أكتوبر 2019) سال دم كثير في شوارع بغداد. اتخذ قناصون زوايا في البنايات العالية في عدد من الشوارع لمحاصرة الشبّان، وأغلقت أرتال عسكرية المخارج من المناطق، واعتُقل كُثر فقط للاشتباه بأنهم في "سنّ التظاهر"، وصارت بغداد مدينة خارج العالم والإعلام بعد أن قُطعت خدمة الإنترنت، وأضعفت شبكات الهاتف المحمول. جيلي وصف هذه الأيام بـ"الهزيمة"، ودبَّ الخوف في الجميع من تغوّل السلطات أكثر. وبالنسبة للكثيرين آنذاك، ساد الاعتقاد بأن التظاهرات انتهت!

بعد أيام عادت خدمة الإنترنت بشكل ضعيف، وظهرت فيديوهات أكثر بشاعة مما تصورنا: قنص في الرأس، وإعدام ميداني في بغداد ومحافظة الديوانية، ورصاص كثير، وكأن القوات الأمنية تقاتل جيش دولة غازية. بالمقابل، فإن إعلام السلطة وذاك المقرّب منها، أخذ يبثّ نظريات مؤامرة عن "محرّكات الاحتجاج" وخلفيّات الشبّان. بل روّج وكأن دول العالم جميعها تدعم هذه التظاهرات، وتحاول إسقاط "النظام الديمقراطي".. لكن من يصدّق؟ صورة دم القتلى والجرحى على مواقع التواصل الاجتماعي أصدق من نشرات أخبار هزيلة لفضائيات لا يشاهدها سوى مموليها.

عودة أخرى

دم الشبّان السائل فوّر الدم في رؤوس الأجيال العراقيّة الأخرى. سرعان ما أُجمع على أن يكون 25 تشرين الأوّل / أكتوبر موعداً للعودة إلى الساحات في نحو 11 محافظة من أصل 18 يتشكّل منها العراق. الجنوب والوسط، الذي تهيمن الأحزاب الشيعية باسميهما على المناصب والوزارات، شكّلا العمود الفقري للتظاهرات. أما في الشمال والغرب، حيث المدن السنية الخارجة توّاً من الحرب على "داعش"، فقد اعتُقل على الفور كل من حرض فيهما على التظاهر. أما الكرد فقد كانوا أساساً يتظاهرون، وإن لم يكن تحت المطالب والشعارات ذاتها.

استُعمل المجال العام كمكان لالتقاء الجميع، لأوّل مرّة، ربما، في تاريخ العراق، من دون أن تسيطر جماعة على جماعة أخرى بالعنف. وكل هذا سياسي. أخذ المجتمع يتشكّل بمعزل عن الطبقة السياسية ونظامها، بل هو يتشكّل في معارضة لها ولطرائقها في إدارة السلطة. كان المجتمع يعيد تشكيل نفسه، ويحاول إيجاد مشتركات ومقترحات للعيش في المجال العام.

ولأوّل مرّة، ألغى هذا الجيل الاعتماد على مقتدى الصدر، السياسي ورجل الدين الشيعي، واعتمد على نفسه في التحشيد. دمّر الجيل أسطورة رددتها الأحزاب المدنية بأن لا أحداً يمكنه تحضير تظاهرة مليونية غير الصدر. لكن هذا الجيل فعلها من دون الصدر ودعمه، حتّى أن الأخير أُصيب بجرح نرجسي، وانقلب على المتظاهرين أكثر من مرّة، وعنّف أنصاره الساحات وزرعوا فيها الرعب. وعلى الرغم من ذلك، فإن أحداً لم ينجر وراء العنف.

تنظيم جديد

اعتمد من يقرأ في جيلنا على المقالات والكتب لمعرفة الطرق والآليات التي تساعد على التنظيم والاحتماء من عنف السلطة في التظاهرات. وفي النهاية، فإن من يقرأ ولا يقرأ اتكل على "الرفاق" من الحزب الشيوعي، أو الإسلاميين الذين قارعوا نظام صدام في النزول إلى الشوارع والسيطرة على الساحات. بالنسبة لجيل أخي، فإن تحشيدهم وقيادتهم للاحتجاجات اتخذت طابعاً منظماً، ليس لأن الكثير منهم انخرط في فصيل عسكري، أو لديه أدنى فكرة عن الترتيبات العسكرية، وإنما لأن لعبة "بوبجي" الإلكترونية جمعتهم! في هذه اللعبة الإلكترونية خاض الكثير منهم معارك للسيطرة على منشآت، ووضعوا سوية خططاً للتقدم على عدو متوهم.

وقد يكون مثال المطعم التركي الأشهر في ذلك. إذ سيطرت حكومة نوري المالكي في 2011، أوّل ما سيطرت، على المطعم التركي وسط ساحة التحرير، ومن هناك أدارت عملياتها ضد التظاهرات، الأمر الذي تكرّر في تظاهرات 2015 و2018. أما في تشرين الأول / أكتوبر 2019، فقد حوّل المتظاهرون المطعم التركي - وهو بناية عملاقة مهجورة تكشف ساحة التحرير وجانباً من جهة الكرخ - إلى قلعة حصينة، وسرعان ما تجمّع فيه المئات، وظلّ شغلهم الشاغل ألا يخسروها لصالح السلطة. وظلّت المناشدات تتوالى طوال الأشهر الأولى من التظاهرات لإرسال "إمدادات" الطعام والشراب والأغطية إلى المتحصنين بالمطعم التركي، خشية أن تدفع الحاجة الشبّان إلى النزول منه وتركه. كان هذا المطعم أشدّ ما أرعب السلطة والفصائل المسلّحة التي تقف خلفها، وهي على هذا الأساس لم تُبقِ خبراً لشيطنته إلا وبثته، بدءاً من تحوّل المطعم إلى وكر للمخدرات والدعارة، وصولاً إلى عمليات القتل الممنهجة داخله وتجارة الأعضاء البشرية.

ألغى هذا الجيل الاعتماد على مقتدى الصدر، السياسي ورجل الدين الشيعي، واعتمد على نفسه في التحشيد. دمّر الجيل أسطورة رددتها الأحزاب المدنية، بأن لا أحد يمكنه تحضير تظاهرة مليونية غير الصدر. لكن هذا الجيل فعلها من دون الصدر ودعمه، حتّى أن الأخير أُصيب بجرح نرجسي، وانقلب على المتظاهرين أكثر من مرّة.

إضافة إلى ذلك، تشكّلت فرقٌ لإخماد مفعول القنابل الدخانيّة من خلال تحويلها من مجموعة إلى أخرى حتّى إيصالها إلى النفق، ومن ثم وضعها في الماء وتغطيتها بغطاء سميك وإبطال مفعولها. واضطلع "التكتك" (دراجة نارية بثلاث عجلات) بأكثر من مهمة، منها نقل الجرحى إلى المستشفيات والعيادات، والمناورة بشكل دائري أمام سيارات مكافحة الشغب، وعجلات رش المياه الساخنة لإبعادها عن المتظاهرين. وتشكّلت مطابخ ومخابز في خلفية ساحة التحرير لرفد خيام الاعتصام بالطعام. انضمت نقابات العمال والمعلمين والمحامين والأطباء إلى التظاهرات، وأضرب بعضها عن العمل، وأخذ كل منها دوراً على عاتقه.

في الجنوب والوسط، أغلق المحتجون مقار الأحزاب، وحوّطت حقول النفط الموانئ والمنافذ الحدودية في مسعًى لتعطيل الاقتصاد. برزت الأصوات التي تطالب بعدم تعطيل أي موارد مالية، ورد المتظاهرون: "هي أموال تأتي وتذهب ولا نلمس منها شيئاً". ورغم التحوّط، والاحتفاظ بالسلميّة إلى حدّ بعيد، فإن القتلى سقطوا بالعشرات كل يوم في بغداد والمحافظات.

المرأة بين جيلين

شاركت المرأة بقوّة في التظاهرات، وحصلت على نصيب وافر من القتل والاغتيالات والإصابات.
مع جيلي، تغيّرت أحوال المرأة قليلاً عن الأحوال التي كانت عليها في جيل آبائنا. فقد بدأت بالعمل، وصارت السيارات التي تقودها النساء في الشوارع المزدحمة كثيرة، صار بإمكانها طلب الطلاق إذا ما تعنّفت. ومع ذلك، فقد ظلّت تحت سلطة الرجل وسطوته، إذ أنه ورغم كفاحها لأجل حقوقها فإن ما حصلت عليه جرى برضا الرجل قبل أن يكون انتزاعاً منه. ظلّت صحافة جيلنا تكتب عن النساء كـ"معاونات" للرجل، وليس كفاعلات.

إلا أنه مع الجيل الذي تظاهر في تشرين الأول / أكتوبر 2019، بدا جيلَ نساء عراقيات مُغايراً تماماً. قادت النسوة الصفوف الأمامية للتظاهرات في أكثر المناطق عشائرية مثل ذي قار والبصرة والديوانية، وبنت أطواقاً بين القوات الأمنية والتظاهرات للحفاظ على السلميّة كما جرى في الناصرية. وحتّى النساء اللواتي سيطرت عليهن الذكورة ومنعتهن من الخروج، شاركن بما يستطعن لدعم التظاهرات، فتبرّعت الفقيرات منهن، العاملات من المنازل، بنصف إيراداتهن القليلة لتأمين الطعام والعلاجات للمتظاهرين، واستعملت أُخريات (لبسن الزي العربي) أعراف العشائر لدفع شيوخها إلى عدم مهادنة السلطات، وأخريات حرضن رجال العائلة للخروج إلى الساحات.

ليسوا منظمين، ولم يتلقوا أي تدريبات عسكرية، ولكن لعبة "بوبجي" الإلكترونية جمعتهم! في هذه اللعبة الإلكترونية خاض الكثير منهم معارك للسيطرة على منشآت، ووضعوا سوية خططاً للتقدم على عدو متوهم. وقد يكون مثال المطعم التركي الأشهر في ذلك.

في الجنوب والوسط، أغلق المحتجون مقار الأحزاب، وحوّطت حقول النفط الموانئ والمنافذ الحدودية في مسعًى لتعطيل الاقتصاد. برزت الأصوات التي تطالب بعدم تعطيل أي موارد مالية، ورد المتظاهرون: "هي أموال تأتي وتذهب ولا نلمس منها شيئاً".

خطاب المرأة كلّه بدا مختلفاً، فهي لم تُعد "داعمة" وإنما فاعلة ومحرِّكة ومشارِكة. وهذا الواقع أكثر ما أرعب أحزاب الإسلام السياسي ورجال الدين، الأمر الذي دفع إلى إخراج صفات ضدّ المرأة لم يعتد العراقيون سماعها ضد النساء ولا بأي وضع أو حال.

مجتمع يتغيّر

حتّى قبل نهاية تشرين الثاني / نوفمبر 2019، بدأت أنباء تتردد عن هرب سياسيين خارج البلاد. قيل إن المنطقة الخضراء - نتيجة زيادة التحصينات الأمنية فيها، فهي كانت بحاجة إلى جيش مدجج لاقتحامها - قد خلت من المسؤولين سوى أولئك المتصدرين للسلطة. السياسيون الذين كالوا الاتهامات للمتظاهرين في البداية، أخذوا يتهربون من الإعلام. بالمقابل، فإن خيم اعتصام بدأت تنتصب في الساحات لأنصار سياسيين ورجال دين وأشخاص مدعومين من جهات خارجية. المتظاهرون لم يقوموا بطرد هؤلاء. بالنسبة لهم، فإن الغالبيّة لها الصوت الأعلى، والساحات للجميع، وليس لأحد أن يُزايد على أحد. كان هؤلاء كلما أصدروا بياناً باسم الاحتجاج، حظوا بالسخريّة والتكذيب، وأبعدوا عن الواجهة.

اضطلع "التكتك" بأكثر من مهمة، منها نقل الجرحى إلى المستشفيات والعيادات، والمناورة بشكل دائري أمام سيارات مكافحة الشغب، ورش المياه الساخنة لإبعادها عن المتظاهرين. وتشكّلت مطابخ ومخابز في خلفية ساحة التحرير لرفد خيام الاعتصام بالطعام. وانضمت نقابات العمال والمعلمين والمحامين والأطباء إلى التظاهرات، وأضرب بعضها عن العمل، وأخذ كل منها دوراً على عاتقه.

هكذا فقد استعمل المجال العام كمكان لالتقاء الجميع، كأوّل مرّة، ربما، في تاريخ العراق، من دون أن تسيطر جماعة على جماعة أخرى بالعنف. كل هذا سياسي، لكن الاجتماع السياسي فيه أكثر من السياسة بمفهومها المجرّد. استطراداً، فإن المجتمع أخذ يتشكّل بمعزل عن الطبقة السياسية ونظامها، بل هو يتشكّل في معارضة لها ولطرائقها في إدارة السلطة. كان المجتمع، والحال هذه، يعيد تشكيل نفسه، ويحاول إيجاد مشتركات ومقترحات للعيش في المجال العام. الساحات ضمّت حلقات غناء ورقص وأجواء احتفالية، لكنها جمعت أيضاً حلقات قراءة قرآن ودعاء. الغرافيتي على الجدران ضمّ رسوماً متحرّرة، لكنه لم يخلو من الرسوم ذات الأبعاد الدينية. وضرب المتظاهرون مثالاً عن الوطن الذي يريدونه لصور تظهر فيها فتاة غير محجبة تتصفح هاتفها المحمول، وعلى بعد متر منها رجل دين معمّم يقرأ القرآن.

لم يعنِ ذلك، ولا بأي حال من الأحوال، أن المجتمع العراقي تخلّص من مآزقه اليوميّة، ولا نزع عنه تخلّفاً وعنفاً اشتهر به طوال العقود الأخيرة. لكن كل ذلك أظهر مدى قدرته على احترام الآخر من دون أن يكون ذلك بتشجيع أو بضغط سلطات عليا سياسية كانت أم دينية أم قبليّة.

سياسة ثابتة

في نهاية تشرين الأوّل / نوفمبر 2019، استقال رئيس الوزراء عادل عبد المهدي. عمت الفرحة الكثيرين، لكن ساحات التظاهر أكدت استمرارها. المطالب أخذت تتلخّص بمحاسبة قتلة المتظاهرين، حصر السلاح بيد الدولة، محاسبة كل من تورّط بملفات فساد، إقرار قانون انتخابي جديد، تشكيل حكومة مؤقتة لإدارة عملية الانتخابات المؤقتة، ومطالب خدميّة أخرى عديدة اختلفت من محافظة إلى أخرى. خلال هذه الفترة استمر عبد المهدي بمهامه، وازدادت القسوة تجاه المتظاهرين، وحاولت السلطات الأمنية (قوات نظامية وفصائل مسلّحة) فض الاعتصامات. كانت كلما واجهت محافظة ضغطاً أمنياً ناشدت أخرى بالتصعيد للتخفيف عنها، وهكذا تداولت بغداد وذي قار والبصرة التظاهرات، وسمّيت كل واحدة منها، بين الفينة والأخرى، عاصمة للثورة.

طوال عمر التظاهرات كنت أتساءل كيف لجيل يفور ويغلي، يملك كثر من أهله وعشيرته السلاح، ولم يستعمله رغم كل المحاولات لجرّه إلى منازلة بالبنادق؟ حصلت على إجابات عديدة رفضت كلّها السلاح، وأحد الشباب قال "لو نحن نحترم أنفسنا لما امتلكنا في البيت ثلاث بنادق". تحدّث الشاب عن ضرورة احتكام الجميع لقانون يضمن العدالة لأي فرد يعيش في العراق "عراقي أو بنغلاديشي أو أي جنسية.. لا يهم"، "ماذا يعني إن مات منا الكثير - نعم نحزن عليهم فهم أرواح لها ماضٍ ومستقبل - لكننا بكل الأحوال سنموت إذا لم نحاول، ولا نريد لمحاولتنا أن تتحوّل إلى حرب أهلية".

الحال، لم يقبل المتظاهرون، وسط الدم الذي سال بينهم، أقلّ من تسمية حراكهم ب"الثورة". وهي بطبيعة الحال ثورة على مستويات عدّة، لكنها افتقرت للكثير. ظهر جليّاً فقر النخبة العراقيّة، وعدم ثقة الشارع بها بعد أن تورّط الكثير منها بالمكاتب السياسية. والثورة على زخمها، إن بقيت بلا إطار فكري يجمعها على المطالب والأهداف، فإنها تتهدّد شيئاً فشيئاً. لكن هذا ليس وحده ما جعلها تتراجع، وإنما أسباب أخرى. أمرُ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، أطلق وحوشاً ضارية إلى الشوارع، وأربك الوضع الداخلي إلى أبعد حد. أنصار الرجلين اعتبرا أن التظاهرات مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، وتشفّي بعض المتظاهرين (وهم عدد قليل) بقتلهما كبرهان على ذلك. بكل الأحوال، هي حجّة للقضاء على التظاهرات، فالمتظاهرون رددوا، منذ البداية، شعاراً يدين إيران وأمريكا وأتباعهما لتخريبهما البلاد: "ذيل.. لوكي.. انعل أبو إيران لابو أمريكا".

كيف لجيل يملك أهله وعشيرته السلاح، ولم يستعمله رغم كل المحاولات لجرّه إلى منازلة بالبنادق. رفضت كلّ الإجابات السلاح، وتحدث الشباب عن ضرورة احتكام الجميع لقانون يضمن العدالة لأي فرد يعيش في العراق، وأنه " مات منا الكثير ونحزن عليهم، لكننا بكل الأحوال سنموت إذا لم نحاول، ولا نريد لمحاولتنا أن تتحوّل إلى حرب أهلية".

أظهرت الحوارات مع الشبّان المتظاهرين أنهم دولتيّون أو مناصرون لقيم الدولة، بينما السلطة الحاكمة هي ضد الدولة، أو حتّى معادية لها، لأنّها - وهذا أبسط مثال - لا تؤمن بالأجهزة الأمنية الرسمية، ويملك أغلب مكوناتها، بما فيهم رجال الدين الكبار، فصائل مسلحة لتدافع عنهم.

ولم تتأخر الطبيعة برفد مأساة جديدة على العراق، إذ حلّ فيروس "كورونا" بين ظهرانيه، وعمّ الخوف من الموت بالحمى والسعال ونقص الأوكسجين في بلد يعاني قطاعه الصحي انهياراً قلّ نظيره.

منح ترامب و"كورونا" السياسيين العراقيين فرصةً لجرّ أنفاسهم، والعودة إلى خلافاتهم الأثيرة بشأن تقاسم المناصب. اختلف زعماء الطوائف واتفقوا على مرشحيَن، وفي آخر الأمر لم يحظيا بالأغلبية وسحب ترشيحهما، ثم جيء بثالث هو مصطفى الكاظمي رئيس جهاز المخابرات، والصحافي السابق، رئيساً لمجلس الوزراء بحكومة امتلك فيها الجميع حصّته. وهي حكومة كالت الوعود، وتعتبر نفسها ابنة حراك تشرين أو على ما يسميها الكاظمي "أحداث تشرين"، ولم تحقّق حتّى الآن أي وعد قطعته للمتظاهرين، ولا يبدو أنها ستفعل. أما محاسبة قتلة المتظاهرين، فاكتفت الحكومة حتّى الآن باعتبار القتلى شهداء ومنح أهلهم حقوقهم مادية. أما الفاسدين فلن يحاسبوا لأن الكثير منهم صاروا في لجان حكومية لا تعدّ ولا تحصى، والقتلة بعضهم صار مستشاراً لدى رئيس الجمهورية. وأخيراً، فإن قانون الانتخابات يجري تسويفه إلى حدّ بعيد خشية أن تفقد الأحزاب المهيمنة أصواتها في الانتخابات المقبلة. وخلال كل هذا، كانت وتيرة الاغتيالات بحقّ الناشطين في ازدياد، والإخفاء القسري صار طريقة جديدة لإسكات التظاهرات، والجرحى لم يجد أحد منهم مستشفى تقطّب جراحهم العميقة. لقد قتل أكثر من 600 متظاهر، وجرح أكثر من 20 ألفاً، ولا يُعرف عدد المغيبين والمغتالين على وجه الدقة منذ بدء التظاهرات وإلى الآن.

دولتيّون

يفهم جيل أخي الصغير أن ما نجح هو ثورتهم الاجتماعية، وإمكانيتهم في السيطرة على المجال العام، واستطاعتهم على التحشيد. يفهم أيضاً أن ما جرى هو خسارة، وأن الدم الكثير الذي سال ما كان يجب أن يسيل. في الأوّل من تشرين الأول /أكتوبر الماضي، وضع أخي صورة تجمعه بصديق قتل في التظاهرات، وكتب "الثورة تصير حتى نعيش حياة أحسن مو نموت". لقد أظهرت الحوارات التي أجريتها مع الشبّان المتظاهرين أنهم دولتيّون أو مناصرون لقيم الدولة، بينما السلطة الحاكمة هي ضد الدولة، أو حتّى معادية لها، لأنّها، وهذا أبسط مثال، لا تؤمن بالأجهزة الأمنية الرسمية، وتملك أغلبها -وحتّى رجال الدين الكبار- فصائل مسلحة لتدافع عنها. وهذه الفصائل المسلحة جرى تأسيسها ليس لدرء خطر خارجي، وإنما، وبالأساس، للسيطرة على المجتمع. بمعنى آخر، فإن جميع هذه القوى تعلم بأنها تقوم بـ"أخطاء" (وهذا أكثر تعبير مؤدب وجدته)، ولذلك فإن الدولة، كمؤسسة حديثة، لا يمكن أن تقدم لها أي حماية، ولذلك فإن الطرق لإدامة وجودها عديدة، منها استمالة جزء من السكّان والسيطرة على الخطاب (إعلام ومنابر ووسائل تواصل اجتماعي) وأخيراً استعمال العنف... والأخير استعمل بوفرة، وبطرق شتّى، منذ 1 تشرين الأوّل / أكتوبر من العام الفائت وحتّى اليوم.

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...