هل القتل في "ساحة الصدرين" في النجف، اعتداء على المعتصمين هناك أم على مقام السيد السيستاني في المدينة المقدسة؟ وهل السيد مقتدى الصدر، صاحب القبعات الزرق أو "سرايا السلام"، يقصد الامرين معاً؟
فبعد هجوم مجموعته تلك هذا الاسبوع على المعتصمين في الناصرية وفي كربلاء وفي البصرة، حيث احرقوا الخيام واطلقوا النار واوقعوا جرحى وفرقوا المعتصمين – ولو لليلة، لأن الاعتصامات تعود فتتشكل بعد كل هجوم عليها، بل يزداد حشدها – ها هم يوقعون هذه المرة ما صار 14 قتيلاً و150 جريحاً في النجف. يقولون تبريراً أنه جرى اطلاق النار عليهم من داخل إحدى الخيام، فردوا بالمثل ما اوقع هذا العدد المرعب من الضحايا في لحظات.
لكنها النجف! فإن كانت عشائر الناصرية قد أصدرت بياناً حذرت فيه من الاعتداء على ابنائها، وتوعدت المعتدين بعظائم الامور، مما مثل مظلة حامية، فقد انتظر العراقيون بيان السيد السيستاني الذي يُدلي به ممثله كل يوم جمعة من قلب العتبات المقدسة. انتظروه بمزيج من الرجاء والتوجس، فلو كان "عاماً"(حتى لا يقال مائعاً)، عرفوا أنه سهل ذبح رقاب أبنائهم في ساحات الاعتصام من بغداد الى كل الجنوب.وهو جاء عاماً فعلاً في هذه الجمعة التي أعقبت بيومين المجزرة. يقول أنه لا يجوز الاعتداء على المتظاهرين السلميين ثم يقول في الجملة نفسها ما معناه أن عليهم أن يكونوا بعيدين عن العنف، وكأنهم هم مرتكبوه. ثم يطالب بحصر التعامل معهم ومع "المندسين" بالقوات الأمنية النظامية، وكأنه يدين الميليشيات.. وهكذا يمضي الكلام موازناً بين معانيه بحيث يلغي بعضه بعضاً.
هي النجف يا قوم، التي حرّكت حتى الحزب الشيوعي العراقي (المشارك في تحالف "سائرون" برئاسة السيد مقتدى الصدر، حيث نال نائبين في البرلمان) فعمد الى اصدار بيان استنكار للمجزرة! لم ينسحب من ذلك التحالف، وجهّل بالطبع الفاعل، إلا أنه تكلم بقوة، لعل سرها أن لا أحد يأبه به بعدما صفى تاريخه بنفسه بتبريره للحرب الامريكية على العراق في 2003، ولاحتلال البلد، وتعاونه مع المحتل، وتساؤله الفلسفي عما إذا كان ذلك يُعد "تحريراً" للعراق.
ولكن لماذا يفعل ذلك السيد مقتدى الصدر الذي لطالما اعتدّ بعراقيته، مزيلاً بياناته بهذه الصفة، والذي أيد التظاهرات، ولو بتذبذب في الحماسة لها، حتى جاءه الجنرال سليماني الى النجف ليناقشه، ويصطحبه معه بطائرته الخاصة، حيث يقيم مذّاك في قم.
العراق: مساران لا يلتقيان!
28-01-2020
السيد الصدر يظن– أو أنه أوهِم – بأنه سيكون القائد الأول وغير المنازع للحالة الشيعية في العراق. فهو الوحيد من بين زعماء "الاحزاب" الشيعية الذي يمتلك حيثية فعلية بل حيثيات: سليل الصدرين، وزعيم تيار هائل لم يتكون على أساس زبائني كما هي حالة سائر التيارات، تيار عماده الفقراء والشباب، وهم الاغلبية الساحقة في البلاد، وهو لطالما توجس من إيران ونفوذها الممتد في العراق، ولم يكن يعتد بتشيعه بشكل متعصب أو مغلق، ولا بشكل سياسي، ولذا فهو مقبول من البيئة السنية.. وقد تشكلت سرايا السلام خلال معركة القضاء على "داعش" من مجموعات قامت بمهمة حماية السكان في المناطق والبلدات والقرى السنية ومنع التنكيل بهم.
لكن مرت مذاك مياه كثيرة، طالت تلك الملامح فخلطتها.
فلأن الصدر هو كل ذلك، فهو الوحيد الذي يمكنه التصدي "لتصفية" الانتفاضة الشعبية الجارية منذ الأول من تشرين الأول/اكتوبر. حاولت سائر الميليشيات بكل ما أوتيت من عنف عارٍ وانفلات تام، فقتلت وقنصت واغتالت وخطفت وجرّدت غارات.. كانت تنتهي كلها بالفشل، وباحراق مقراتها والقنصليات الايرانية معها، وبتوسع الانتفاضة وتنوع الفئات التي تنضم اليها: نساء من كل الاعمار والشروط، وطلبة وفنانون الخ.. وعراقوية تتأكد باستمرار وتنجح في الوقت نفسه بنفي تهمة محاباة الغرب وامريكا عنها. وقد ذهب عادل عبد المهدي على الرغم من تمسك إيران الشديد به، واستطالت أزمة السلطة.
ولأن إيران انتهجت في العراق مسلكاً يمزج الحاجة بالجهل بالحقد بالاستهوان، فقد أثارت كراهية عميقة، تنهل هي الأخرى من جذور متعددة، تاريخية وراهنة. وهي كراهية لا حدود لها، ولا علاج طالما استمر الامعان بالنهج نفسه، وهو ما يبدو انه قائم، بل أنه يستفحل: العراق مستباح اقتصادياً من قبل إيران المحاصرة، تغرف منه ما تشاء وتطلق يد زبائنها من العراقيين في ما يتبقى، فيعرف العراقيون الجوع ويعيشون دمار كل المؤسسات وانهيار كل الخدمات، والعراق مستباح سياسياً من قبل إيران التي تريد أرض الرافدين في جيبها من ضمن أوراق القوة، لتوازن الاستشراس الامريكي عليها.والايرانيون يحلمون بقم بديلاً للنجف.. وهكذا.
ولذا، فإن السيد مقتدى الصدر واهمٌ. فقوة تياره كانت تعود الى تموقعه معارضاً في قلب هذه المعادلة المستحيلة.
وأما أن يُلجأ اليوم الى تجريب محاجات مصطنعة لتبرير الموقف الجديد، فلا طائل منه. فبما أن الصدام في العراق ليس مذهبياً بمعنى انه ليس بين طوائف مختلفة، فقد ابتُدع له تأويل مذهبي: "الشيعة يتصارعون فيما بينهم بينما السنة والاكراد يهنئون في حياتهم بسلام"! فيصبح من الملح عدم تمكين هؤلاء الهانئين، والاسراع بترتيب أوضاع البيت. و"الشيعة" هنا هم على السواء المنتفضون، كما هي الفصائل المتنافسة فيما بينها بشراسة على النفوذ والمال، كما هي التناقضات التي تخترق المرجعية الشيعية..