إنها التعرية الأكبر لأحزاب وتيارات العملية السياسية في عراق "الديمقراطية" المشوّهة. لم تتأخر هذه الأحزاب في تخوين احتجاجات وتظاهرات العراقيين "التشرينيّة" منذ انطلاقها ، ولم يتأخر سلاحها وسلاح مؤسسات الدولة التي تسيطر عليها (وتغتنمها) في قتل الشباب العُزّل الذين خرجوا للمطالبة بـ "وطن" يُعَزُّ المواطنُ فيه وتُحفظُ كرامته وحقوقه.
في بداية تشرين الأول/ أكتوبر وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى مع حجب خدمة الإنترنت وتقطّعها، بدأت حربٌ ضارية في الساعات التي كانت تعود فيها الخدمة، أيام كان القناص بطل المشهد الجهنمي. حين فتحوا صفحاتهم الشخصية، صادف جميع العراقيين المنشورات والصفحات المموّلة حينها. كانت لغتها واضحة وصريحة: تخوين التظاهرات وشيطنتها وربطها بالغرب "الكافر". كان هناك زحامٌ على جدار فيسبوك، زحام بمفردات كالـ"بعثية وأبناء الرفيقات والسفارات"...
في تهمة "خدمة" أمريكا وإسرائيل
07-11-2019
مع إصرار الشباب على انتفاضتهم وثباتهم حين عادوا في 25 تشرين الأول / أكتوبر للاعتصام، أدرك مفكرو كواليس هذه الصفحات الحزبية أنهم على الضفة الخاسرة. وأدركوا أيضاً أن شباب العراق جادّون بانتفاضتهم وواعون لفساد هذه الأحزاب، ويعرفون ما الذي خرجوا من أجله. ركزت هذه الصفحات على التفاصيل هذه المرة. صفحات تلو أخرى، ومنشورات ممولة تلو منشورات صارت تصنع المشهد داخل الساحات كي تلتقطه عدساتها وتهاجمه عبر المنشورات. ومرة أخرى كان الفشل وفيّاً لهم بوجه حقيقة ساحات الاعتصام بالغة الانضباط وناصعة الصورة ووطنية الجوهر، فصار لزاماً على من في الكواليس المظلمة توجيه أقلام ووسائل الظلام نحو طريق آخر.
لم تكن الاحتجاجات العراقية إلا سلمية، فشعارها الأساسي الذي صدحت به الحناجر وتداوله المتظاهرون: "سلمية سلمية". وعلى الرغم من ذلك، تحوّلت جهود التسقيط نحو محاولة تجريد الاحتجاج من هذا الشعار ومحتواه. فصارت تصنع من ممارسات كحرق الإطارات في الشوارع, أو إضرام النار من قبل متظاهرين غاضبين مقتولين بالرصاص في بنايات الأحزاب الفاسدة أو القنصليات الإيرانية في محافظات الجنوب, أو إضراب طلبة الجامعات والمدارس, تصنع منها ذريعة للقتل والعنف المفرط الذي وصل حدّ استخدام مضادات الطائرات لتهشيم رؤوس المحتجين. فبدَت محاولاتها مخزية أمام أرواح ودماء الناس.
لم تكن الاحتجاجات العراقية إلا سلمية، فتحوّلت جهود التسقيط نحو محاولة تجريد الاحتجاج من هذا الشعار، وصارت تصنع من حرق الإطارات بالشوارع، أو إضرام النار من قبل متظاهرين غاضبين، مقتولين بالرصاص، في بنايات الأحزاب الفاسدة أو القنصليات الإيرانية في محافظات الجنوب، ذريعة للقتل الذي وصل حدّ استخدام مضادات الطائرات لتهشيم رؤوسهم.
مرة أخرى، تضيق بهذه الصفحات ووسائل الإعلام ومن هم وراءها السبل، فيندفعون إلى تسقيط شهداء التظاهرات، الذين خرجوا للحصول على حياة كريمة ووطن حُر ودفعوا أرواحهم من أجل ذلك, وأبرز هؤلاء هو أحد أبطال تظاهرات السنوات السابقة، واحتجاجات مطلع تشرين الأول / أكتوبر، وقد أضاف لذلك بطولة من نوع آخر في مماته. هو الشهيد صفاء السراي، المعروف بـ "ابن ثنوة" نسبة لأمه ثنوة التي كانت رفيقة أحاديثه وتفكيره، والذي لم يكن لديه ثابتاً إلا العراق، ولم يكن أحد ليحب العراق بقدر حبه له حسب منشوره الشهير: "ما حد يحب العراق بكَدي". كان صفاء محقاً حين كتب بلغته المبسطة منشوراً مقتضباً آخر في 2016: "بالأخير ما يبقى بس العراق" وحقاً ذهب صفاء وبقي العراق. لكن وحوش الأحزاب "المقدسة" لم يعوا للآن أن مصيرهم الزوال، وأن لا شيء سيبقى غير العراق. حوّلوا بوصلتهم نحو تسقيط الشهيد صفاء السراي بعد أن صار رمزاً للاحتجاج الوطني، وجنّدوا مرتزقتهم للبحث عما يعتبرونه وفق مقاييسهم العقائدية المتطرفة، هفوات ومآخذ على الشهيد صفاء السراي، فنبشوا صفحته الشخصية في فيسبوك، وهاجموا آراءه الوطنية والجمالية وتساؤلاته العقلانية، فكان أصدقاء صفاء العراقيين لهم بالمرصاد، لتُسجّل عليهم خسارة معركة قذرة أخرى، وتجبرهم على التفكير بطريقة مختلفة من أجل تشويه الاحتجاجات أو امتطاء موجتها، فعادوا للعبتهم القديمة: التشبّث بالمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني من أجل فُتات الشرعية.
مساء 3 كانون الأول/ ديسمبر، بدأت ماكينة الإعلام الولائي المتفرّع من أحزاب السلطة بتحشيد الأتباع داخل مجموعات "واتساب" الخاصة بهم، من أجل الخروج في تظاهرة تحت راية "المرجعية"، وبهدف "تنظيف التظاهرة من المندسين" حسب منشوراتهم التي تلقفّتها صفحاتهم على فيسبوك وصرفت لترويجها آلاف الدولارات. تسارعت التوجيهات في هذا الصدد حتى جاء نهار 5 كانون الأول/ ديسمبر ليخرج بعض مئات الأتباع حاملين شعارات المرجعية وهاتفين بأنهم "أبناء المرجعية" وملبين لندائها. إلا أنهم لم يفُتهُم، حين دخلوا ساحة التحرير وسط بغداد، الهتاف ضد البعث والصهيونية وأمريكا، في إشارة لوجود مزعوم لهذه الفئات في الساحة، وأن تظاهرتهم خرجت من أجل تنظيفها. وهي بالضبط خطابات ولغة هذه الأحزاب وسياسييها منذ البدء، بمقابل خطاب المتظاهرين الذي يرفض أيّ تدخل خارجي في الشأن العراقي أمريكياً كان أم إيرانياً.
وسارعت التيارات التي هددت التظاهرات مصالحَها وزعزعت عروشها، إلى تأييد ودعم هذه التظاهرة المشبوهة، حتى أطلق عليها حزب الدعوة الإسلامية الذي احتفى بها، اسم تظاهرة "طرد الجوكر" في إشارة لشخصية الجوكر الشهيرة في فيلم هوليوودي ورمزيتها المتمردة و"التخريبية"، مدّعين أن المحتجين يقتدون بهذه الشخصية.
المرجع الشيعي السيستاني، والذي خرجت باسمه مظاهرات اعتدت على المعتصمين، دعا في خطبة الجمعة 6 كانون الأول/ ديسمبر لعدم استخدام اسم المرجعية من قبل أية جهة أو مجموعة في التظاهرات.
وفي صورة تداولها الناس عبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر واضحاً أن هذه التظاهرة المدفوعة كانت شِبهَ مسلحة، حيث يظهر أحد عناصرها حاملاً بندقية كلاشنكوف، بينما لم يُسجل على ساحة التحرير منذ 1 تشرين الأول / أكتوبر إلى الآن أن سلاحاً دخلها. وحتى عناصر الأمن الذين ينتشرون فيها، كانت مراجعهم العسكرية جرّدتهم من السلاح منذ بدء الاعتصام 25 تشرين الأول/ أكتوبر. بالإضافة لذلك، سجلت الكوادر الطبية وفرق الإسعافات في ساحة التحرير أكثر من 20 حالة طعن بالسكاكين والمشارط، وقعت جميعها أثناء دخول هذه التظاهرة المشبوهة إلى الساحة، لمدة لم تتجاوز الساعتين.
وأكدت تسريبات لعاملين في مؤسسة تابعة لأحد الفصائل المسلحة القريبة من إيران، أنه تم توزيع مبلغ 25 ألف دينار عراقي (عشرين دولار) وبطاقات شحن الهواتف النقالة على المشاركين في هذه التظاهرة، الشيء الذي تحول إلى مادة للسخرية منها ومنهم، فصار المدوّنون يقارنون بين رمزيتَي الـ "25"، ويقارنون بين يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر (بداية الاعتصام) و25 ألف دينار (أُجرة متظاهري الأحزاب).
تجددت الدعوة لتكرار التظاهرة على الصفحات المشبوهة ذاتها، وتكرر ظهور المنشورات الممولة بغزارة هذه المرة. لكن المرجع الشيعي السيستاني، والذي خرجوا بثوب اسمه، سبقهم في خطبة الجمعة 6 كانون الأول/ ديسمبر التي ألقاها ممثله في كربلاء، حين دعا لعدم استخدام اسم المرجعية من قبل أية جهة أو مجموعة في التظاهرات. لكنه جدد قبل ذلك، وفي الخطبة نفسها، التأكيد على وجود مندسين مخربين بين المتظاهرين، وطالب بضرورة فرزهم وطردهم من قبل المتظاهرين أنفسهم، الشيء الذي دعا بعض النشطاء من معتصمي التحرير للقلق من استغلاله لإعادة إنتاج الدخول إلى التظاهرات من قبل الأحزاب الفاسدة بشكل أكثر نعومة. ويعي المعتصمون المتظاهرون أن هذه الأحزاب لن تكفّ عن محاولة تخريب وتشويه التظاهرات من جهة، ومحاولة الظهور بمظهر من يلحق بركبها من جهة أخرى.
تحديث
___________________
متابعة اخبار العراق: "مجزرة السنك"
كانت الخيمة مكتظّة بالناس، وصوت المغني يصدح بأُغنية "إسأل روحك" للسيدة أُم كلثوم، والجميع يتفاعل مع المغني الذي يفترش وأصدقاؤه الأرض. فجأة انقطع عن الغناء وبدأ الحاضرون بالركض من موقع الخيمة في شارع السعدون نحو ساحة التحرير ثم ساحة الخلاني المؤدية إلى مرآب وجسر "السنك"، مكان بداية القصة المميتة. بدأ حريق مفتعل في مرآب السنك فوخلَ الأشرار بسيارتين مدججين بالسلاح وبدؤوا جحيم الرصاص. نحن في مساء الجمعة 6 كانون الأول / ديسمبر.
عدة تسريبات اشارت لانتماء تلك العناصر لميليشيات قريبة من إيران: قوات النخبة التابعة لكتائب حزب الله وعصائب أهل الحق.
كان المشهد حربياً بامتياز، ومجنوناً كذلك. رشاشات متوسطة وثقيلة تسندها صناديق من الرصاص، قاذفات RBG يقابلها متظاهرون عُزّل، ظلوا يُقتلون حتى مطلع الفجر ولم يُنجدهم أحد، ولا نجحت محاولة "سرايا السلام" - الجناح المسلح للتيار الصدري الذي يتزعمه رجل الدين مقتدى الصدر- بخلق طوقٍ بشري، حيث سقط 3 شهداء من عناصره، فتراجعوا.
ألقي اللوم من قبل مراقبين وناشطين على القوات الأمنية المكلفة بحماية المتظاهرين، وتساءلوا عن جديتهم في أداء هذه المهمة وعن كيفية دخول هذه العناصر إلى ساحة التظاهر ومرورهم بنقاط التفتيش الكثيرة المنتشرة بشوارع العاصمة بغداد.
على خطٍّ موازٍ، بدأ إعلاميون ومدونون قريبون من التيار الصدري بتصدير فكرة أن "سرايا السلام" أنقذوا المتظاهرين من مجزرة.. بينما كانت ساحة التحرير - بعد شيوع خبر ما يجري -تستقبل متظاهرين بغداديين وخصوصاً من "مدينة الصدر" ليرتفع صوتهم بمقابل صوت الرصاص هاتفين بشعارات التظاهرات.
وعند الصباح أعادت الشمس المتظاهرين لممارساتهم: مجموعة ينعون الضحايا، مجموعة في جانب آخر يعيدون الحياة للغناء ومجاميع تنظّف الساحة...
وفي موقع الحادثة لم يكن هناك سوى الدماء، التي حاوطها الناس بالشموع، وآثار الرصاص التي تملأ كل شيء، ثم عاد المتظاهرون الى جسر السنك وساحة الخلاني.