العراق: مساران لا يلتقيان!

تنديد السيد مقتدى الصدر بالوجود الامريكي في العراق – وهو موقف دائم له وقديم – اندرج هذه المرة في خدمة النفوذ الايراني، بعكس سياق الوطنية العراقية التي لطالما نادى بها.
2020-01-28

علي شمران

كاتب وصحافي من العراق


شارك
من المواجهات في العراق

يرجح أن يكون السيد مقتدى الصدر قد اختار لاطلاق تظاهرته - التي نعتها مسبقاً بـ"المليونية" - منطقة الجادرية في بغداد بدلاً من ساحة التحرير مثلاً، التي مضى على تشكلها كرمز للثورة، أربعة أشهربالتمام، أو أية ساحة إعتصام أُخرى في العاصمة، لادراكه مقدار رفض المعتصمين محاولاته ركوب حركة الاحتجاج ومصادرتها، كما فعل في 2015. وهو إدراك يتغذى من ينبوعين: أولاً من تجرّؤ الشباب بشكل علني على انتقاد كتلة "سائرون" ومشروع الصدر السياسي العسكري، وثانياً لأن مظاهرة الجادرية في 24 كانون الثاني / يناير كانت لديها وظيفة سياسية وليس شعبية. وهو ما يفسر أيضاً أنها كانت خاطفة، فانتهت خلال ساعات قليلة، بعكس ما كان متوقعاً لها. فالتنديد بالوجود الامريكي في العراق – وهو موقف دائم للسيد الصدر – اندرج هذه المرة في خدمة النفوذ الايراني في العراق، وقد اشترك في التظاهرة قادة الفصائل المسلحة المرتبطة بالحرس الثوري الايراني، وعناصر هذه الفصائل أيضاً، وهتف بعضهم بشعار "أمريكا برّه برّه، طهران تبقى حرة"، في تحوير يفتقد تماماً لأي خيال (وليس فحسب للسياسي منه) للهتاف الذي انطلق منذ 2015، وشارك فيه التيار الصدري نفسه بل وهُتف به في داخل البرلمان عند اقتحامه وقتها: "إيران برّه برّه، بغداد تبقى حرة"!

كانت هذه الدعوة إذاً، وما طبعها، أقرب الى فرصة للاعلان عن الموقف: السيد الصدر هو الوحيد القادر على اخراج تظاهرة حاشدة – وليس تحريك كتائب الموت تحت مسمى "المجهولون" كما هو حال سائر الفصائل المسلحة المرتبطة بالحرس الثوري الايراني. مظاهرة مناهضة للتظاهرات والاعتصامات الشعبية والاحتجاجية، ولكنها تتلافى الصدام المباشر معها في بغداد نفسها، وتنشغل بتسجيل التغيير الرسمي في موقع وموقف السيد الصدر: ضمن الخطة الإيرانية بل وقائداً لها في العراق بحكم شعبيته، حيث ترددت أقوال بانه تقرر وضع قوات الحشد الشعبي كلها بامرته.

مظاهرة الجادرية التي دعا اليها السيد الصدر في 24 كانون الثاني/ يناير كانت لها وظيفة سياسية وليس شعبية: الاعلان الرسمي عن التغيير في موقع وموقف السيد الصدر.

أما في الناصرية، فالوضع مختلف، وبعض قيادات التيار الصدري انشقت عنه بشكل علني بسبب انعطافته، ولذا وجب تأديبها: هوجم اعتصام ساحة الحبوبي بشكل أراد اثارة الرعب، وحرقت خيامه وافترض انه قد قُضي عليه، ليعود في الصباح كما كان بل وأقوى. وكانت "مهلة" الأيام الثلاث التي وجهت الى السلطة في الاسبوع الماضي قد أطلقها متظاهرو الناصرية، وتفاعل معها معتصمو ساحات المحافظات الأخرى وفي مقدمتها "التحرير" ببغداد.

استعادة لتسلسل التاريخ القريب

ضاقت الدوائر على أحزاب السلطة العراقية منذ انفجار الغضب والاحتجاجات في مطلع تشرين الاول/اكتوبر 2019. وازدادت الإدانة للأحزاب الشيعية ذات الإمتدادات المسلحة، مع كل رصاصة من فوهة قناص، ومع كل قنبلة غازية مهشِّمة للرؤوس ..

كان الحرج يتضاعف، على الرغم من استمرار ممارسات القمع والترهيب والقتل، ما أجبر بعض قادة هذه الأحزاب على الحديث بلسان غَزلي مع المتظاهرين وقضيتهم. بلا طائل. كما لم يأت تعويلهم على عامل الوقت وملل المحتجين بثمار، فكلما ظنوا ذلك ردّت ساحات الإعتصام العراقية بمليونية، حتى جاء ثالث أيام العام الجديد، 3 كانون الثاني/ يناير، بنبأ اغتيال قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وصاحبه المؤتَمن، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبي مهدي المهندس، بصواريخ الطائرة الأمريكية المسيّرة في العاصمة العراقية بغداد.

أفسح مقتل سليماني والمهندس مجالاً لعودة القوى السياسية والمسلحة القريبة من إيران إلى الواجهة. وهي لم تتأخر في الإنقضاض على الفرصة واستثمارها بأمثل صورة، فارتفع صوتها وملأ قادتها الشاشات ولم يفُتهم التلميح للعداء الذي يضمرونه لثوار "تشرين" العراقيين، خصوصاً بعد تغريدة وزير خارجية الولايات المتحدة التي زامنت خبر مقتل القائدين، والتي سَوّق فيها أن متظاهري ساحة التحرير في بغداد إحتفلوا بمقتلهما، وكأنه يقدم رقابهم لسكاكين الانتقام.

زامنت تغريدة وزير خارجية الولايات المتحدة، مارك بومبيو، مقتل سليماني والمهندس بصاروخ من طائرة امريكية مسيرة، وهو سَوّق فيها أن متظاهري ساحة التحرير في بغداد إحتفلوا بمقتلهما، وكأنه يقدم رقابهم لسكاكين الإنتقام.

ازداد زخم "التخوين" مع ارتفاع أصوات الإنتقام لسليماني والمهندس، وامتلأ الفضاء بمحللين تنتهي تحليلاتهم بتخوين المتظاهرين حد اتهامهم بخيانة الوطن والاشتراك بقتل القتيلَين.

تضاعف حجم مغانم الحادثة حين جاهر زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بموقف متضامن مع المشروع الإيراني، واندفع – كعادته - حدّ إعلان "المقاومة الدولية" ضد الوجود الأمريكي، التي دعا بقية الفصائل المسلحة للإنضمام إليها. زاره ساعتها عدد من زعماء هذه الفصائل في مقر إقامته في إيران، للاجتماع به، وهو الذي لطالما نعتها بـ"المليشيات الوقحة"، وكان ينتقدها.

____________
من دفاتر السفير العربي
العراق ينتفض: أريد حقي، أريد وطناً!
____________

تضاعفت بعد الاغتيال الامريكي ذاك أحداث القمع والقتل والاختطاف. وتضاعف "تخوين" المتظاهرين بعد انتقال أنصار الصدر من فريق المخوَّنين إلى المخوِّنين. ولم يكن للمحتجين في ساحات الإعتصام إلا أعلامهم العراقية ومواقف نصرة من مرجعية النجف المتمثلة بالسيستاني، والتي لم تنجُ من الإنتقاد وحتى التخوين، حين تكفلت صفحات ممولة، قريبة من الأحزاب المسلحة بذلك، ما فضح بهذه المناسبة حجم الهوّة بين حوزتي النجف وقُم، وأزلية الخلاف بينهما.

تراجعت الأعداد شيئاً فشيئاً. لكن "مهلة الناصرية" الموجهة للحكومة في يوم 10 كانون الثاني/يناير أعادت الحياة والزخم لساحات الإعتصام، التي شهدت هتافات تندد بالوجودين الإيراني والأمريكي (والاسرائيلي والسعودي). كما لم تغب هتافات الثورة المطالِبة بتحقيق الإصلاحات ومحاسبة القتلة وتكليف رئيس وزراء لفترة مؤقتة مهمته التحضير لانتخابات مبكرة، خصوصاً بعد أن تردد أن هناك محاولات لتجديد الثقة بالمستقيل عبد المهدي.

لم تنجُ مرجعية النجف المتمثلة بالسيستاني، من الإنتقاد وحتى التخوين، حين تكفلت صفحات ممولة قريبة من الأحزاب المسلحة بذلك، ما فضح بهذه المناسبة حجم الهوّة بين حوزتي النجف وقُم، وأزلية الخلاف بينهما.

ظهر نائب رئيس مجلس النواب حسن الكعبي (نائب عن "سائرون"، التكتل الذي يتزعمه تيار الصدر) ينتقد المتظاهرين ويكيل لهم الاتهامات.. ودعا السيد مقتدى الصدر لتظاهرة تندد بالوجود الأمريكي، أيدها وحشد لها زعماء الأحزاب القريبة من إيران جميعاً. ووقِّتت قبيل موعد خطبة ممثل السيستاني. وجاء أنصار الصدر والفصائل الأخرى بحافلات تابعة لمؤسسات الدولة من المحافظات خارج بغداد للانضمام إليها.

في اليوم ذاته، وبعد انتهاء التظاهرة - التي لم يطُل عمرُها أكثر من 3 ساعات - ألقى ممثل المرجع الأعلى علي السيستاني في كربلاء الخطبة خاليةً من أيّ تأييد لتظاهرة الجادرية، غير أنها أكدت على ضرورة احترام سيادة العراق، وأن للمواطنين كامل الحرية في التعبير عن الرأي. كما اعادت التأكيد على ضرورة تنفيذ الإصلاحات الحقيقية التي طالب بها الشعب العراقي وقدم في سبيلها التضحيات، في إشارة لأكثر من 600 شهيد و22 ألف مصاب منذ بداية الإحتجاج. ولم يفت الخطبة أن تتطرق لتأخر تشكيل حكومة بديلة لحكومة المستقيل عبد المهدي.

وبعد انتهاء التظاهرة، غرّد السيد الصدر برسالة غاضبة وجهها الى المحتجين في "التحرير"، اتهمهم بالإساءة له، متأسفاً على ذلك وعاتباً عليهم، الشيء الذي دفع المتبقين من أنصاره إلى الإنسحاب من ساحات الإعتصام وشن هجوم تخويني على من بقي فيها.

وانتهى كل هذا السياق في ليلة الجمعة ذاتها، بالقوات الأمنية تحاول فض الإعتصامات، فأحرق عناصر "قوات الصدمة" خيم ساحة الإعتصام في البصرة واعتقلوا المعتصمين وأطلقوا الرصاص على الهاربين منهم، ثم ألحقتها "مكافحة الشغب" في بغداد باستخدام الرصاص الحي، ما دفع المعتصمين للانسحاب من شارع "محمد القاسم" السريع، الذي كان مقطوعاً ومسيطراً عليه من قبل المعتصمين. كما أحرقوا بعض خيَم الإعتصام في شارع "السنك" وساحة "الخلاني" قرب ساحة التحرير.

يتبع..

للكاتب نفسه

محدّث | أساليب العصابات و"فرق الموت" لقمع المظاهرات في العراق

علي شمران 2019-12-07

متابعة لأحداث هذا الأسبوع في العراق: "فرق الموت" تقتحم الساحات وترتكب مجزرة فتقتل بالرشاشات والقاذفات وجاهاً وعشوائياً، خطف متكرر، استغلال لاسم المرجعية الشيعية في تظاهرات مضادة للانتفاضة الشعبية، وطعن للعشرات...