تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
يوم الثلاثين من حزيران/ يونيو 1989 أصبح علامة فارقة في التاريخ السياسي للسودان. فهو اليوم الذي انقلبت فيه "الجبهة الإسلامية القومية" على النظام التعددي البرلماني، لتطرح بذلك السؤال الحيوي عن مدى إيمان تلك الحركة بالديمقراطية. فعلى غير ما كان سائداً في المنطقة، فإن الجبهة كانت كياناً سياسياً معترفاً به. وبتلك الصفة خاضت انتخابات 1986 وحازت على المرتبة الثالثة، لتشكل قوة المعارضة الرئيسية، كما دخلت الحكومة مؤتلفةً مع حزبي الأمة، والاتحادي الديمقراطي.
يوم 30 حزيران/ يونيو من العام الماضي، هو اليوم الذي اختارته قوى الحراك الشعبي التي أطاحت بنظام "الإنقاذ" ورئيسه عمر البشير، لتنطلق في مظاهرات عارمة تؤكد فيها على هدفين مزدوجين: طمر ذكرى انقلاب الإنقاذ تحت قوة وحيوية الشارع، وفي الوقت نفسه مواجهة المجلس العسكري الانتقالي، وتعديل ميزان القوة السياسية لصالح الجناح المدني. فقد جاء "حراك الثلاثين من يونيو" في العام الماضي بعد 27 يوماً من الفض الدموي لجمهورية الاعتصام، التي استمرت على مدى 58 يوماً، متجاوزة اعتصام رابعة العدوية المصري بعشرة أيام، وفي إطار قطع كامل للإنترنت، وسعي حثيث من قبل المجلس العسكري للتواصل مع أجسام سياسية بديلة، من زعماء القبائل والإدارة الأهلية وبعض الشخصيات ذات الصلة بنظام الإنقاذ المطاح به. الإنجاز الذي حققه الحراك الشعبي وقتها تمثل في إعادة فرض "قوى الحرية والتغيير" ("قحت") مفاوضاً وحيداً على ترتيبات الفترة الانتقالية، بعد أن كان المجلس العسكري قد استبعد "قحت" غداة فض الاعتصام.
على أن قوة وحيوية الحراك الشعبي لم توظف في مواجهة العسكريين فقط، ولم تكن شيكاً على بياض، وإنما أيضاً في مواجهة حكومة الدكتور عبد الله حمدوك الذي جاءت به "قحت" رئيساً للوزراء. ففي الثلاثين من حزيران/ يونيو الماضي 2020، انتظم الشارع في مليونية أخرى على الرغم من جائحة الكورونا، لكن هذه المرة تحت لافتة "تعديل المسار" وذلك في إشارة واضحة إلى عدم الرضى عن البطء، وعدم تحقيق إنجاز يذكر. وتكرر الأمر بمظاهرات "جرد الحساب" في ذكرى عام على توقيع الوثيقة الدستورية في السابع عشر من آب/ أغسطس.
على الرغم من أن السودان عايش حراكين شعبيين من قبل، تمكنا من الإطاحة بنظامين عسكريين في عامي 1964 و1985، إلا أن الحراك الأخير تميز بثلاث ظواهر رئيسية: أنه انطلق من الأقاليم قبل أن تنتفض العاصمة، وأن الشباب والنساء سجلا فيه حضوراً ملحوظاً، وأن الشارع استمر حاضراً وفاعلاً في المشهد السياسي، ولم ينسحب بعد إحداث التغيير تاركاً مهمة الحكم للساسة كما حدث من قبل.
ربيع سوداني مختلف
07-08-2019
فانطلاق الحراك الشعبي من الأقاليم مؤشر إلى أن المركز لم يعد اللاعب الوحيد في المشهد السياسي، وهو إحدى صور جدل المركز والهامش الذي تبلور في شكل حركات متمردة في دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. هذا إلى جانب عامل الإفقار والتجاهل المستمر للأقاليم، وأبرزه حقيقة أن انطلاق المظاهرات في مدينة عطبرة مثلاً في شمال السودان جاء بسبب أنها أول مدينة جربت رفع الدعم عن الخبز في كانون الأول/ ديسمبر 2018، حيث فوجئ المواطنون بارتفاع سعر الرغيف عدة مرات نسبة لعدم وجود كيس واحد في المدينة كان مدعوماً وقتها. فالتقليد السائد عبر مختلف الأنظمة كان دائماً محاولة تلبية احتياجات العاصمة، وبأكبر قدر من الدعم الممكن تقديمه، لأن أهل العاصمة هم الذين يتظاهرون ويغيرون الحكومات.
يوم 30 حزيران/ يونيو 2019، هو اليوم الذي اختارته قوى الحراك الشعبي التي أطاحت بنظام "الإنقاذ" ورئيسه عمر البشير، لتنطلق في مظاهرات عارمة تؤكد فيها على هدفين مزدوجين: طمر ذكرى انقلاب الإنقاذ تحت قوة وحيوية الشارع، وفي الوقت نفسه مواجهة المجلس العسكري الانتقالي، وتعديل ميزان القوة السياسية لصالح الجناح المدني.
قوة وحيوية الحراك الشعبي لم توظف في مواجهة العسكريين فقط، وإنما أيضاً في مواجهة حكومة حمدوك الذي جاءت به "قوى الحرية والتغيير" رئيساً للوزراء. ففي 30 حزيران/ يونيو 2020، انتظم الشارع في مليونية أخرى على الرغم من جائحة الكورونا، هذه المرة تحت لافتة "تعديل المسار" في إشارة واضحة إلى عدم الرضى عن البطء، وعدم تحقيق إنجاز يذكر.
أما بروز دور الشباب والنساء في الحراك الحالي فيعود إلى أنهما أكثر فئتين تضررتا من سياسات وممارسات النظام السابق. المفارقة أن هؤلاء المنتفضين الشباب فتحوا أعينهم على الدنيا، واكتسبوا معارفهم ونظرتهم إلى الحياة خلال فترة الإنقاذ التي استمرت 30 عاماً، وحتى قيادات بعض الأحزاب والمنظمات التي قادت الحراك الشعبي المناوئ كانت في العاشرة من أعمارها عندما تسلمت "الإنقاذ" السلطة.
"مصادفة" السودان و"25 يناير"
24-01-2019
خلال هذه الفترة، تعرض هؤلاء الشباب إلى الكثير من التجارب القاسية عبر الخدمة الوطنية الإلزامية، وأحياناً المشاركة في بعض الحروب، مما أنتج مآسياً مثل كارثة معسكر العيلفون في شرق الخرطوم التي قتل فيها 74 من طلاب الخدمة الإلزامية إلى جانب غرق 55 منهم، ووجدت مقبرة جماعية تخصهم مؤخراً (وقعت قبيل عيد الأضحى في العام 1998. كان المعسكر يقع في أطراف مدينة العيلفون التي تبعد حوالى 40 كيلومتراً جنوب شرقي العاصمة، ويطل على النيل الأزرق. وابتدأ الأمر بمطالبة المُجنّدين بإجازة عيد الأضحى، وبرفض إدارة المعسكر..).
كما ان نظام الانقاذ لجأ الى أسلوب اعطاء الأولوية في فرص العمل لمحازبيه والمتعاطفين معه وتسهيل، الإجراءات لمن يدخلون منهم في الأنشطة التجارية أو الاستثمارية. الأمر الذي يعني عملياً قفل الباب أمام الآخرين، معارضين أو غير معارضين، ما لم يكونوا في قوائم المرضي عنهم سياسياً من قبل النظام ومؤسساته المختلفة في دوائر الشباب والعمال ورجال الأعمال.
وفاقم من هذا الوضع انغلاق فرص الخيارات الأخرى، خاصة في جانبي الهجرة وفرص العمل في الدول المجاورة، والخليجية منها تحديداً. فعلى غير ما كان عليه الوضع في الفترات السابقة، أو حتى في بدايات عهد الإنقاذ، فإن الآلاف ممن فُصلوا من أعمالهم وجدوا فرصة للهجرة إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، ووفرت لهم عملية الفصل من الخدمة والتعذيب الذي تعرضوا له أساساً تمكنوا من خلاله من ترتيب أوضاعهم القانونية في المهاجر التي ذهبوا اليها، بينما اتجهت مجموعات أخرى إلى الخليج أو المنظمات الإقليمية والدولية أو بعض دول الجوار، عاملين ومستثمرين.
اتخاذ نظام الإنقاذ لسياسات خارجية عدائية ومثيرة للجدل، أدت بالكثير من الدول إلى تجميد علاقاتها مع السودان، إن لم يكن قطعها. وبلغ الأمر ذروته بإدراج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ العام 1993، الأمر الذي كانت له انعكاساته التي لا تزال البلاد تعاني منها إلى الآن، ومن ذلك تقليل فرص الخيارات الفردية أمام الشباب سواء بالهجرة أو فرص العمل، ولم يعد أمامهم إلا مواجهة الواقع الداخلي والعمل على تغييره، خاصة وأن هذا الواقع في حالة تردٍ مستمر لانسداد الأفق أمام الإصلاح السياسي والاقتصادي.
أما النساء، فقد عانين تحت نظام الإنقاذ في جانبين رئيسيين: أولهما "قانون النظام العام" الذي لاحق النساء حتى في ملبسهن، ودفع إلى تكوين هيئات مناهضة مثل منظمة "لا لقهر النساء". ثم أن السياسات الاقتصادية والممارسات الأمنية المتبعة أدت إلى الكثير من حالات الإفقار التي وقع عبؤها على النساء، وهو ما كان يجد انعكاساً له في تزايد حالات الإعسار والغيبة للأزواج والآباء والأشقاء، إما بسبب العنف الرسمي والقبلي، أو لانهيار نمط الاقتصاد الريفي، الأمر الذي ألقى بأعباء متزايدة على النساء لتولي مسؤولية الأسرة، مما أدى إلى تكاثر ظاهرة الأعمال البسيطة مثل سيدات بيع الشاي والقهوة وبعض الأعمال الأخرى.
من ناحية أخرى، فإنه على الرغم من حالة التأزم التي كان يعيشها نظام الإنقاذ، إلا أن القوى السياسية التقليدية لم تستطع استثمار هذا الوضع لمقارعة النظام. ويظهر هذا في ضعف التجاوب الشعبي مع التظاهرات التي دعت لها القوى السياسية التقليدية في مطلع كانون الثاني/ يناير 2018 عندما بدأت الحكومة في الرفع الجزئي للدعم عن بعض السلع.
زغرودة... ومطالب
وعلى العكس من ذلك، فعندما برز تجمع المهنيين في أواخر العام نفسه، لقيت دعواته المتكررة للتظاهر استجابات متنامية، إذ كان الناس يتجمعون في تمام الساعة الواحدة بعد الظهر كما تطالب منشورات التجمع، ثم تنطلق زغرودة من إحدى السيدات أوالشابات المشاركات لتبدأ المظاهرة في موعدها تماماً، وهو ما شجع هذا التجمع على التقدم خطوة أخرى، وتحويل شعاراته من الجانب المطلبي المتعلق بالرواتب ومواجهة تكاليف المعيشة المرتفعة إلى الجانب السياسي والمطالبة برحيل نظام الإنقاذ. تبلور ذلك في "ميثاق الحرية والتغيير" الذي وقّعت عليه مختلف الأحزاب السياسية والتجمعات المهنية ومنظمات المجتمع المدني في الأول من كانون الثاني/ يناير 2019.
الصدقية والتأييد اللذان حصل عليهما تجمع المهنيين يعودان بصورة أساسية إلى أنه لم يكن محسوباً على المؤسسة التقليدية للقوى السياسية، خاصة الحزبية منها التي تمّ تجريبها بصورة أو أخرى من قبل. وبالقدر نفسه، فإن الشعبية التي تمتع بها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك يمكن تفسيرها بسبب مماثل وهو أنه جاء من خارج نادي القيادات السياسية التقليدية، كما أنه يعود بجذوره إلى مناطق الهامش في ولاية جنوب كردفان، بينما القيادات السياسية التي حكمت السودان تنحدر في الغالب من الوسط النيلي، هذا إلى جانب عمله في مؤسسات دولية لسنين عديدة. وفي المخيلة السودانية فإن هذه المؤسسات لديها قدراً لا يستهان به من الاحترام والتقدير بسبب الاعتقاد في قدرتها على اجتراح الحلول.
"تسقط تاني"!
11-04-2019
الرغبة في التغيير من قبل قوًى عديدة ومتنامية تلاقت مع توفر الظروف الموضوعية للتغيير، ويأتي على رأسها تردي الوضع الاقتصادي، الذي تلقى ضربة شبه قاصمة بانفصال جنوب السودان كدولة مستقلة في العام 2011، حاملاً معه ثلاثة أرباع الاحتياطيات المعروفة من النفط. وأدى حرمان البلاد من العائدات المالية إلى تراجع قيمة الجنيه السوداني بنسبة 60 في المئة غداة الانفصال، وهي الرحلة التي لا تزال مستمرة بإيقاع متسارع منذ ذلك الوقت.
عندما برز تجمع المهنيين في أواخر العام 2018، لقيت دعواته المتكررة للتظاهر استجابات متنامية، إذ كان الناس يتجمعون في تمام الساعة الواحدة بعد الظهر كما تطالب منشورات التجمع، ثم تنطلق زغرودة من إحدى السيدات أوالشابات المشاركات لتبدأ المظاهرة في موعدها تماماً.
الصدقية والتأييد اللذان حصل عليهما تجمع المهنيين يعودان بصورة أساسية إلى أنه لم يكن محسوباً على المؤسسة التقليدية للقوى السياسية، خاصة الحزبية منها التي تمّ تجريبها بصورة أو أخرى من قبل.
وتزامن مع هذا التغيير الأساسي في المشهد الاقتصادي تغيير آخر لا يقل أهمية في المشهد السياسي الداخلي لنظام الإنقاذ. فبعد عامين من انفصال الجنوب، قام البشير بإزاحة شخصيتين رئيسيتين من كابينة القيادة، هما نائبه الأول وقتها علي عثمان محمد طه، ونائبه الآخر لشؤون الحزب الدكتور نافع علي نافع، الأمر الذي أنهى عملياً مشاركة الحركة الإسلامية في الحكم مع الإبقاء على رمزيتها الشكلية كأحد إكسسواراته التي يمكن استدعاؤها لتأكيد شرعيته ومشروعيته على الأقل أمام قاعدته السياسية. لكن على المستوى الفعلي والعملي، فإن البشير أصبح هو المركز والمرجع الوحيد للسلطة، وهو ما دفعه شيئاً فشيئاً إلى الاعتماد على أسرته وبطانته المقربة.
لكن مع تفاقم الأزمات الاقتصادية، واضمحلال القاعدة السياسية للحكم، وانسداد أفق الإصلاح بسبب حالة الحصار الدولي المفروضة على السودان، والاتهام الموجه للبشير من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وإصراره على التمسك بالرئاسة والترشح لها كل مرة على أساس أنها ضمان له، فإن النظام بدأ يدخل شيئاً فشيئاً في مرحلة عدم القدرة على الحكم. ولهذا عاشت حكومة بكري حسن صالح، وهي أول حكومة يتم فيها فصل منصب رئيس الوزراء عن رئاسة الجمهورية، فترة 18 شهراً فقط، وتلتها حكومة معتز موسى التي عمرت أقل من فترة خمسة أشهر، وآخرها حكومة محمد طاهر أيلا التي قضت عليها الانتفاضة الشعبية بعد ثمانية أسابيع من تكوينها. ووصل الأمر في العجز عن الحكم إلى درجة استفحال أزمة السيولة المالية التي فشل النظام في مواجهتها.
ترتيبات قلقة
وهذا العجز هو الذي دفع بالمنظومة الأمنية إلى الانحياز إلى الحراك الشعبي وإزاحة البشير، ليبدأ فصل من الترتيب القلق للفترة الانتقالية يعكس في نهاية الأمر توازنات وتعقيدات القوى الفاعلة على الساحة السياسية. فالمنظومة الأمنية تضم القوات المسلحة وقوات الدعم السريع التي كونت أساساً لمواجهة الحركات المتمردة، خاصة في دارفور، مستخدمة أساليب حرب العصابات نفسها، وحققت نجاحات كبيرة، ثم ألحقها البشير بالقوات المسلحة وجعلها تابعة له ضماناً لمستقبل حكمه. وهناك أيضاً جهاز الأمن والمخابرات الذي كان يملك قوة ضاربة. وفي الجانب الآخر كانت هناك قوى الحرية والتغيير التي يتوسطها تجمع المهنيين وبعض مؤسسات المجتمع المدني الى جانب الأحزاب السياسية التقليدية. وانتهى الترتيب إلى فترة انتقالية تستمر لثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وبمجلس سيادي مناصفة بين العسكريين والمدنيين بغلبة للمدنيين، ومجلس وزراء ترشحه "قحت" وله كل السلطة التنفيذية على أن يشرف العسكريون على وزارتي الدفاع والداخلية. وعلى هذا الأساس تم اختيار الدكتور عبد الله حمدوك الموظف السابق في الأمم المتحدة ليترأس الحكومة.
لكن بعد مرور عام على تشكيل الحكومة، وتسرب ثلث الفترة الانتقالية بدون إنجاز ملموس، يبدو الحراك الشعبي في مفترق طرق. فالمتاعب الاقتصادية انحدرت إلى مرحلة الأزمة المستحكمة التي فاقمها غياب أي رؤية أو خطة سياسية واقتصادية تعمل الحكومة على هديها، الأمر الذي خلق حالة من الاستنزاف المشبع بمزاج من التشكيك في إمكانية تحقيق إنجازات يمكن البناء عليها. فحتى لو رُفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، أو تم إبرام اتفاق سلام مع بعض الحركات المتمردة، فإنه ليس هناك قناعة أن مثل هاتين الخطوتين، على أهميتهما، قادرتان على قلب حالة التخبط والتشاؤم المتزايدة. وقد عبر عن ذلك اختفاء الهاشتاغ "شكراً حمدوك" لتحل محله مقالات وتصريحات ناقدة لحمدوك من قوى سياسية وكتاب صحافيين.
مع تفاقم الأزمات الاقتصادية، واضمحلال القاعدة السياسية للحكم، وحالة الحصار الدولي المفروضة على السودان، والاتهام الموجه للبشير من قبل المحكمة الجنائية الدولية، دخل النظام في مرحلة العجز عن الحكم وهو ما دفع بالمنظومة الأمنية إلى الانحياز إلى الحراك الشعبي وإزاحته، ليبدأ فصل من الترتيب القلق للفترة الانتقالية يعكس في نهاية الأمر توازنات وتعقيدات القوى الفاعلة على الساحة السياسية.
فخطوط الانقسام التي كانت واضحة بين المكون العسكري والمدني في ترتيبات الفترة الانتقالية زادت وتعمقت بين قوى الحرية والتغيير التي تشكل الحاضنة السياسية للحكومة وللفترة الانتقالية بأكملها. ويعتبر انقسام تجمع المهنيين وانسحاب جزء منه من "قحت" أحد أبرز علامات هذا التشرذم، إضافة إلى النقد المتواصل من قبل أحزاب الأمة والشيوعي والمؤتمر السوداني للحكومة، كلٌ من منطلقه الخاص به.
الحكومة التي شعرت بضعف وتشرذم "قوى الحرية والتغيير" بدأت تأخذ اتجاهاً مستقلاً في قراراتها، تتجاوز فيها "قحت" ومكوناتها كما حدث في بعض تشكيلات الولاة التي أعلنها حمدوك، أو إجازة الميزانية المعدلة رغم الصيحات التحذيرية للجنة الاقتصادية لـ"قحت"، وأخيراً طرح مسودة قانون للنقابات مخالف لما تقدمت به "قحت".
ويلفت النظر في قرارات الحكومة الأخيرة جانبان: أنها لجأت إلى وصفة صندوق النقد الدولي نفسها، القاضية برفع الدعم خاصة عن الوقود وغاز الطبخ والكهرباء والخبز، وهو في ما يبدو شرطاً من قبل المانحين الذين أوضحوا بجلاء أنهم ليسوا في وارد تقديم دعم اقتصادي ليتم إهداره في دعم هذه السلع. وفي الحقيقة فإن الحكومة ذهبت خطوة أبعد بمحاولة السيطرة على الوضع الاقتصادي، حتى على حساب المنتجين، مثلما حدث عندما فرضت على المزارعين تسليم إنتاجهم من القمح إلى البنك الزراعي بسعر 3500 جنيه للطن في الوقت الذي يباع فيه الطن في السوق بمبلغ خمسة آلاف جنيه.
أما الجانب الثاني الذي يشير إلى رغبة الحكومة في السيطرة، فيتمثل في مسودة قانون النقابات التي قدمتها وأبقت فيها على خيار نقابة المنشأة التي تضم المهنيين والإداريين والفنيين، والتي كانت سائدة خلال العهد البائد، لطمس الهوية النقابية المهنية لكل مجموعة. وانتهى الأمر وقتها بأن أصبح أحد البروفيسورات رئيساً لاتحاد نقابات عمال السودان. العديد من القوى تواصت على مسودة تعيد التركيز على نقابة الفئة والمهنة، وذلك لإعطاء إشارة ملموسة بحدوث تغيير في المشهد النقابي واضعةً في الاعتبار الدور المحوري الذي لعبه تجمع المهنيين في الحراك الشعبي الذي أطاح بنظام الإنقاذ، الأمر الذي يجعلها في تضاد مع المسودة الحكومية.
بعد مرور عام على تشكيل الحكومة، وانقضاء ثلث الفترة الانتقالية بدون إنجاز ملموس، يبدو الحراك الشعبي في مفترق طرق. فالمتاعب الاقتصادية انحدرت إلى مرحلة الأزمة المستحكمة التي فاقمها غياب أي رؤية أو خطة سياسية واقتصادية تعمل الحكومة على هديها، الأمر الذي خلق حالة من الاستنزاف المشبع بمزاج من التشكيك في إمكانية تحقيق إنجازات يمكن البناء عليها.
الفكرة من تمديد الفترة الانتقالية إلى أكثر من ثلاث سنوات هي تفكيك إرث "التمكين" الذي وضعه النظام السابق، وتهيئة الأرضية لبرنامج للتحول الديمقراطي ابتداءاً من إجراء انتخابات تعددية في أجواء من الحرية. لكن برنامج بناء دولة يتطلب أكثر من الاتفاق على الحد الأدنى من العموميات التي يربط بينها العداء للنظام السابق، لاسيما أن "قوى الحرية والتغيير" ليست تنظيماً موحداً.
هذه الوضعية تعكس الإشكال الرئيسي لهذه الفترة الانتقالية. فالفكرة من تمديد هذه الفترة إلى أكثر من ثلاث سنوات كانت بهدف تفكيك إرث "التمكين" الذي وضعه النظام المطاح به، وتهيئة الأرضية لبرنامج للتحول الديمقراطي ابتداءاً من إجراء انتخابات تعددية في أجواء من الحرية. وباختصار فإن ميثاق "قحت" يدعو إلى وضع الأسس لبناء دولة، لكنه أغفل حقيقة أن برنامج البناء هذا يتطلب أكثر من الاتفاق على الحد الأدنى من العموميات التي يربط بينها بصورة أساسية العداء للنظام السابق. وتزداد الأمور صعوبة لغياب القيادة، والإرادة السياسية لتنظيم يملك برامج تفصيلية قابلة للتطبيق، لأن "قحت" في نهاية الأمر عبارة عن تحالف لأجسام سياسية متنافرة وليست تنظيماً موحداً.
سودان الغد: الرسائل - التعهدات الخمسة عشر
22-08-2019
وهكذا، فمع انقسام وتشرذم قوى "قحت" القابل للاتساع، فإن الضرورات السياسية ستفرض حالة من إعادة الاصطفاف وتقارباً أكثر وتنسيقاً أفضل بين الحكومة المدنية والعسكريين. وسيكون التحدي أمام "قوى الحرية والتغيير" يتعلق بكيفية مواجهة هذا الوضع من ناحية، وكيفية الضغط على حكومة حمدوك لتغيير السياسات التي بدأت في اتباعها، وهي لا تختلف في توجهها العام عن السياسات المجربة منذ أيام الإنقاذ. وفوق هذا مواجهة تحدي استتباب الأمر للولاة الذين شاركت في تعيين معظمهم، لأنه تحد للقدرة السياسية لـ"قحت" وإن كانت لها قاعدة شعبية تأتمر بأمرها وهي متجاوزة للتقسيمات المناطقية والقبلية التي انتعشت في الولايات.
يبقى هناك عاملان أساسيان يمكن أن يلعبا دوراً في توجيه مسار الأحداث مستقبلاً بصورة ما، وهما: البعثة الأممية التي ستصل إلى السودان مطلع العام المقبل لمساعدته في استكمال ترتيبات المرحلة الانتقالية. لكن ورغماً مما يمكن أن تساعد به هذه البعثة، خاصة في بعض الجوانب الفنية، مثل إجراء التعداد السكاني أو تنظيم الانتخابات أو المساعدة في برامج لدعم السلام مثل إعادة الدمج للمقاتلين. إلا أن تأثيرها سيكون محدوداً للغاية في دفع القوى السياسية للقيام بالتسويات المطلوبة للوصول إلى حالة من التوافق الوطني تبدو شرطاً ضرورياً لعبور هذه المرحلة.
أما العامل الثاني فيتلخص في وضع الشارع وإلى أي مدًى يمكن لحيويته أن تستمر لتفرض على الحكومة والقوى السياسية تعاملاً أفضل لتحقيق بعض أهداف الحراك الشعبي، والانتقال إلى مرحلة التغيير الهيكلي الحقيقي للمنظومة النخبوية التي هيمنت على البلاد منذ استقلالها قبل أكثر من 60 عاماً. ومن الجوانب التي تتطلب انتباهاً ومتابعة تجربة حكام الولايات المدنيين على الرغم مما شابها من تعثر، ووجود اعتراضات على ثمانية من الثمانية عشر والٍ الذين تمّ تعيينهم، إلا أن المنطلق الأساسي لهذه التعيينات أنها استمزجت رأي الناس في هذه الولايات عبر منابر "قحت" المختلفة. والتحدي في كيفية تمكن الحكومة و"قحت" من عبور هذه المرحلة، وتأسيس مبدأ أن تنبع السلطة من أسفل، أي من القاعدة الشعبية، وكذلك إلى أي مدًى ستنجح خيارات "قحت" السياسية في مواجهة اعتراضات مناطقية وقبلية، الأمر الذي سيعني نقلة نوعية في الممارسة، وإن شرعية السلطة تنبع من حاضنتها الجماهيرية.
يبقى تأثير البعثة الأممية التي ستساعد في ترتيبات المرحلة الانتقالية، خاصة في بعض الجوانب الفنية محدوداً في دفع القوى السياسية الى تسويات للوصول إلى حالة من التوافق الوطني الضروري. العامل الثاني يتعلق بحيوية الشارع وقدرته على فرض المطالب على الحكومة والقوى السياسية، والانتقال إلى مرحلة التغيير الهيكلي للمنظومة النخبوية المهيمنة على البلاد منذ استقلالها قبل أكثر من 60 عاماً.
ويظهر هنا عامل "لجان المقاومة" التي مثلت حتى الآن وبصورة عامة حالة استمرار للمزاج الثوري على مستوى الشارع، وأصبحت عنصراً أساسياً في المشهد السياسي. لكنها تحتاج قدراً من الضبط وكفّ تضارب أنشطتها مع ممارسات أجهزة الدولة. والأهم كيف يمكن تنظيم نشاط هذه اللجان وتوجيهه ليصب في المجرى السياسي العام، ووضع نادي النخبة تحت مجهر المساءلة الشعبية بعد أن هيمن طويلاً ومنفرداً على الحياة السياسية في السودان.
_____________________________________________________________________________________________
نبدأ مع " السودان: الحراك الشعبي المستمر وتخليق البديل" بنشر مساهمات باحثينا وباحثاتنا في الدفتر الأخير لهذا العام، وهو من جزئين، واحد تحليلي يتناول الانتفاضات العارمة والطويلة التي وقعت في أربعة بلدان عربية في العام 2019، وهي السودان والجزائر والعراق ولبنان، وغيّرت وجهها، والثاني يتناول الابداعات التي رافقت هذه الانتفاضات، وكانت مميزة من نواحٍ فنية متعددة، ولجهة كثافتها وجدتها، وخصوصا لجهة مشاركة النساء بها.
وقد دعمت مؤسسة روزا لوكسمبورغ انتاج الدفترين، شأنها في ذلك شأن ما أصدره "السفير العربي" في عامي 2018 و2019.
_____________________________________________________________________________________________
محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.