لماذا انتفضت نساء السودان ضد الإسلام السياسي؟

يمكن ان تُرى في الثورة الحالية مظاهرات نسائية خالصة، خالية من العنصر الرجالي. وقد تجاوزت المرأة الدور التقليدي في الدعم اللوجيستي أو المعنوي إلى الانتقال إلى العمل الميداني المباشر ومواجهة الموت من الصفوف الأمامية. وجرت العادة خلال هذه الثورة أن تُطلق النساء صافرة البداية لأي مظاهرة.
2019-05-18

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك

على مدى شهور الثورة التي أسقطت حكم البشير، كان الصحافيون والمحللون والسياسيون يتلقون على الدوام من وكالات الأنباء والقنوات الفضائية السؤال المذهل بالنسبة لهم: "ما تفسير المشاركة النسائية اللافتة في هذه الثورة؟".

ويبدو أن مصدر السؤال الذي شغل حيزاً كبيراً في الإعلام الإقليمي والعالمي - ولا يزال - ليس فقط حجم المشاركة التي فاقت الثلث بل هو تقدم النساء الى الخطوط الأمامية لمواجهة ترسانة البشير الأمنية والعسكرية التي صرف عليها نحو 70في المئة من ميزانية الدولة على مدى سنوات حكمه الطوال.

بالنسبة لكثير من المتابعين لأحداث الثورة السودانية منذ تفجر المظاهرات في أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2018، فإن المشاركة النسائية وبهذا الحجم تثير سؤالاً جوهرياً حول وضع المرأة السودانية ودورها في خارطة العمل العام، وحول مستقبلها.

صحيح أن أغلب التحليلات لهذه المشاركة الفاعلة لم تتجاوز محاولة التأكيد على دور المرأة السودانية على مر التاريخ السياسي الحديث، معتبرة ما يحدث أمراً طبيعياً لأن المرأة السودانية بلغت منذ وقت مبكر مراحل متقدمة في العمل العام.

لكن التفسير المهم في تحليل هذه المشاركة النسائية ضد حكم البشير لا بد وأن يُربَط بسنوات حكم الإسلام السياسي الذي وطأ على حقوق الإنسان في البلاد كما لم يحدث من قبل، وعلى حقوق المرأة على نحو خاص فقد وضعتها أيديلوجيته في مرتبة دُنيا.

وصحيح أن التاريخ الحديث للسودان يشهد بدور لافت للنساء في العمل العام، ومتقدم مقارنة بالمحيط الإقليم، فكانت السودانيات من أوائل البرلمانيات في المنطقة، وعلى سدة المناصب العليا في القضاء. وإن كانت المرأة السودانية لم تخض تجربة رئاسة البلاد لكنها الآن مثلاً رئيسة لحزب.

وأما لقب "الكنداكة" الذي يُطلق على كل المشاركات في المظاهرات، فهو في الأصل تسمية كانت سائدة في الممالك النوبية، وتستوحى منه قيم ومعاني الشجاعة والبسالة التي كانت تتصف بها النساء الحاكمات في تلك الممالك النوبية قديماً.

التفسير المهم في تحليل المشاركة النسائية ضد حكم البشير يرتبط بسنوات حكم الإسلام السياسي الذي وطأ على حقوق الإنسان في البلاد كما لم يحدث من قبل، وعلى حقوق المرأة على نحو خاص. فقد وضعتها أيديولوجيته في مرتبة دُنيا.

كل هذا وذاك شكّل رصيداً نضالياً ضخماً في تاريخ المرأة السودانية. غير أن الثلاثين عاماً من حكم جماعات الإسلام السياسي كات ولا يزال لها الأثر البالغ في سوسيولوجيا المجتمع السوداني، الذي خضع بالقوة إلى إعادة صياغة كاملة في ما عُرف بـ "المشروع الحضاري" الذي تبنته حكومة الإنقاذ التي سيطرت على البلاد بعد انقلاب عسكري 1989 أطاح بحكومة منتخبة.

وما ينبغي إلقاء الضوء عليه خلال هذه الحقبة من تاريخ السودان الحديث هو مشروع إعادة صياغة المجتمع وفق هذه الرؤية التي تنطلق تارة من تعاليم الشريعة الإسلامية بتلاعب مُخل، وتارة تنطلق من مشروع مَصلحي صرف يتدثر بلبوس الدين مستغلة المجتمع المنفعل بالعاطفة الدينية. وكل ذلك محصلته واحدة وهي القهر الممنهج.

عملت الإنقاذ منذ مجئيها على انتهاج سياسة القهر والإذلال والقمع، عبر إجراءات قانونية وأخرى سياسية فجة وأحياناً كثيرة مزاجية، ووظّفت لذلك آلة إعلامية ضخمة تبنت خطابها الايديولوجي الذي وجد صدى خلال السنوات الأولى ولا يزال أثره باق. وفي سبيل تحقيق ذلك، لم تتوانَ عن استباحة دماء السودانيين منذ أول يوم وطأت فيه السلطة. سياسة القهر والإذلال أتت أُكلها بالفعل، فحدثت حالة من التكيّف وسط المجتمع مع سياسة الإنقاذ وتلاشى الفعل المقاوم بسبب القمع الوحشي من جهة وبشراء بعض الفاعلين في المشهد بالمال أو إسكاتهم بأي وسيلة يُمكن إدراجها تحت تصنيفات "الممارسة السياسية اللا أخلاقية".

كان لتلك الثلاثين عاماً ولا يزال الأثر البالغ في سوسيولوجيا المجتمع السوداني المُخضَع بالقوة إلى إعادة صياغة كاملة، في ما عُرف بـ "المشروع الحضاري" الذي تبنته حكومة الإنقاذ المسيطرة على البلاد بعد انقلاب عسكري في العام 1989 أطاح بحكومة منتخبة.

الملاحظ على مر السنوات التي عاش فيها السودانيون ضنكاً أن أصوات الرجال كانت خافتة بينما علت أصوات النساء في المقاومة. وبطبيعة تركيبة شخصية الرجل السوداني، فإن حالة العجز عن قول "لا" تُشعره بأنه أقل مرتبة من النساء. فالتركيبة الاجتماعية التقليدية جعلت الرجل في مرتبة أن يكون في الخط الأمامي للمواجهة، وأن يكون المتصدي دوما للظلم وحامي العرض والشرف. لكن الإنقاذ عمدت إلى قلب هذه الوضعية معتمدة على سياسة نفسية واجتماعية ممنهجة كانت تهدف، من خلال الإسكات، الى تخويف المجتمع وفئاته الفعّالة. إلا أنها ودون أن تدري خلقت مساحة واسعة للنساء كي يتمددن ويقمن بالدور الذي كان حكراً على الرجال. فالطبيعة فعلاً لا تقبل الفراغ.

صوت النساء المقاوم خلال سنوات الإنقاذ هو الأبرز، وهذا لا يختلف حوله كثيرون. ليس فقط على مستوى المقاومة السياسية، بل حتى على مستوى نقد الظواهر الاجتماعية في الأماكن العامة والتصدى لها، مثل التحرش الجنسي، مثل الزيادات غير الرسمية في السلع اليومية وتعريفة المواصلات وغيرها. وعادة تُقابل أصوات النساء في الأماكن العامة بحالة صمت مطبِق من قبل الرجال، للدرجة التي بات مثل هذا الأمر مثاراً لسؤال جوهري سيطر على الشارع السوداني لسنوات طويلة ألا وهو "لماذا صمت الرجال"؟

خلال السنوات التي أعقبت انفصال جنوب السودان 2011 تردى الوضع الاقتصادي بشكل غير مسبوق في أعقاب انهيار العملة الوطنية، وساءت تبعاً لذلك الخدمات الأساسية مثل خدمات المياه والكهرباء ونقل النفايات، وهي الخدمات المرتبطة مباشرة بالمواطن. وعلى مر هذه السنوات الماضية كانت النساء يسيّرن المظاهرات في شوارع الأحياء للمطالبة بتحسين الخدمات الأساسية، بينما يغيب عنها بشكل كامل العنصر الرجالي. وبات متعارفاً عليه وسط المجتمع أن النساء يناهضن النظام على نحو لا يفعله الرجال.

تفسير كل ذلك يمكن إجماله في أن سياسة القهر والإذلال التي أرادت الإنقاذ أن تُشكل لها أساساً متيناً لتُحكم سيطرتها على المجتمع عبر إسكاته، انقلب مفعولها على الإنقاذ وأبطل ترياقها.

وخلال الثورة التي توجت بخلع البشير كانت النساء حاضرات في كافة مستويات العمل السياسي أو الميداني، مستفيدات من رصيد بازخ كان نتاجا لسنوات من التجارب المريرة. وليس من باب المبالغة القول أن ثورة كانون الأول/ ديسمبر يمكن أن تقابل فيها مظاهرات نسائية خالصة، خالية من العنصر الرجالي. وقد تجاوزت المرأة الدور التقليدي في الدعم اللوجيستي أو المعنوي إلى الانتقال إلى العمل الميداني المباشر ومواجهة الموت من الصفوف الأمامية. وجرت العادة خلال هذه الثورة أن تُطلق النساء صافرة البداية لأي مظاهرة. وهذا لم يقتصر على فئة معينة من النساء ذوات الخلفيات الليبرالية مثلاً أو المنحدرات من بيئة اجتماعية منفتحة، بل شهدت الثورة بشكل لافت أعداد مقدّرة من السلفيات المنتقبات المنحدرات من إيديولوجيا تُحرّم الخروج على الحاكم.

خلال السنوات التي أعقبت انفصال جنوب السودان في2011، تردى الوضع الاقتصادي وساءت الخدمات، وكانت النساء يسيّرن المظاهرات في شوارع الأحياء للمطالبة بتحسين الخدمات الأساسية، بينما يغيب بشكل كامل العنصر الرجالي. وبات متعارفاً عليه وسط المجتمع أن النساء يناهضن النظام على نحو لا يفعله الرجال.

خلال هذه الثورة تعرضت النساء إلى صنوف من الانتهاكات الممنهجة بغاية الإرهاب والتخويف، ليس ابتداء من العنف اللفظي ولا انتهاء بالتحرش الجنسي الذي استخدمه الأمن السوداني خلال الأيام الأخيرة كسلاح أخير يُمكن أن يُخمد صوت النساء أو يجعلهن يتعرضن لضغوط أسرية. لكن كل الأسلحة ارتدّت وبالاً على السلطة.
لا زلت أذكر أنه في أحد المواكب، قبل سقوط البشير، كانت حملة الاعتقالات تستهدف فقط العنصر النسائي، وذلك كان بتوجيهات رسمية من سلطات الأمن، وقد وُثق ذلك اليوم باعتباره أكثر يوم شهد اعتقالات نسائية.

ما حدث خلال الثورة السودانية من مشاركة فاعلة للنساء يمكن تفسيره اجتماعياً وسياسياً بأنه سلوك رفضي لإيديولوجيا تضع النساء في خانة أقل من الرجال. كما أن هذه المشاركة الفاعلة تؤكد بجلاء أن حالة وعي عميق تشكلت نتيجة لسنوات القهر الذي مارسته جماعة الإسلام السياسي ضد النساء. ويعود الفضل الكبير في هذا الوعي المتراكم للمجموعات النسوية الناشطة والمناهضة لسياسات الإنقاذ.

بعد النصر الذي تحقق بإسقاط البشير، بقيت الأصوات مرتفعة بضرورة إزالة النظام الذي أسسه على مدى ثلاثين عاماً. وتطالب مجموعات نسوية ناشطة باقتسام السلطة مع الرجال كنتيجة طبيعية لدور النساء الفاعل في الثورة. وقد سيّرت مجموعات نسوية مسيرات نحو ساحة الاعتصام رافعات شعارات اقتسام السلطة.

ولعل المحك الآن هو تحقيق هذا الاقتسام، وما إن كان هذا الأمر سوف يرتضيه الطرف الآخر. غير أن الثابت والذي لا خلاف حوله أن وضع النساء السودانيات بعد سقوط البشير لن يكون كما كان قبل سقوطه.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه