بالنسبة لقوى الثورة، كان مستفزاً على نحو لافت صمت القوات النظامية الرسمية تجاه تظاهرات أنصار النظام السابق، والذين بدؤوا في تنظيم صفوفهم لمعارضة الحكومة الانتقالية في السودان، في حين أن تلك القوات تقابل حتى الآن قوى الثورة في الشارع بالبطش والتنكيل.
عكست مواقع التواصل الاجتماعي الغضب والاستفهامات القلقة حول دور القوات النظامية بعد سقوط نظام البشير، ومدى انحيازها للتغيير. فقوات الشرطة السودانية تتعامل بلين مع مظاهرات أنصار البشير أو تتخذ الحياد تجاهها.
قبل أيام مرت الذكرى الأولى لذاك السقوط، لكن جائحة كورونا، والإجراءات الوقائية الاحترازية التي اتخذتها السلطات الصحية حرمت السودانيين من إحياء هذه الذكرى. وعلى الرغم من هذه الإجراءات، خرجت تظاهرة لأنصار النظام السابق، وجابت بعض الشوارع حول القيادة العامة للقوات المسلحة، واستطاعت دون مقاومة أن تدخل أرض القيادة وتلتحم مع بواباتها الرئيسية، وكان الهتاف يُحرّض على اقتلاع الحكومة المدنية، وعسكرة الحكم الانتقالي. وأظهر مقطع مصور أحد أنصار البشير يتحدث مع أحد ضباط الجيش بقوله "ألم تقولوا لنا احضروا إلينا"، الأمر الذي أثار تساؤلات عديدة حول نوايا الجيش الذي يعتبر أكبر المؤسسات الموالية للحركة الإسلامية التي كانت حاكمة لنحو ثلاثين عاما.
رجال البشير يتنافسون على وراثة حكمه
هذه التظاهرة التي قرر قادتها الاعتصام حول القيادة قبل أن تنفضّ، ليست كغيرها، وهي استحثت تظاهرات مضادة لها في بعض مناطق ومدن السودان. وصبيحة اليوم التالي، خرجت إحدى صحف الخرطوم بعنوان رئيسي: "محاولة انقلاب يقودها صلاح قوش"، وهو مدير المخابرات الأسبق الذي قاد مع بعض العسكريين عملية إزاحة البشير. وإن كانت أخبار المحاولات الانقلابية بعد الثورة قد فقدت قيمتها، لكن الواضح للجميع أن الوضع قابل لسيناريوهات عديدة أبطالها رجال المخلوع في الأجهزة العسكرية والأمنية، والذين مازالوا يتنافسون حول وراثة حكمه.
حري بنا العودة إلى يوم 11 نيسان/ أبريل، يوم خلع البشير: طبيعة ما جرى بين قادة الأجهزة العسكرية والأمنية التي قررت تحت الضغط الشعبي المتصاعد إزاحة البشير عن الحكم. كان جهاز الأمن والمخابرات الذي تولى التعامل مع الشارع طيلة شهور الاحتجاجات قد أدرك أن سقوط البشير أصبح مسألة وقت، لكن كان ثمة توجس من موقف "قوات الدعم السريع" التي يقودها الفريق محمد حمدان (حميدتي) وهي مليشيا حليفة للبشير الذي بناها لمثل هذا اليوم. استطاع جهاز الأمن والمخابرات بقوته السياسية والعسكرية أن يبادر ويستبق بقية المكونات العسكرية لإزاحة البشير، ولم يجد مقاومة تذكر من هذه الأجهزة.
كان صلاح قوش، مدير المخابرات الأسبق، يطرح نفسه بديلاً للبشير، وظن أن "ثورة ديسمبر" فرصته، لكنه أزيح بعد ساعات من عزل البشير. خروجه من المشهد بكيفية فيها غدر وتنافس بين رجال البشير، ضاعف لديه الرغبة بالانتقام من جهة، والإصرار على العودة للمشهد من جهة أخرى.
ولأن قوش لا ينتسب إلى المؤسسة العسكرية التي عادة تبادر بالانحياز للثورات أو للانقلابات، وحتى يتسنى له أن يحجز موقعه في مرحلة ما بعد البشير قرر أن يقود مع بقية العسكريين إزاحة البشير عبر "اللجنة الأمنية" التي تضم قادة الجيش، الشرطة، الأمن والدعم السريع، وكان موكلاً لها إدارة الأزمة إبّان المظاهرات. ولأن قوش كان يتحين الفرص كي يطرح نفسه بديلاً للبشير، فقد كانت "ثورة ديسمبر" فرصته أو هكذا كان يتصور ويخطط. لكن ما حدث بعد ساعات من إذاعة بيان عزل البشير، هو أن بعض العسكريين الإسلاميين في المجلس العسكري الانتقالي نصحوا باعتقال قوش، في خطوة تعني الانقلاب عليه. لاحقاً، تقدم قوش باستقالته تحت ضغط العسكريين، الذين انقلبوا عليه خشية من انقلابه عليهم مستقبلاً.
حكومة ثورة.. ظهرها مكشوف
خروج قوش من المشهد بهذه الكيفية التي لا تخلو من غدر وتنافس بين رجال البشير ضاعف عنده الرغبة بالانتقام من جهة، والإصرار على العودة للمشهد من جهة أخرى. ولأنه رجل قابض على جهاز الأمن والمخابرات الذي ترأسه خلال سنوات حكم الإسلاميين (وخرج منه بتهمة التجسس على الرئيس البشير عام 2009، ثم عاد إليه لاحقاً وبقي فيه حتى سقوط الأخير)، فهو استطاع أن يلوي يد الحكومة الانتقالية، وبشكل خاص مكونها العسكري الذي تتبع له الأجهزة الأمنية والعسكرية. إذ قام الرجل بدفع جهاز الأمن والمخابرات إلى اتخاذ موقف الحياد تجاه كل شيء. وهذا الجهاز كان الحاكم الفعلي طيلة سنوات المخلوع، إذ لم يكن مجرد جهاز معلومات بقدر ما كان حزباً سياسياً حاكماً. وقد قدّر عسكريٌّ بارز تعاون الجهاز مع الحكومة الانتقالية بأنه لا يتجاوز نسبة 40 في المئة.
شكا رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، لمقربين من قادة الحركات المسلحة كيف أنه يعمل بلا شرطة ولا أمن، رغم صلاحياته في التغيير وفقاً لما نصت عليه الوثيقة الدستورية الموقعة بين المكونين العسكري والمدني في آب/ أغسطس 2019.
بعد عام من سقوط البشير، تجد حكومة الثورة ظهرها مكشوفاً، بلا سلطة إلا قليلاً. فلم يترك نظام الإسلاميين مؤسسة لا تدين لهم بالولاء. وقد شكا رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، لمقربين من قادة الحركات المسلحة كيف أنه يعمل بلا شرطة ولا أمن رغم صلاحياته في التغيير وفقاً لما نصت عليه الوثيقة الدستورية الموقعة بين المكونين العسكري والمدني في آب/ أغسطس 2019، إذ لا تزال السيطرة في هذه الأجهزة الرئيسية للإخوان المسلمين، الذي أسقطت الثورة نظامهم. أما الجيش الذي نال من "الأدلجة" النصيب الأوفر، فهو في أفضل الأحوال ضد تمدد القوة الموازية، "مليشيا الدعم السريع" والتي فرضت نفسها في معادلة التغيير بعد سقوط البشير، أو بالأحرى فرضها الواقع المعقد الذي خلّفه البشير. وتتصاعد المخاوف إزاء مواجهة بين الجيش والمليشيا المدعومة من الإمارات العربية المتحدة، بل أن كثيراً من العسكريين يعتقدون أنها ليست إلا معركة مؤجلة.
تعقيدات متباينة تظلل مشهد الانتقال السوداني
05-02-2020
مع اشتداد الأزمة الاقتصادية، والتي بلغت مراحل معقدة، إذ تضاعفت صفوف الوقود والخبز وغاز الطهي، والتهبتْ الأسواق بالأسعار التي فاقت حد احتمال المواطنين، يبرز قائد الدعم السريع على رأس "لجنة" لإدارة الأزمة الاقتصادية. وقد أدى قسماً جديداً بجانب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، بعدها توالت تصريحات رسمية تبشّر بقرب انتهاء الأزمات اليومية، وهو ما فُهم أنه اصطفاف واضح داخل مكونات الحكومة الانتقالية، إذ يأمل قائد "الدعم السريع" بأن تكون قوى الثورة حاضنته الشعبية أو حتى الرسمية، ممثلة في حكومة حمدوك.
الحكومة، ومع انسداد الأفق أمامها، آثرت فيما يبدو التحالف مع "الدعم السريع" مقابل فك الضائقة الاقتصادية. قوات "الدعم السريع" استطاعت خلال سنوات البشير بناء إمبراطورية اقتصادية ضخمة، حيث تسيطر على جبل غني بالذهب والموارد المعدنية وتنشط شركاتها في التعدين في مناطق متفرقة من السودان، علاوة على عائدات التحالف العسكري مع الإمارات في اليمن وليبيا. لكن هذا تكلفته الشعبية باهظة. بعض مكونات قوى "الحرية والتغيير" - وهي مجموعة أحزاب ومنظمات مدنية تمثل قوى الثورة، وتعتبر حاضنة سياسية للحكومة الانتقالية - بدأت بالجهر في تفضيل التحالف مع "الدعم السريع" على بقية المكونات العسكرية والأمنية (الجيش، وجهاز الأمن والشرطة)، باعتبار أن المليشيا، وعلى أقل تقدير، هي قوة غير عقائدية ولا تحمل ولاءً للإسلاميين، على الرغم من أنها صنيعتهم. بالمقابل "الدعم السريع" تلهث للاحتماء بحاضنة تمنحها القوة والزخم الشعبي الذي تتطلع إليه للعب دور مستقبلي في السيطرة على الحكم، بينما هي ضمن المتورطين في مجزرة فض اعتصام القيادة في حزيران/ يونيو 2019
اصطفاف واصطفاف مضاد
غير أن هذا التحالف محفوف بالريبة، من المتوقع أن يخلق اصطفافاً مضاداً داخل الحكومة الانتقالية، إذ لن يقبل الجيش، والذي يمثله رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، بهذا الوضع، وبات معلوماً أن الهوة اتسعت بين البرهان ونائبه في مجلس السيادة، الفريق محمد حمدان، إذ اشتد التنافس بينهما. وربما وجد البرهان موطئ دعم إقليمي في مصر، التي أبدت موقفاً مناوئاً للإمارات الداعمة لسيطرة المليشيا في السودان، بالتعاون مع بعض القادة الأمنيين من نظام البشير، ممن تربطهم علاقات قوية ومباشرة مع قائدها ويعتبرون من مؤسسيها. موقف مصر مناوئ لهذه المليشيا، ويدعم المؤسسة العسكرية الرسمية، وهي تقف ضد مخططات تفكيك هذه المؤسسة أو إضعافها لصالح "الدعم السريع".
زار قائد الجيش، الفريق البرهان، الحدود الإثيوبية مع وفد عسكري، ما أربك المشهدين السوداني والإقليمي، ولكن الزيارة تندرج ضمن حالة الاستقطاب والاصطفاف والبحث الدؤوب عن حاضن وحليف إقليمي يوقف تمدد "الدعم السريع"، كما هي مغازلة لمصر في الموقف من سد النهضة.
في الثلث الأول من نيسان/ أبريل الجاري، قاد البرهان مجموعة عسكرية رفيعة من الجيش السوداني ووصل إلى الحدود مع إثيوبيا، ومن هناك أرسل عدة رسائل فُهمت أنها تحذيرات لإثيوبيا. لكن ولمّا كان الوضع في الحدود طبيعياً كان لا بد من استثمار صعود ملف سد النهضة مؤخراً، والذي تتخذ فيه الحكومة المدنية في السودان الموقف الأقرب لإثيوبيا. بالمقابل، زيارة البرهان إلى الحدود كانت رسالة ومغازلة لمصر التي تشتبك مع إثيوبيا بخصوص سد النهضة.
أربكت هذه الزيارة المشهد السوداني والإقليمي، غير أنها تبدو حدثاً طبيعياً لو جرت قراءتها ضمن حالة الاستقطاب والاصطفاف والبحث الدؤوب عن حاضن وحليف إقليمي يوقف تمدد "الدعم السريع". وعلاوة على هذا الدعم المصري، فإن البرهان يحتاج لدعم الجيش نفسه له كقائده، كما يحتاج أن يُظهر للجيش أنه قادر على وقف هذا التمدد حتى يكسب حاضنته العسكرية التقليدية. لكن الجيش الذي يُنظر إليه على أنه "جيش الإخوان المسلمين" يحتاج إلى الكثير لإعادة ترميم صورته وسط المواطنين، ويحتاج أكثر أن يثبت أن ولاءه للحركة الإسلامية لم يعد قائماً.
أي تحالف أو اصطفاف يتجاوز قوى الثورة الفعلية، ويقفز على مطالبها، وعلى رأسها العدالة وتفكيك نظام الإسلاميين، وتفكيك الإمبراطوريات الاقتصادية للقطاعات العسكرية والأمنية، بما في ذلك "الدعم السريع"، وفرض ولاية وزارة المالية على المال العام، قد يقود إلى موجة ثانية من الثورة.
وعلى نحو صادم، قرر "حزب الأمة القومي"، بزعامة الصادق المهدي، تجميد جميع أنشطته داخل تحالف الحكومة إلى حين إجراء إصلاحات جذرية، ولوح الحزب التاريخي بتحالف بديل عن قوى "الحرية والتغيير". والمهدي أعلن منذ فترة أن المخرج من حالة العجز هذه، هو إجراء انتخابات مبكرة قبل انتهاء الفترة الانتقالية (ثلاث سنوات) التي نصت عليها الوثيقة الدستورية. المهدي كان من أبرز قادة تيار "الهبوط الناعم"، وهو مصطلح سياسي تبنته أحزاب إبّان حكم البشير، يهدف إلى إجراء تسوية تاريخية بين المعارضة والنظام. لكن الثورة الشعبية لم تنتظر هذا الهبوط فاجتاحت حكومة البشير وأسقطتها. تلويح المهدي بتحالف جديد أثار عليه الغضب وسط قوى الثورة، وصل حد اتهامه بشق صفوفها. لكن أي تحالف جديد لزعيم حزب الأمة القومي خارج قوى الثورة الفعلية سوف يُقرأ في إطار دعواته القديمة المتجددة بالتسوية التاريخية مع النظام السابق.
والثابت أن أي تحالف أو اصطفاف يتجاوز قوى الثورة الفعلية، ويقفز على مطالبها، وعلى رأسها العدالة وتفكيك نظام الإسلاميين، وتفكيك الإمبراطوريات الاقتصادية للقطاعات العسكرية والأمنية، بما في ذلك "الدعم السريع"، وفرض ولاية وزارة المالية على المال العام، قد يقود إلى موجة ثانية من الثورة.