يبدو أن السويداء هي الحلم الذي لا يتحقق في الثورة السورية. فكلما نهضت مرة جاء ما يجعلها تستكين عنوة وليس كخيار، لكن هذا لا ينفي النار التي تغلي بداخلها. هل يجب أن تكون الثورات على شكل أشخاص يهتفون ويرفعون أيديهم إلى السماء؟ داخل البيوت، هناك ثورات وشتائم بحق النظام وأحلام غير مكتملة. لكن إن كانت الكثير من البيوت في السويداء تحوي هذا الغضب، فلماذا اكتفت المظاهرات بأعداد لم تتجاوز ثلاثمئة شخص في أحسن الأحوال، ولماذا لم تعد الناس تخرج غاضبة؟
اتسمت كلّ محافظة خلال الحرب السوريّة بطبيعة مختلفة وظروف مغايرة. فبينما كانت بعض المدن مشتعلة، كانت أخرى هادئة تماماً، نتيجة عوامل اجتماعية ودينية واقتصادية وسياسية. والسويداء كانت واحدة من تلك المدن.
العشرات يحكمون السويداء
في الحقيقة، لم تكن السويداء تحت حكم النظام في السنوات السابقة، إنما بدت كما لو أنّها تحت حكمِ مزيج من الأنظمة، منها الذاتي الديني، ومنها حكم الميليشيات المسلحة، بالإضافة إلى وجود النظام. فكانت النتيجة حكماً من هؤلاء جميعاً، باتت السويداء صورة مركبة للخراب السوري لكن بلا براميل ولا قصف. ففي الوقت الذي رفضت فيه العائلات إرسال شبابها إلى جبهات القتال في الجيش، انفصلت السويداء عن باقي المحافظات السورية وانتشرت فيها فصائل مسلحة بشكل علني، يعود بعضها إلى صلات له بالنظام، ك"كتائب الدفاع الوطني"بينما يتصل البعض مباشرة بالشخصيات الدينية في المدينة، ك"حركة رجال الكرامة"التي أعلنت حياديتها من الأحداث الدائرة، وأن واجبها هو حماية سكان السويداء من أي اعتداء. وقد قُتِلَ زعيمها،"وحيد البلعوس"، في تفجير استهدف موكبه عام 2015، وتعرضت لاحقاً لانقسامٍ في صفوفها.
كان النظام في حركة كرّ وفرّ مستمر مع المدينة، فلم يكن خيار اقتحامها مطروحاً نظراً لخصوصية المدينة التاريخية، إذ يؤكد العديدون أنها قادرة على تغيير موازين الحكم في سوريا، وهذا ربما ما يخشاه النظام. لكن سويداء البارحة ليست كاليوم، وأطراف الصراع باتت أكثر حذراً بوجود روسيا من جهة، التي دخلت في وساطات مباشرة مع القيادات الروحية في الكثير من القضايا،كقضية المختطفين لدى تنظيم الدولة داعش. أمّا إسرائيل، والتي على الرغم من عدم التصريح العلني بنواياها، إلّا أن اسمها طُرِح في كثير من الأوقات كحامٍ للمدينة أو طامع في ضمّها إليها في المستقبل، النظرية التي عززها وصول الكثير من الشخصيات الدرزية إلى مراكز قيادية في الجيش الإسرائيلي.
____________
من دفاتر السفير العربي
داعش... ليس أعجوبة!
____________
هذه المناورات كان لها أثرها على سكان المدينة، كما حدث في اليوم الأسود في 25 تموز/يوليو 2018، حيث هجمت داعش على بعض القرى الشرقية بعد سلسلة تفجيرات وقعت في المدينة، راح ضحيتها 250 شخصاً على الأقل، وهي أكبر هجمة حصلت في المدينة، والتي يُرجَّح دخول يد النظام فيها لتلقين سكان المدينة درساً، وإجبارهم على الالتحاق بالخدمة العسكرية.. فعلى الرغم من استغاثة المدينة بالجيش، فهو لم يتدخل حتى اليوم الثالث! كما رافق الهجوم قطع للكهرباء في جميع أنحاء المحافظة، ما عزز النظرية السابقة.
لكن الوضع الأمني بات أسوء في المدينة لجهةِ تشكّل عصابات الخطف والسرقة من أبناء المحافظة، أكبرها يعود لمدينة شهبا وبلدتي عريقة وصلخد. تدخّل الجيش منذ أيام، وتمركز في بلدة عريقة في محاولة لالتقاط أسماء متورطة في عمليات السرقة والقتل. لكن ما فعله بدا مضحكاً وأثار سخط السكان. فقد عقد مصالحة مع بعض أفراد العصابة التي خطفت وسرقت، بحضور شخصيات سياسية، وعادت العصابة إلى حضن الوطن كأنّ شيئاً لم يكن وانتهت سنوات من الخطف والسلب ب"جوفية"، وهي نوع من الرقص والغناء الشعبي في السويداء، رقص فيها أعضاء العصابة رافعين الأعلام الوطنية!
كان النظام في حركة كرّ وفرّ مستمر مع المدينة، فلم يكن خيار اقتحامها مطروحاً نظراً لخصوصيتها التاريخية، إذ يؤكد العديدون أنها قادرة على تغيير موازين الحكم في سوريا، وهذا ربما ما يخشاه النظام. لكن سويداء البارحة ليست كاليوم.
نتائج ذلك كانت كارثية على المحافظة، فعمليات الخطف تتم في وضح النهار، ويقتل العديد من الأهالي بشكل مجاني. ففي شهر نيسان/ابريل الفائت وحده وُثق موت حوالي 13 شخصاً في السويداء على أيدي عصابات الخطف، أما في شهر حزيران/ يونيه الماضي، فقد وثقت 28 حالة تغييب قسري. ومن الواضح أنه لا يوجد تدخل فعلي للدولة أو حتى للشرطة، فحين يتمّ الاستعانة بالشرطة ترفض التدخل إلى حين انتهاء المشكلة، فتتوجه إلى المكان بعد وقوع جريمة القتل أو سرقة سيارة ما!
قمع النظام والنفي خارج الطائفة
صدرت في عدد من المناسبات أو خلال بعض القضايا الجوهرية، بيانات من القيادة الروحية في السويداء تحرّم على أبنائها الفتنة أو الإنجرار خلف الإقتلال، سواء بين أبناء المحافظة أنفسهم أو مع السلطة. تهدد هذه البيانات في الغالب بنفي وإبعاد المخالفين عن الطائفة، وهو في الحقيقة أمر ينصاع إليه الكثير من الدروز ويخشونه، وهذا كان بشكل ما سبباً في الضغط على الأهالي الذين يضغطون كذلك على ابنائهم للابتعاد عن أي شكل من أشكال العصيان الذي سيقودهم إلى النفي الديني. من جهة أخرى، فالقيادة الروحية قادرة على التدخل في الكثير من تفاصيل الحياة الشخصية لرعاياها. ففي أحد بياناتها حرّمت ومنعت أشكال البذخ في الأفراح، ودعت إلى تسهيل الزواج بين أبناء الطائفة بعدم طلب مهور كبيرة، كما حرّمت تناول الخمور والمخدرات ودعت إلى التخفيف من الأفراح تماشياً مع حزن الوطن!
سوريا: توازنات مستحيلة
10-01-2019
وعلى الرغم من أن العديد من أبناء السويداء يسخرون من هكذا بيانات، إلّا أنهم ينصاعون، أو أقلّه لا يستطيعون المجابهة، إمّا بسبب ضغط العائلة أو الخوف من الإقصاء المجتمعي. ويبدو أن إنغلاق الطائفة على نفسها وتكوينها مجتمعاً مستقلاً جعل الأمر أصعب على أولئك الذين يرغبون بالتغيير.
من جهة أخرى عمل النظام منذ استلام حزب البعث الحكم على إضعاف البنى السياسية والإقتصادية والإجتماعية للمحافظة، فبادر إلى إقصاء الأعضاء الدروز من القيادات في حزب البعث، مثلما فعل مع مزيد هنيدي وحمد عبيد من اللجنة العسكرية، كما نفى شبلي العيسمي وحمود الشوفي وغيرهم، ولم يكتفِ بذلك فقامت المخابرات السورية باختطاف شبلي العيسمي من لبنان وإخفائه وهو في آواخر الثمانين من العمر.
عقد الجيش المتمركز في بلدة من المحافظة مصالحة مع بعض أفراد العصابة التي خطفت وسرقت، بحضور شخصيات سياسية.عادت العصابة إلى حضن الوطن كأنّ شيئاً لم يكن، وانتهت سنوات من الخطف والسلب ب"جوفية"، وهي نوع من الرقص والغناء الشعبي في السويداء، رقص فيها أعضاء العصابة رافعين الأعلام الوطنية!
هذا النهج استمر خلال الثورة السورية. فالعميد عصام زهر الدين المتحدر من قرية الصورة في السويداء، كان واحداً من أهم الضباط الفاعلين في الجيش السوري والذي ساهم في تحرير دير الزور من تنظيم الدولة "داعش". لكنه قُتِلَ بطريقة غامضة في العام 2017، وانتشرت بعض الشائعات عن تصفية لزهر الدين على أثر الخوف من موقعه السياسي في محافظة السويداء والسمعة العسكرية الحسنة التي يتمتع بها في الأوساط السورية، فكان يبدو للكثيرين كقائد بطل.
"التعفيش" في الحرب السورية
26-10-2016
من الصعب على النظام فرض القبضة العسكرية على السويداء. فالنظام الذي قدّم نفسه على أنّه حامي الأقليات، لن يخطو خطوة تضعف إيمان داعميه، وسيخسر حينها نقطة قوته الأساسية. لذلك يستخدم الطرق الملتوية ويرسل "داعش" مرّة إلى حدود السويداء لتبقى المدينة خائفة، أو يبيح انتشار السلاح والإقتتال الداخلي.. وكلّها طرق لتبقى المدينة في قبضته.
فقر السكان وغنى القيادات الروحية
يعتبر مقام "عين الزمان" أكثر المراكز الدينية أهمية لدى الدروز في السويداء وهو يتلقى الكثير من التبرعات المادية، سواء من المغتربين في الخارج أو من دروز فلسطين والجولان، كدعم لأهلهم في السويداء وخاصة في السنوات الماضية. لكن العديد من أهل السويداء يشتكون من عدم حصولهم على أيّ مساعدة على الرغم من الأموال الطائلة التي يظهر أثرها المباشر على القيادات الروحية فيمتلك بعض ابنائها سيارات باهضة الثمن كما يمتلكون حراسة تحمل أسلحة ثقيلة. يتذكر أهل المدينة الشاب الذي أتخذ من بسطة أمام باب مقام عين الزمان مصدراً لرزقه بعد أن فقد قدميه في حادث، وقامت الدولة باستملاك أرضه لحفر بئر ماء، ومنح تعويضاً لا يزيد عن 2 مليون ليرة سورية بينما أرضه تستحق حوالي 22 مليون ليرة سورية. الشاب الذي انقطعت به السبل ظنَّ أن اختيار مكانٍ كمقام عين الزمان سيساعده في الحصول على رزقه، إلّا أن القائمين على المقام، وبعد فترة قاموا بطرده قائلين له أن يذهب هو وبسطته إلى مكان آخر.
وعلى هذا النحو تتوجه العائلات الأكثر عوزاً إلى المنظمات الإنسانية والجمعيات الأهلية المنتشرة في المحافظة وتشتكي من أنها لم تحصل على أي مساعدة من المقام.
صدرت بيانات من القيادة الروحية في السويداء تحرّم الفتنة أو الإنجرار خلف الإقتلال، سواء بين أبناء المحافظة أنفسهم أو مع السلطة. تهدد هذه البيانات في الغالب بنفي وإبعاد المخالفين عن الطائفة، وهو أمر يخشاه الكثير من الدروز. ويبدو أن إنغلاق الطائفة على نفسها وتكوينها مجتمعاً مستقلاً جعل الأمر أصعب على أولئك الذين يرغبون بالتغيير.
وتقدر التبرعات التي وصلت إلى السويداء منذ بداية الأزمة السورية بمليوني دولار، نصفها أرسل بداية الحرب لشراء السلاح بسبب خوف دروز فلسطين ولبنان على أهلهم من التهجير أو التصفية، وخصص نصفها الآخر ليوزع على القرى. مؤخراً بادر المعنيون إلى إنشاء مكتبة في مقام عين الزمان، ما يجده كثيرون تستراً على نهب التبرعات، مرددين "هل سنطعم أطفالنا كتباً؟". واعترض البعض على أن هذا المبلغ كان يمكن أن يشغّل على أرض الواقع بإنشاء مشاريع زراعية وغيرها، ستعود بفائدة ملحوظة على المحافظة وتشغّل العديد من العائلات المحتاجة.
ولو كان السكان لا يرون البذخ الذي ينعم به مشايخ العقل، لكان الأمر أكثر سهولة، لكن الفارق الشاسع بين ما يعيشه الأخيرون وسكان المحافظة يعزز الاعتقادات بشأن نهب التبرعات.
الحلقة المفرغة لقمع النظام
بدت المظاهرات التي بدأت يوم7 حزيران/يونيو 2020 في السويداء كما لو أنّها الأمل الذي انطفأ للثورة السورية. ويوماً بعد يوم راح سقف المطالب يعلو، ولقيت تأييداً محلياً ودولياً كبيراً على الرغم من قلّة عدد المتظاهرين الذي يرجع إلى خوف وتردد الأهالي خشية القبضة الأمنية القاسية. وهذا الخوف كان محقّاً، فسرعان ما قام حزب البعث بالإعلان عن مسيرة مؤيدة، في حركة استفزازية واضحة للمطالبين بحقوقهم المعيشية، وعمد إلى إخراج الناس عنوة، عبر تهديدهم بالفصل من وظائفهم وجامعاتهم، وتمّ فصل عدد من الطلاب بالفعل في جامعة السويداء. هذا الأمر ليس جديداً فأغلب المسيرات التي خرجت خلال الثورة كانت تحت تهديد الحزب واتحاد الطلبة. وفي تسجيل صوتي انتشر لرئيسة اتحاد الطلبة في السويداء تدعو فيه الزملاء والطلاب للخروج بدت كما لو أنها مجبرة على الخروج حتى قالت في تسجيل ثانٍ "بالصرماية بنا نطلع"، "بدنا بكرا حشود كبيرة تطلع"، "أعيد انه مسؤولية كبيرة على المقصرين". وفي يوم المسيرة بدت الوجوه باهتة وقد بان عليها عدم رغبتها المشاركة وأن وجودها لا خيار لها فيه.
واستمرت القوات الأمنية والمؤيدون بالتصعيد. وبعد أسبوع،في يوم15 حزيران/يونيه 2020، حاول المؤيدون إثارة غيض المتظاهرين عبر التجمع في "ساحة السير"، موقع تجمع المظاهرة الاحتجاجية، والاقتراب منها حتى تطورت الأمور وهجم المؤيدون على المتظاهرين وتدخل الأمن وعناصر حفظ النظام وكتائب البعث وقاموا بضرب المتظاهرين، وتمّ اعتقال 11 شخصاً، تمكنت "حركة رجال الكرامة" من الإفراج عن 3 منهم من خلال وساطات مع الحكومة. وبعد هذه الواقعة بات المتظاهرون أكثر حذراً.
رداً على المظاهرة المطلبية التي قامت في 6 حزيران/يونيو الماضي، قام حزب البعث بالإعلان عن مسيرة مؤيدة للنظام، في حركة استفزازية واضحة للمطالبين بحقوقهم المعيشية، وعمد إلى إخراج الناس عنوة، عبر تهديدهم بالفصل من وظائفهم وجامعاتهم. وتمّ بالفعل فصل عدد من الطلاب في جامعة السويداء.
كأيّ مدينة سوريّة، السويداء اليوم هي ضحية النظام والقبضة الدينية وطمع بعض ابنائها. لطالما كانت أعماقها تغلي، وفي كل يوم خوف من انفجار صبرها. المدينة التي تحوي اليوم مهجرين من ريف دشق والقنيطرة ومدن أخرى، تبدو غير آمنة تماماً، فإذا ما انفجر صبر هذه المدينة وعمّ الخراب فيها كما عمّ في كثير من المدن السورية الغاضبة، فإلى اين سيهرب المهجرون هذه المرة؟