عبر تاريخهم القريب، كان الذهب والعقار واستقرار سعر الصرف، هي المؤشرات اﻷساسية لثقة السوريين في أوضاعهم الحياتية والمالية، بغياب مؤشرات طمأنة حقيقية نابعة من قوة اقتصاد بلدهم الذي ضيّع بوصلته عقوداً بين اشتراكية لم تنتج سوى عدالة الفقر والفساد، وبين رأسمالية سوق لم يكن لها نصيب من اسمها ("الاجتماعي") سوى تعزيز الفوارق الطبقية بين السوريين.
وعبر تسع سنوات من الحرب، وفي غياب الشفافية لدى مختلف أجهزة صنع القرار، الاقتصادي وغيره، ومعها المصارحة، باع كثير من السوريين ما لديهم من ذهب، أو فقدوه في نزوحهم، أو خسروه إلى جوار دمار عقاراتهم، مما تسبب بالاعتماد على سعر الصرف ـ مقابل الدولار ـ مؤشراً وحيداً في تقييم قدرتهم على الاستمرار في حياتهم داخل البلاد، وهو ما خلق قلقاً مضاعفاً عند كل تغيير طارئ. وهذه الحسابات عززتها سنوات الضيق اﻷخيرة بكل أوجاعها، فلم يعد هناك مجالٌ، ولو ضئيل، للمناورة بما تبقى من أسباب الحياة ضمن هذه الجغرافيا.
"بدنا نعيش" مقابل "ليرتنا عزتنا"؟
مطلع كانون الثاني الفائت، انطلقت تظاهرات في مدينة السويداء (جنوب سوريا) ما تزال مستمرة إلى اﻵن بتواتر متوسط، تحت شعار "بدنا نعيش، لا سياسة ولا تسييس"، وهو ما قصد منظمو المظاهرات إبرازه، مع إشارات إلى أن الحل اﻷمني ليس الحل الوحيد واﻷمثل لمشاكل البلاد. اللافت أن السلطات لم تتدخل لقمع المظاهرات، لا بل إن وكالة "سانا"الرسمية نقلت خبراً عنها، فيما أعلنت إدلب ـ التي تشهد معارك عسكرية عنيفة بين الجيش السوري ومسلحي النصرة ـ دعمها لمظاهرات السويداء.
شكّلت محافظة السويداء حالة وسطية في النزاع السوري، فهي لم تكن مؤيدة للنظام بشكل كامل، وحافظت على هامش من التمرد تجاه سياساته العسكرية بالدرجة الأولى، كما لم تكن محسوبةً على المعارضة، خاصة المسلحة منها. وأضاف كون غالبية سكانها من الدروز ـ اﻷقلية ـ حساسيةً خاصةً في التعامل مع تظاهراتها السلمية، فلا يمكن اتهامها أن وراءها اﻹسلاميين عموماً واﻹخوان خصوصاً، كما لا يمكن التشكيك في وطنيتها فهي تطرح شعاراً مطلبياً بحتاً. والأهم، بالنسبة للنظام، أنها تجري في قطيعة مع "الثورة السورية" وترفض وسم أي من تحركاتها في هذا اﻹطار.
كان القلق الفعلي، وما يزال، لدى الحكومة التي تعاني حصاراً أميركياً، أن تنتقل المظاهرات إلى مناطق أخرى خارج السويداء، وخاصة مناطق الساحل السوري. إلا أن التضامن الفعلي مع التظاهرات بدا شاحباً على العموم، على الرغم من كون هذه الاحتجاجات هي اﻷقوى في مناطق النظام منذ اندلاع اﻷزمة عام 2011، إلا أنها على ما يظهر لا تشكّل تحدياً له حتى اﻵن.
مطلع كانون الثاني الفائت ، انطلقت تظاهرات في مدينة السويداء (جنوب سوريا) ما تزال مستمرة إلى اﻵن بتواتر متوسط، تحت شعار "بدنا نعيش، لا سياسة ولا تسييس"، وهو ما قصد منظمو المظاهرات إبرازه، مع إشارات إلى أن الحل اﻷمني ليس الحل الوحيد واﻷمثل لمشاكل البلاد.
كان من اللافت أن حملةً (اقتصادية) بدأت من منصات التواصل الاجتماعي وصولاً إلى الشارع تحت عنوان "ليرتنا عزّتنا" غطّت المدن السورية، استخدمت فيها الليرة المعدنية الخارجة من التداول منذ العام 2013 بقرار رسمي (لاحقاً أعلنت الحكومة أن الخارج عن التداول هو نسخة عام 1991 وليس 1993 و1994)، حيث قدّمت مطاعم ومحلات بضائع متنوعة ومأكولات بسعر الليرة لكل وحدة بيع (مثلاً سندويشة شاورما بليرة في حين أن سعرها يصل إلى 500 ل.س).
على إثر هذه الحملة، تدفق آلاف السوريين في مختلف المدن للنبش في جيوبهم وبيوتهم عن الليرة المفقودة، ولحقت ذلك عشرات اﻹشاعات عن أشخاص حصلوا على (ليرة ذهب) مقابل ليرة معدنية. أحد التجار أعلن عن بيع سيارة ثمنها 18 مليون ل.س مقابل مليون ليرة معدنية. قاد هذا الجنون إلى بيع وتداول الليرة المعدنية بسعر وصل إلى خمسة آلاف ليرة، وبالطبع لا يمكن الحديث عن أي أثر اقتصادي للحملة.
لكنها تسببت في بلبلة كبيرة في الشارع، معززة مشاهد الذل اليومية التي تسببت بها للناس، وأوضحت الوضع الحقيقي لكثير من الناس (المستورين)، وكيف أن الحكومة في واد، وهم في واد آخر.
أما بالنسبة لمن هم وراء الحملة، فإنها كانت كفيلةً، حتى اﻵن، بحرف الناس عن التفكير في التظاهر خارج السويداء، التي شهدت انخفاضاً في أعداد المتظاهرين، لتبدو وكأنها طريقة في تمييع المطالب الاقتصادية للسوريين بشكل ذكي، أقله الاستفادة من وقت مستقطع لترتيب أو تدبير اقتصادي لاحق، وهو ما كان مطلوباً من الحملة على ما يظهر. لقد استطاع علم نفس الجماهير هذه المرة أن يخدم السلطة بطريقة جيدة، علماً أن محافظتي طرطوس واللاذقية شهدتا إضراباً قصيراً لسائقي السرفيس و التكسي العام الماضي.
"الشو أسمو" يرتفع بجنون.. والأسباب ؟
شهدت اﻷسواق السورية، في مختلف المناطق، عبر سنوات الحرب، حضوراً متزايداً ل"الأخضر"، و"الخس"، و"الشو أسمو"، و"الشايع"، و"ابن الكلب".. وهي مفردات تسمية الدولار الموارِبة بين السوريين، خاصة على الهاتف. فحتى قبل اندلاع اﻷزمة، كان ممنوعاً التداول أو التعامل أو الحديث عن الدولار، وهذه كانت طريقة السلطة في تعزيز التعامل بالعملة الوطنية، وجَعْلها تحافظ على قيمتها أمامه عقوداً قاربت اﻷربعة، دون تغيير.
في الشهرين الماضيين شهدت اﻷسواق السورية ارتفاعاً كبيراً في سعر صرف "اﻷخضر" بعد أن تراوح ﻷشهر بين 600-850 ل.س.فتجاوز السعر اﻷلف ليرة ليصل إلى عتبة 1200 ل.س ﻷول مرة منذ بدء الأزمة عام 2011. وعلى الرغم من ذلك، لم يتكرّم أي مصدر رسمي بتوضيح اﻷسباب التي يمكن أن تكون وراء هذا الانهيار الجزئي.
اﻹجراءات الرسمية، بشكلها المعلن، اتجهت إلى تشديد الخناق على المتعاملين بغير الليرة السورية في عمليات البيع والشراء، ممن لا يمتلكون طابعاً رسمياً يسمح بهذا التداول، مثل التجار الصغار وباعة العقارات ومكاتبها، أو أولئك الذين يتلقون حوالات خارجية من أقاربهم أو عملهم. حدث التشدد عبر مرسوم رئاسي حمل الرقم 3، فرض عقوبات شديدة بحق كل من "يتعامل بغير الليرة كوسيلة للمدفوعات أو لأي نوع من أنواع التداول التجاري أو التسديدات النقدية، سواء كان ذلك بالقطع الأجنبي أم المعادن الثمينة".
"الأخضر"، و"الخس"، و"الشو أسمو"، و"الشايع"، و"ابن الكلب"..، هي مفردات تسمية الدولار الموارِبة بين السوريين، خاصة على الهاتف.
ثم لحقه المرسوم رقم 4 الذي تضمن "عقوبة شديدة على كل من أذاع أو نشر وقائع ملفقة أو مزاعم كاذبة أو وهمية لإحداث تدني أو عدم استقرار في أوراق النقد الوطنية" حيث وصلت العقوبة إلى دفع غرامة مالية بين خمسة إلى عشرة ملايين ل.س. وكان المقصود بهذا الكلام بشكل رئيسي بعض تطبيقات الموبايل وصفحات الفيسبوك التي تنشر اﻷسعار اليومية، وقد أغلق كثير منها بعد صدور المرسوم مباشرة.
لحق هذين المرسومين قرار حمل الرقم 5 صادراً عن رئاسة مجلس الوزراء ينص على حصر عمليات البيع والشراء في قطاعي العقارات والسيارات بالبنوك السورية. حاصرهذا القرار قطاعاً واسعاً من اﻷعمال التجارية، وهو وفق حقوقيين سوريين مخالفةٌ صريحةٌ للدستور السوري، مؤكدين أنه "في حال تنفيذه" ستكون له آثار سلبية على السوق العقارية السوريّة خاصة، وعلى الاقتصاد الوطني بشكلٍ عام.
الهجرة قدر الكفاءات السورية قبل الحرب وبعدها
15-06-2019
اﻹجراءات غير المعلنة من قبل السلطة تناقلها الناس بخفوت، دون كثير حديث على منصات التواصل الاجتماعي أو غيرها. والسبب لم يكن فقط أن أسماء من طالتهم كبيرة وذات تاريخ حاضر في ذاكرة الاحتجاجات، مثل رجل اﻷعمال "رامي مخلوف"، بل ﻷن حصيلة مصادرات تفكيك هذه اﻹمبراطوريات المالية والاقتصادية كانت كبيرة جداً. ووفق التسريبات غير الرسمية، فإنها جاوزت 150 مليار دولار. وبإضافة 50 ملياراً آخراً مودعة في البنوك اللبنانية، فإن الذي توقعه السوريون هو أن يحدث انخفاض كبير في سعر الصرف قياساً على أن هذه المصادرات سوف تصب في الاحتياطي العام للبلد. إلا أن مصيرها ومسارها الجديد بقي مجهولاً ودون أي توضيح رسمي لما آلت إليه.
الإجراء الحكومي الوحيد الذي دخل خط الكارثة فعلياً كان اقتراحاً، حتى اﻵن، بتزويد "البطاقة الذكية" ـ وهي بديل إلكتروني لبطاقات التموين أيام الثمانينيات لا أكثر ـ بمخصصات لكل مواطن من المواد الرئيسية ـ كيلو سكر وكيلو رز و200 غرام شاي بسعر التكلفة ـ على أن يدخل التنفيذ في شهر شباط/فبراير الجاري عبر شركة "السورية للتجارة" المملوكة للحكومة. وقد نالت هذه الخطوة سخريةً مريرة من السوريين على منصات التواصل الاجتماعي، فهناك عشرات المواد الغذائية اﻷساسية اﻷخرى التي ارتفع سعرها عشرات اﻷضعاف، إلى جانب ما يعرفه السوريون جيداً من أن حيتان البلاد هي التي تقف وراء جزء كبير من الارتفاع الجنوني في سعر الصرف، خاصة عبر العمل على تحقيق أرباح خرافية في تمويل المستوردات.
أرباح دولار المستوردات: أرقام فلكية!
منذ العام 2016 لم تتدخل الحكومة السورية في دعم سعر الصرف، بعد أن استنزفت هذه العمليات مخزون الدولة الاحتياطي الذي أصبح وفقاً لبعض الاقتصاديين بحدود 17 مليار دولار أميركي (تخميناً)، بعد أن كان فوق 50 مليار في العام 2011 (كذلك تخميناً). وهو ما تسبب في انتقال الأسواق إلى سياسة العرض والطلب. ولكن إقفال السوق الخلفية اللبنانية منذ وقت قريب، ومنع السحب من بنوكها، تسبب في قلة حركة المعروض في اﻷسواق، وهو ما نتجت عنه زيادة الطلب وبالتالي انخفاض قيمة الليرة السورية.
بشكل رئيسي، تقوم الدولة السورية حتى اﻵن بتمويل بعض المواد المستوردة، وخاصة المواد الغذائية، مثل السكر والرز والشاي والقمح، وبعض هذه المواد (مثل السكر والقمح) كانت تنتج محلياً وتكفي حاجة السوق تقريباً، ولكن تراجع المساحات المزروعة بسبب الأعمال العسكرية وهجران الفلاحين ﻷراضيهم (خاصة في الجزيرة وسهل الغاب)، وعوامل أخرى كثيرة، أدت إلى تناقص اﻹنتاج. فعلى سبيل المثال تناقص الإنتاج السنوي من الشمندر السكري من 450 ألف طن إلى أقل من عشرة آلاف طن في العام الماضي. وبالمثل، فإن إنتاج القمح، الذي توقعت وزارة الزراعة أن يتجاوز 2 مليون طن، لم يصل إلى نصف هذا الرقم، بفقدان أكثر من 60 في المئة من المساحات المزروعة، وتحول البلاد من دولة مكتفية ذاتياً إلى مستوردة.
في فك أحاجي الحدث السوري
17-10-2019
تدعم الدولة المستوردات السابقة بتقديم الدولار للتجار بعد إتمام عملية الاستيراد للمادة، حيث تسعّر الدولار ب 440 ل.س، أي أن استيراد 10 آلاف طن من السكر (وفق السعر العالمي البالغ قرابة 404 دولاراً للطن حالياً) تخلق ربحاً يعادل 1.8 مليار ليرة من فرق سعر الدولار البالغ وسطياً في السوق ألف ليرة، يضاف لها مربح بيع الدولار في السوق بإجمالي يقارب 5 مليار ليرة سورية. بالطبع، يمكن للدولة أن تقوم باستيراد المواد السابقة، ولكن ما يحدث هو أن تجاراً معينين هم من يفعل ذلك، ضمن شبكة من المحتكرين المعروفين، وﻷسباب يتعلق بعضها بمجريات الحرب الدائرة في البلاد، كما وﻷسباب أخرى، رجّح فيها بعض الاقتصاديين أن الدولة تعمل على تخفيض قيمة العجز في ميزانيتها.
المواد اﻷساسية، الارتفاع اﻷكبر
يعاني السوريون في حياتهم اليومية بشكل أساسي من صعوبة تأمين بعض المواد الأساسية مثل الغاز وفيول التدفئة والمواد الغذائية، وهذه مواد أصبحت مستوردة منذ العام 2014، بعد خروج مناطق إنتاج النفط والغاز عن سيطرة الدولة، أي مناطق شرق الفرات، وأبرزها مصفاة غاز "كونيكو" (في دير الزور) التي تسيطر عليها القوات اﻷميركية إلى اﻵن، وكانت تؤمن تقريباً ثلث حاجة البلاد من الغاز المنزلي.
منذ العام 2016 لم تتدخل الحكومة السورية في دعم سعر الصرف، بعد أن استنزفت هذه العمليات مخزون الدولة الاحتياطي الذي أصبح وفقاً لبعض الاقتصاديين بحدود 17 مليار دولار أميركي (تخميناً)، بعد أن كان فوق 50 مليار في العام 2011 (كذلك تخميناً).
حصرت الدولة توزيع الغاز المنزلي المستخدم في الطبخ والتدفئة (خاصة في المدن) بمؤسساتها، وعبر عبر "البطاقة الذكية" بمعدل جرة واحدة سعتها 10 كيلو كل 21 يوماً، بسعر وسطي 2650 ل.س (3 دولارات تقريباً) مع تصريحات ظهرت مؤخراً هنا وهناك تقول بأنها تكلف الدولة قرابة 6 آلاف، وهو ما فهمه المواطنون فوراً على أنه نية برفع سعرها.
نجحت تجربة البطاقة الذكية في حل مشاكل الازدحام والتدافع على الغاز في سوريا بنسبة كبيرة، لا تقارن بمشاهدها شتاء العام 2018 إبان أكثر أزمة خانقة ضربت البلاد بعد توقف شبه كلي لاستيراد الغاز من إيران، إثر العقوبات الأميركية على الجانبين، إلا أن مشاهد الطوابير الطويلة ما تزال حاضرة في عدد من المدن السورية. على أن القطاع اﻷكثر تأثراً بعدالة توزيع مادة الغاز هو القطاع اﻹنتاجي، وخاصة قطاع اﻷلبان واﻷجبان، وهو ما تسبب في إغلاق عدد كبير من المحلات إضافة إلى ارتفاع أسعار منتجاته بنسبة 25 في المئةعلى اﻷقل.
مؤخراً، وبعد مطالبات كثيرة، أضيفت خدمة مجانية جديدة تقوم فيها الشركة المشغلة للبطاقة، بإرسال رسالة نصية للمواطن تحدد له مكان وزمان استلام الجرة عبر الهاتف الخليوي، إلا أن الازدحام وتسريب البيع إلى السوق السوداء لم ينته كلياً، خاصة في محافظة حلب التي وصل فيها سعر الجرة المهرّبة إلى أكثر من عشرة آلاف ل.س.
التضخم يبتلع كل شيء
العامل الثاني في مأساة السوريين، وهو اﻷكثر حضوراً في الحياة اليومية، هو التضخم الاقتصادي الذي تسبب في خروج الليرة من المنافسة والحضور في الأسواق، وجعلها كعصف مأكول، إلى درجة أن زيادة الرواتب اﻷخيرة (تشرين الثاني/نوفمبر2019) للموظفين التي انتهت بعد الضرائب لتكون 13 ألف ليرة بالشهر، وكانت تعادل وقتها 28 دولاراً، أصبحت بعد شهرين، في كانون الثاني 13 دولاراً.
وفي الوقت نقسه ارتفعت أسعار السلع الغذائية اﻷساسية، سواء المنتجة محلياً أو المستوردة. فعلى سبيل المثال، ارتفع سعر كرتونة البيض من 1800 ل.س وسطياً إلى قرابة 2600 ل.س وسطياً، وهو ما جعل قطاعاً واسعاً من السوريين خارج إمكانية تأمين مستلزمات حياتهم التي قدرت دراسة اقتصادية قيمتها الشهرية بما يقرب من 300 ألف ل.س (300 دولار وفق أسعار السوق، و600 تقريباً وفق أسعار الصرف الرسمية 440 ل.س).
العوامل الرئيسية لهذا التضخم يمكن القول إنها ناتجة عن اسباب متداخلة، داخلية وخارجية. فقد تسببت سنوات الحرب التسعة في توقف كثير من المعامل والمصانع والورش الصغيرة (أساس الاقتصاد السوري الصناعي)، وهجرة وتهجير ونزوح آلاف المهنيين خارج البلاد، وهو ما جعل الناتج المحلي اﻹجمالي السوري (GDP) (1) يتراجع من 61.1 مليار دولار في العام 2010 إلى 17.1 مليار دولار في العام 2017).
على الجانب الخارجي، فإن الاحتلال اﻷميركي لمنابع النفط السوري، وقبله الاحتلال الداعشي لها، تسبب في فقدان حصة كبيرة من القدرة على تحريك العجلة اﻹنتاجية للاقتصاد السوري بغياب عناصر الطاقة، أي الغاز والفيول، واستنزف بالمقابل كمية ضخمة من الاحتياطي في محاولة تأمين الطاقة المفقودة. وجاء إغلاق بوابات الاستيراد ـ والحصار الاقتصادي ـ ليكمل المهمة. ومع إقرار "قانون سيزر" (2) فإن عقوبات جديدة سوف تتسبب بمشاكل جديدة، وسيكون من الصعب حالياً التنبؤ بتأثير ذلك على الشعب السوري، بالطبع، لن يؤثر القانون الذي هللت له بعض جهات المعارضة على أصحاب القرار والمتنفذين.
فسحة من اﻷمل؟
لا يبدو الحل السوري مشجعاً على ارتكاب أيّ من خطايا الأمل. فالسوريون، المنقسمون على أنفسهم، قد وصلوا ـ داخلاً على الأقل ـ إلى قناعة بأن الحلول لا يمكن استيرادها. إلا أنه بالمقابل لا يتم العمل على تصنيعها محلياً، وما يجري أقرب إلى الترقيع المتتالي للكوارث والمصائب التي يحيا السوريون في قلبها يومياً، في ظل قناعة أن الحكومة الحالية تنفّذ توجيهات البنك الدولي (المخفية) وأولها تحرير اﻷسواق ومحاصصة المنافع من قبل شخصيات يعرفها السوريون جيداً.
ما تحتاجه البلاد، لازم أن يكون حلاً وطنياً شاملاً، يبدأ بحكومة إنقاذ، أولى مهماتها التأسيس لعقد وطني جديد. إلا أن هذه اﻷحلام ستبقى كذلك، أقله في المدى المنظور بحضور التوافقات الدولية التي لا يهمها بالمطلق حال الناس السوريين.
*العنوان مأخوذ من رسالة لطه حسين.
1- وفق تقديرات معهد كارنيجي.
2- قانون اقره الكونغرس الامريكي في 22 كانون الثاني/يناير 2019" وأسماه "قانون العقوبات لحماية المدنيين في سوريا" وهو يطال مؤسسات النظام السوري وحلفائه والمتعاملين معه، اي ايران وروسيا.