"التعفيش" في الحرب السورية

في كتابه "دلالة النهاية"، يكتب الروائي البريطاني المعاصر جوليان بارنز "مع تضاؤل عدد الشهود على حياتك، تتضاءل إمكانية الإسناد، وبالتالي يتضاءل اليقين بالنسبة إلى ما أنت عليه أو ما كنتَ عليه" (تُرجِمَ عربياً تحت عنوان "الإحساس بالنهاية"، والكاتب حائز على جائزة مان بوكر 2011)..
2016-10-26

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
محمد خياطة - سوريا

في كتابه "دلالة النهاية"، يكتب الروائي البريطاني المعاصر جوليان بارنز "مع تضاؤل عدد الشهود على حياتك، تتضاءل إمكانية الإسناد، وبالتالي يتضاءل اليقين بالنسبة إلى ما أنت عليه أو ما كنتَ عليه" (تُرجِمَ عربياً تحت عنوان "الإحساس بالنهاية"، والكاتب حائز على جائزة مان بوكر 2011)..
يسمح هذا المقتطف برؤية جانب لا مرئي في تفسير ظاهرة "التعفيش" التي أضحت واحدة من عديد ظواهر الحرب السورية المثيرة للقلق في ما يتعلق بتأثيراتها الممتدة في عمق المستقبل السوري. هذا الجانب، هو غياب (وتغييب) الشهود الواقعيين على تلك الأفعال التي تتعارض كليةً مع سلّم القيم المجتمعي بمفاهيمه الثقافية والاجتماعية والدينية كافة، منتجةً لدى القائمين على التعفيش حلولاً لأزمتهم الأخلاقية تتمثل في كون غالبية أصحاب هذه الأغراض المعفشة، وغالبها أثاث بيوت قضى أصحابها شقاء عمرهم في تأمينها، غائبين ولن يعودوا إلى بيوتهم أبداً.
يمثّل هذا الإسناد تبريراً قاصراً، يُضاف له تجديد على المجموع القيمي بأن هذا الآخر ـ السوري سابقاً ـ لم يعد له (حق) الاعتراض بعد أن ترك بيته وحارته منصاعاً لهذه الجهة المسلحة أو تلك، وبالتالي لم يدافع عنها بوجه مغتصبيها منه. وإن كان قد انتقل مجبراً إلى منطقة سكنى قريبة، فإن عليه أن يدفع ثمناً مضاعفاً بسبب احتضانه هذه الجماعات والتنظيمات (المعضمية نموذجاً). يصحّ هذا الأمر على جهتي الصراع، وفي الحالين يكون السوري الغائب ـ غصباً عنه في غالب الأحوال ـ ضحية هذا التجديد القيمي العكسي.
المصطلح في أساسه اللغوي جاء من كلمة عَفْش العربية، وهي تعني الفرش والأثاث، و "عَفَش البيت" أي نقل أثاثه. وفي العامية يستخدم كذلك بمعنى "اللقط" بالجرم المشهود، ولعل التخريج الأخير لها هو الأكثر ارتباطاً بمعناها المستخدم فعلياً، وهذا المصطلح صناعة سورية خالصة مثله مثل التشبيح والتفييش والتطنيش، وغيره من مفردات ولدتها الذاكرة الجمعية السورية في خضم مأساتها، وانتقلت من حيزها الدلالي الأساسي إلى حيز دلالي مفارِق عبر وسائل الإعلام والجمهور.
بدأت الظاهرة برفض مجتمعي لدى عموم السوريين أوّل الأحداث، ثم انخفض مستوى رفضها تدريجياً إلى حدّ القبول. وفيما كانت اتهامات طائفية تخندق الظاهرة لدى الأقليات فقط، لم يعد اليوم هناك من أحد لم ينخرط بها في مستوياتها المختلفة. هذا النفي لغياب الرفض ــ سوى لدى قلة قليلة تدفع ثمن اعتراضها غالياً ــ يجعل من محاولة التفسير الاقتصادية للظاهرة نفسها أهون التفاسير.
وهي تدرجت من حالة "طفيفة" يقوم بها "بعض العوام" لتصبح نهجاً ثابتاً في كل معركة تخاض على امتداد الوطن السوري. فما إن يخرج مسلّحو هذه الجهة أو تلك من منطقة ما حتى تبدأ عمليات الجرد والتقسيم والتوزيع والتحميل علانية بما يتوافر من آليات نقل. اليوم هناك أسواق على امتداد الوطن تبيع هذه المسروقات دون وجود أي وازع أخلاقي يمنع تأصيل الظاهرة وتحوّلها إلى منتج للقيم الضارة وأوّلها تداعي الثقة الجمعية، والصورة المتشائمة للمستقبل مقابل الصورة النوستالجية للماضي.
تحوّلت محال التعفيش من بيع مختلف الأغراض إلى محلات متخصصة في قطاع معين من المواد، فهناك محال مختصة بالسيراميك وأخرى بالكهربائيات وثالثة بالأبواب والشبابيك وهلمّ جرّا.. وهي اليوم تتوزع على مختلف الخارطة السورية تحمل أسماء لها دلالاتها القاسية. فبعضها يحمل لدى المؤيدين للنظام اسم "سوق الثورة" و "سوق الحرية" تهكّماً، ويسمّيها المعارضون بأسواق "السنّة" محددين الهوية الطائفية لمن سُرِقوا، في حين تحمل أسواق أخرى أسماء المدن والبلدات التي أقيمت فيها، وأوّل الأسواق التي حملت هذه الأسماء كانت في حمص.
غالبية محال البيع الرئيسية للمعفشات أقيمت على عجل لتأمين السرعة في نقل البضائع، وتقع على أطراف المناطق المدمّرة أو المهجّرة، حيث يسكن أحياناً مهجرون من المنطقة نفسها أو من مناطق أخرى أبعد، يتغلبون على ذكريات الآخرين وروائح شركاء المأساة بكثير من الغصة دون أن يكون لديهم بديل في ظل منفى قد يتجدّد في أية لحظة، وفي ظل ارتفاع جنوني لأسعار البضائع المستعملة حتى لو كانت غير معفشة.. لذا يقبلون على شرائها ممارسين النسيان مرغَمين.
في الوقت عينه، لم تخلُ المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام من تلك الأسواق التي يحكمها هي الأخرى منطق تعفيش (شرعي) يجد في أثاث وأغراض بيت أي فرد مؤيد للنظام هدفاً شرعياً بيعه "حلال"، والتصرف به والسكنى فيه وتفجيره أيضاً.. ويعج سوق سراقب (مثلاً لا حصراً) بعشرات الأغراض التي مصدرها مناطق تقع أحياناً تحت سيطرة المعارضة نفسها.
في مناطق الشمال السوري، تمّ رصد حالات متعددة للتعفيش الممنهج قام فيها عدد من التنظيمات بسرقة عفش بيوت على خلفيات قومية (في تلّ أبيض وعين العرب وتل تمر، عرب وأكراد) ثم تفجيرها. في بعض الحالات وضعت علامات على البيوت تمييزاً لها حسب قومية ساكنيها (بيت عربي، كردي، آشوري)، في حالات أخرى تمّت سرقة المحاصيل الزراعية كالقمح، بإشراف مباشر من قوى عسكرية كبرى مختلفة الانتماءات، كذلك حدثت تصرفات مشابهة في المناطق المختلطة طائفياً ووضعت فيها علامات مشابهة (إشارة x على البيوت التي يجب تعفيشها بلون أحمر)، كما في منطقة البسيط المختلطة طائفياً (شمال اللاذقية).
وفي حين تسبب خروج المسلحين من محيط مناطق ريف العاصمة بانتعاش سوق التعفيش وانخفاض أسعار الغسالات مثلاً من مئة ألف ليرة سورية (200 دولار) إلى قرابة النصف، فقد تسبّب ارتفاع كلفة النقل باتجاه الساحل بارتفاع أسعار المواد المعفشة خاصة الكهربائيات. تحوّلت الظاهرة إلى سوق موازية لها قوانينها في العرض والطلب.
هذه الظاهرة ليست غريبة عن عالم الحروب والصراعات كما يعرف الجميع، إذ لطالما كان الدافع الأقوى لأي غزو، سلبُ ما يملكه الآخر من مال وأرزاق وأملاك (ونساء)، ويشهد التاريخ القريب والبعيد على عشرات ارتدادات البشر إلى عقليات قبل حضارية وممارسات جعلت تبرير هذا التحول الاجتماعي الإنساني المعكوس قيمياً أمراً مؤلماً وصادماً، ولكنه لدى كثيرين مجازٌ يخلع شرعنة بالمعنى القيمي على الفعل في حد ذاته.
كانت ولادة التعفيش متوقعة في خضم تحولات الأزمة السورية منذ لحظات ارتقائها العنفي نحو الاستعصاء مؤديةً إلى انغلاق كثير من مقاصدها. إلا أن المرجوّ كان أن يكون لدى المجتمع السوري قليل من حصانة قيمية لطالما ادّعت منظومات الإعلام والبروباغندا الحكومية ـ كما مقابِلاتها المعارضة ـ وجودها وتجذّرها في التاريخ والحاضر، وبالتالي أن يكون انتشارها على أضيق نطاق ممكن. إلا أن الجليّ أنها تمكّنت من انتزاع سبق الصدارة وبجدارة.
يصعب تفسير التعفيش دون الدخول في عمق فساد الدولة الوطنية في عقودها الفائتة، هذا الفساد الذي سبق للمفكر "الطيب تيزيني" أن وصفه بالفساد الممنهج، الذي جعله النظام السياسي العربي يلفّ الجميع لوضعهم في موقع الإدانة تحت الطلب، خالقاً تطبيعاً اجتماعياً للفساد. ويصح هذا على الحالة السورية ومنظوماتها التي تمارس سياسات إغماض العين عما يجري أمامها لكونها شريكاً مؤدلجاً فكرياً للنظرة الدونية تجاه الآخر السوري، ومقدّمة في الوقت عينه، مبررات استمرار الظاهرة بوجود وضع اقتصادي كارثي أوصل الناس إلى الدرك الأسفل في أوضاعهم المعيشية، الأمر الذي أجبرهم على اجتراح حلول وسطية بين المثل الأخلاقية ومعاييرها الصارمة والضغوط الحياتية مستخدمين فيها نسخاً متعددة من "الأخلاقيات" تبرر أفعالهم.. وأفعال الآخرين!
.. ما يكشف عن وجود خلل مجتمعي كبير يكاد يذهب بالبقية الباقية من سلم القيم السوري المشترك.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه