يحدث في قرية سودانية: التجربة و.. فلسفتها!

استضافت منطقة الدندراوية بصعيد مصر الشهر الماضي المنتدى الاقتصادي الثاني تحت عنوان "طاقات الجنوب، فرص وتحديات". ومن بين الذين قدموا ورقة أمام المؤتمرين وفد من قرية ود بلال التي تقع على بعد 166 كيلومتراً جنوب العاصمة السودانية الخرطوم، تتحدث عن مشاريع وخطط للتنمية الريفية في المنطقة. القرية السودانية، وعبر شركتها "ود بلال للاستثمار والتنمية الريفية المحدودة" لفتت
2016-01-21

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
الصادق عجينة - السودان

استضافت منطقة الدندراوية بصعيد مصر الشهر الماضي المنتدى الاقتصادي الثاني تحت عنوان "طاقات الجنوب، فرص وتحديات". ومن بين الذين قدموا ورقة أمام المؤتمرين وفد من قرية ود بلال التي تقع على بعد 166 كيلومتراً جنوب العاصمة السودانية الخرطوم، تتحدث عن مشاريع وخطط للتنمية الريفية في المنطقة.
القرية السودانية، وعبر شركتها "ود بلال للاستثمار والتنمية الريفية المحدودة" لفتت الأنظار في أواخر العام 2014 عندما أعلنت كلّ من وكالة رويترز للأنباء وبنك أبو ظبي الإسلامي أنّ مشروعها حاز مناصفة جائزة "مبادرات الخدمات المصرفية المبنية على أسس أخلاقية" Ethical and Islamic Finance Innovation Award
وهذا حدث في سياق منافسة كبيرة، إذ تقدم إلى الجائزة أكثر من مئتي مشروع. دخل بنك الخرطوم في شراكة مع أهل القرية بتوفير التمويل لمشروع لتسمين ألف عجل تخدم نحو 400 أسرة سيكون متاحا لها التمويل إلى جانب العون الفني والتسويقي، ويصبح المستفيد مجتمع القرية ككل، وذلك عبر توفير التمويل الأصغر وتجميعه في سلة واحدة لمصلحة مجموع حملة الأسهم، بدلا من صيغة التمويل الفردي السائدة، خاصة أن كل أفراد القرية يُعتبرون من حملة أسهم الشركة، بمن فيهم الذين لم يستطيعوا المساهمة، إذ تم الدفع نيابة عنهم، وذلك حتى تعمل الشركة على أسس تجارية بهدف تحقيق الربح وتخصيص جزء من العائد للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. والفكرة أن تتناقص شراكة وأسهم بنك الخرطوم مع تحقيق أرباح، حيث يتم كل مرة شراء حصص لمصلحة مجموعة من أفقر الأسر إلى أن يخلص المشروع في النهاية لمصلحة القرية وشركتها.

مفهوم التنمية هنا

مشروع تسمين العجول يفترض أن يكتمل هذا الشهر، كما استكملت الدراسات لإقامة بيوت مغلقة أو شبه مغلقة للدجاج اللاحم، وتستمر الاتصالات لتوفير التمويل، ويؤمل أن يبدأ العمل في هذا المشروع في النصف الثاني من هذا العام لإنتاج 50 ألف دجاجة كل 35 يوما. وإلى جانب الاستثمار في المشاريع ذات العائد، هناك أيضا جانب التنمية الاجتماعية، حيث قطع شوطا بعيدا مشروع محو الأمية التقنية بتعليم أهل القرية كيفية التعامل مع الحاسوب والإنترنت، ويتوقع أن يكتمل قريبا بناء أول فصل ومكتب ومخزن ستمثل الأساس لتشغيل روضة حديثة للأطفال تسع خمسين طفلا بداية، مع تجهيز احتياجاتها من مقاعد وألعاب ومُعِينات تعليمية. وتم أيضا إنشاء مكتبة تضم 12 ألف عنوان، خصص لها أحد المرافق الملحقة بالمسجد، إلى جانب توفير تغطية تأمينية صحية لغير القادرين ماليا، وتحمّل رسوم دراسة الطلاب المعسرين ليسددوها بعد تخرجهم. على أنّ الهدف الرئيس في الجانب التعليمي يبقى إنشاء مدرسة ثانوية نموذجية تستوعب أبناء القرية وتتيح الفرصة للأوائل من مدارس أخرى في الولاية، وإغرائهم للتقديم للمدرسة بتوفير السكن والعديد من الأنشطة الرياضية والثقافية والترفيهية، بهدف إيجاد مناخ من التنافسية وتحقيق مستوى عالٍ من التميز الأكاديمي. البدء بتنفيذ فكرة المدرسة انطلق من مبلغ الخمسين ألف دولار التي شكلت التقدير المالي للجائزة التي حصل عليها مشروع تسمين العجول. ووجدت فكرة المدرسة النموذجية هذه تجاوبا شعبيا كبيراً، إذ تبرع أحدهم بقطعة أرض مساحتها خمسة آلاف متر مربع لإقامتها عليها، كما تتالت التبرعات لإقامة فصل هنا أو مرفق هناك. وفي خطط الجمعية تخصيص جزء من عائد المشاريع الاستثمارية لمصلحة التنمية الاجتماعية، بل شمل الاهتمام أيضا الجانب البيئي بالتخلص من النفايات والتشجير. فكرة "شركة ود بلال" قامت على أساس الاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة في القرية، وأهم من ذلك، استغلال إمكانيات وقدرات واتصالات أبناء القرية من الموجودين داخلها أو خارجها، أو حتى خارج السودان. وتمّ تقسيم العمل الى عدة لجان تغطي مختلف الأنشطة، وقامت لجنتا الشؤون الاقتصادية والثروة الحيوانية بإعداد الدراسة الأولية لمشروع تصدير العجول بعد استيفاء حاجة السوق المحلي، خاصة أن القرية تقع على بعد 20 كيلومتراً شمال مدينة "مدني" عاصمة ولاية الجزيرة.

رسائل متعددة

مضى على فكرة الشركة أكثر من عقد من الزمن، وواجهت الكثير من العقبات العملية والبيروقراطية، لكن اللافت فيها هو الاعتماد الأساسي على الطاقات الذاتية والموارد المتاحة لأهل القرية، وتطويرها بصورة اقتصادية وتجارية، واستخدام العائد منها في شكل أرباح لتمويل مشاريع التنمية الاجتماعية، ومحاربة الفقر في القرية بطريقة عملية، بإدخال أفقر الأسر لتصبح من حمَلة الأسهم في المشروع، وذلك بدلا من التركيز على الجانب الخيري أو الإغاثي فقط. ولهذا تحمل التجربة عدة رسائل، تذهب بصورة رئيسية في اتجاهات ثلاثة:
• أولها اللجوء إلى استغلال الطاقات الذاتية وتجميعها خدمة للمجتمع ابتداء من فقرائه. فبسبب ضعف الدولة وتلازم عمليات العنف والحروب والتأثيرات السلبية للتغير المناخي، مثل الجفاف والتصحر، وجد السودان نفسه في أحيان كثيرة يعتمد على العون الأجنبي، ومن أبرز حملات الإغاثة هذه عملية "شريان الحياة" التي بدأت في الثمانينيات واستمرت لأكثر من عقد وشكلت أول خرق لسيادة الدولة، إذ تم الاتفاق على إطلاق جزء من العملية من مناطق خارج سيطرة الحكومة، وذلك إبّان الحرب الأهلية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت. ولا يزال موضوع الإغاثة هذا موضع نزاع بين الحكومة والمتمردين.
• أما الثاني فيقول إن ما يجري في ود بلال هو تطبيق حي ونموذج يتحدث بنفسه عن فكرة توليد الثروة والنجاح في إنجازها لمصلحة أبنائها، وفي ميادين أكثر حيوية، مثل إخراج بعض الأسر من دائرة الفقر والتركيز على جانب التنمية الاجتماعية وخاصة التعليم، وذلك مقابل مفهوم قسمة الثروة الذي هيمن على المشهد السياسي السوداني، مع المفهوم الآخر وهو قسمة السلطة.. وهما اعتُبرا مدخلاً لمعالجة الاختلال التنموي والسياسي وتركز السلطة في المنطقة النيلية ووسط السودان. وقد أعْلَت اتفاقية السلام مع جنوب السودان المبرمة في 2005 مبدأي قسمة السلطة والثروة، وهو ما تكرر مع الحركات المتمردة في دارفور.. لكن حصيلة ذلك التدبير لم تفد مناطق الهامش كثيرا، بل تركزت في مواقع وزارية ومصالح ذاتية لبعض أبناء تلك المناطق، لم تنعكس بصورة واضحة على النواحي المهمشة ولا هي خاطبت قضايا التخلف وغياب التنمية والخدمات فيها.
• على أن أهم الرسائل هي تلك التي تتعلق بدور النخب وعلاقاتها بالمجتمع. فطوال تاريخ السودان المستقل الذي بلغ ستين عاما حتى الآن، تولّت النخب المدنية والعسكرية والطائفية قيادة البلاد تحت مختلف اللافتات العسكرية والمدنية، مع تغييب واضح للبعد الشعبي وهمومه واهتماماته. ولكن سجل أداء هذه النخب طوال العقود الماضية لم يكن مرْضيا، بدليل طوفان مشاكل البناء الوطني التي لا تزال تعتور البلاد. ونموذج ود بلال يطرح صيغة جديدة ورسالة بالغة الأهمية: النخب يمكن أن تلعب دوراً مع الناس وبينهم لتغيير الأوضاع بدلا من قيادتهم في مسارب وخيارات قد لا تتفق بالضرورة مع مصالحهم الحياتية.

كما أنّه ليس بالضرورة أن ينطلق قطار التغيير من منصة سياسية، ومن أعلى فقط بواسطة الحكومة، بل يمكن، كما أوضح النموذج، بدء التغيير من أسفل وبمشاركة المجتمع. وهذا ما يشكل تحديا في كيفية تسرب هذا النموذج إلى دائرة الاهتمام الوطني العام، سياسياً وإعلامياً واقتصادياً، ليصبح محور الفعل والقول الذي يعطي للسياسة محتوى أكثر التصاقا بالناس.. الذين تتحدث باسمهم.

 

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...