السودان: أزمات داخلية بقناع إقليمي

انفجرت أزمة إغلاق المركز الثقافي الإيراني في الخرطوم في خضم المتاعب التي يعاني منها السودان، سواء تلك التي تتعلق ببنية الحكم أو باشتعال التمرد مرة أخرى في ما أصبح يطلق عليه «الجنوب الجديد» في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، أو بتردي الوضع الاقتصادي بسبب انفصال الجنوب الذي حمل معه نحو 90 في المئة من عائدات البلاد من العملة الصعبة من مبيعات البترول، حيث أصبحت معظم
2014-10-01

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
عبد الوهاب محمد نور - السودان

انفجرت أزمة إغلاق المركز الثقافي الإيراني في الخرطوم في خضم المتاعب التي يعاني منها السودان، سواء تلك التي تتعلق ببنية الحكم أو باشتعال التمرد مرة أخرى في ما أصبح يطلق عليه «الجنوب الجديد» في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، أو بتردي الوضع الاقتصادي بسبب انفصال الجنوب الذي حمل معه نحو 90 في المئة من عائدات البلاد من العملة الصعبة من مبيعات البترول، حيث أصبحت معظم الاحتياطيات النفطية في الدولة الجديدة، مما أدى الى احتقان سياسي تمثّل في اضطرابات وهبات شعبية خلال العامين الماضيين. قرار السلطات السودانية إغلاق المركز لـ«تجاوزه التفويض الممنوح له»، ولما أصبح يشكله من «تهديد ثقافي وفكري» وفقاً لبيان وزارة الخارجية السودانية، جاء يضاف الى قائمة المتاعب التي تعيشها البلاد، بل هو يعطيها بعداً إقليمياً. ومع أن المركز يعمل منذ عهد الحكومة البرلمانية التي ترأسها الصادق المهدي (العام 1987) وأطاح بها الرئيس الحالي عمر البشير في انقلاب عسكري، إلا أن ظهور متشيّعين (12 الى 14 ألفاً وفق تقديرات غير رسمية) أثار انتباه جماعات دينية عديدة، خاصة «أنصار السنة المحمدية»، الذين لهم صلات قوية بالجماعات الدينية الخليجية، وخاصة في السعودية، الى جانب المتصوفة المنتظمين في الطرق العديدة التي تشكل عماد الممارسات الإسلامية في السودان. بل وقعت بعض الاحتكاكات على المستوى الشعبي.
وفي الفترة نفسها، طرحت الموجة الأولى لثورات «الربيع العربي» على الأنظمة ضرورة إعادة النظر العامة وإفساح مجال أكبر للحرية الإعلامية والمشاركة السياسية، وهو ما أصاب برشاشه الحكم في السودان ودفعه الى خانة الدفاع. على أن تلك الموجة أدت من ناحية ثانية الى بروز القوى السياسية الإسلامية التي اعتبر نظام الحكم في السودان من بينها وهو ما قاد الى اصطفافات إقليمية ومواجهات مع تلك القوى قادتها الدول الخليجية ومصر، وكان نصيب السودان منها تشديد الحصار الاقتصادي عليه. ففي مطلع هذا العام قام عدد كبير من المصارف الخليجية بوقف تعاملاتها مع رصيفاتها السودانية. ومع أن الأمر تمّ تفسيره وقتها في إطار فني يتعلّق بعدم الوفاء باستحقاقات مصرفية، مالية وإدارية، إلا أنه من الصعب استبعاد الجانب السياسي، وضعاً في الاعتبار الظروف التي تعمل فيها المصارف الخليجية وعلاقاتها بسلطات دولها.
ثم جاءت الخطوة الأميركية بتغريم بنك «باريبا» الفرنسي تسعة مليارات دولار لتعامله مع السودان وإيران ليوفر الحجة لعدم التعامل المصرفي مع السودان خوفاً من عقوبات مماثلة. وهكذا أدت تلك الموجة من الحراك الثوري إلى ضربتين مزدوجتين، داخلية وخارجية للنظام في السودان: الإلحاح على تلبية الاستحقاقات المؤجلة بالتحول الديموقراطي الداخلي، ثم إحكام حلقات الحصار السياسي والاقتصادي الخارجي والإقليمي. ولا يمكن النظر الى قرار إغلاق المركز الثقافي الإيراني خارج هذا الإطار.

بعض التاريخ

تعود أول محطة رئيسية للعلاقة الثنائية بين ايران والسودان الى العام 1974، عندما قامت الخرطوم إبان عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري بافتتاح أول سفارة لها في طهران، وذلك على أيام الشاه، وفي إطار تعديل مسار سياسة السودان الخارجية وتعزيز صلاته بالمعسكر الغربي، إثر الانقلاب الشيوعي فيه قبل ذلك بثلاث سنوات. وأبرز خطوة في هذا الاتجاه كانت إعادة السودان لعلاقاته الديبلوماسية مع الولايات المتحدة التي كانت مقطوعة منذ حرب 1967.
واكتسبت هذه العلاقة بعداً اقتصادياً، خاصة أن النفط الإيراني كان الوحيد الذي تستخدمه مصفاة بورتسودان. لكن بعد أزمة الطاقة التي أعقبت الحظر النفطي العربي في 1973، واهتمام الشركات بأسواقها الرئيسية التي لم يكن السودان من بينها، بدأت تحدث في البلاد أزمات وقود متلاحقة، الأمر الذي دفع الخرطوم الى السعي للحصول على قروض تخصصها لاستيراد الوقود.
وكانت طهران من أوائل الأبواب التي تمّ طرقها، حيث قدّمت مبلغ 60 مليون دولار، وهو القرض الذي لم يقم السودان بتسديده قط، كما أن فوائده تراكمت لتتجاوز أصله.

.. ثم مع الثورة الإيرانية

مع اندلاع الثورة الإيرانية في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كان نظام النميري قد دخل في سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية، ووجدت القوى المناوئة له، خاصة ذات الخلفية الإسلاموية، مثل الصادق المهدي وحزب الأمة والاخوان المسلمين، التنظيم الصاعد في سماء السياسة السودانية آنذاك، إلهاماً في تلك الثورة الشعبية. لكن النميري رأى في تحركات تلك القوى تهديداً مباشراً لحكمه، ودفعه هذا الموقف الى القيام بخطوة معاكسة، وهي مساندة العراق في حربه ضد إيران، وهي مساندة تجاوزت الجانب السياسي والديبلوماسي الى السماح للمتطوّعين السودانيين بالقتال الى جانب العراق، علماً بأن الخطاب الرسمي كان يقوم على معاداة البعث وفكره وحظر أي نشاط له في البلاد.
وبعد اطاحة النميري إثر ثورة شعبية في 1985، وقيام حكومة برلمانية منتخبة تولى رئاستها الصادق المهدي، عمل الأخير على ما أطلق عليه إعادة التوازن إلى علاقات السودان الخارجية، وذلك بالسعي لتقليل التماهي مع المعسكر الغربي وتقوية الجسور مع إيران، وهو ما توّج بزيارة قام بها المهدي لإيران في العام 1987 كانت إحدى ثمراتها موافقة الخرطوم على قيام طهران بفتح مركز ثقافي في البلاد، من بين مهامه نشر المطبوعات الإيرانية، والترتيب لزيارات إعلاميين سودانيين ورموز ثقافية لإيران، وتقديم منح أكاديمية للدراسة.
ثم جاء تولي الرئيس عمر البشير للسلطة اثر انقلاب عسكري في 1989 مسنوداً من قبل «الجبهة القومية الإسلامية» التي خرجت من عباءة تنظيم الإخوان المسلمين. وبعد خمسة أشهر من توليه السلطة، قام البشير بأول زيارة له لطهران ليدفع بالعلاقات بين البلدين الى مرحلة أعلى، خاصة والنظام الجديد يرى في حركة التمرد التي يقودها جون قرنق تهديداً لهوية البلاد الدينية والثقافية، وانها مدعومة من الغرب والكنائس، الأمر الذي يتطلب تحالفات مضادة تبدو طهران مؤهلة لها لجهة مواجهتها مع الغرب واستقلالية قرارها وتماثل النظامين في طبيعتهما.

نظرة استراتيجية

طهران بدورها نظرت الى العلاقات مع الخرطوم من منظور استراتيجي يشمل، اضافة إلى الدائرتين العربية والإسلامية، تلك الأفريقية، بسبب الموقع الجغرافي الاستراتيجي للسودان في القارة، خاصة أنه يحظى بعضوية مجموعة الكوميسا لشرق ووسط أفريقيا، ويتمتع بالتالي بإعفاء من الضرائب للسلع الواردة منه، وهو ما يشكل حافزاً يمكن لطهران الاستفادة منه. لكن ذلك ظل خياراً نظرياً لم يترجم فعلياً. واتخذت العلاقة منحى تصاعدياً وصل الى قمته بالزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني الى السودان في أواخر العام 1992، وهي الزيارة التي صحبه فيه وفد وزاري كبير واكتسبت بعداً عسكرياً واضحاً من خلال تمويل ايران شراء أسلحة صينية للسودان بمبلغ 300 مليون دولار، وتقديم الخبرة الإيرانية لمساعدة «كتائب الدفاع الشعبي»، التي تشكل ظهيراً عسكرياً للجيش.
ومن المفارقات أن أحد قادة الدفاع الشعبي وقتها، وهو وزير الخارجية الحالي علي كرتي، هو من دفع باتجاه إغلاق المركز الثقافي الإيراني، وذلك بسبب إمساكه بملف علاقات البلاد الخارجية ومعاناته من العزلة الديبلوماسية التي يعيشها السودان والبرود المتنامي مع الدول الخليجية التي تعيش فيها أكبر الجاليات السودانية في المهاجر، كما أن تلك البلدان تمثل أكبر مستثمر في السودان.
لكن علاقات البلدين في الجانب الاقتصادي لم تشهد تطوراً يُذكر. فلم يتحقق الوعد الإيراني في تسعينيات القرن الماضي بالمعاونة في تسريع إنتاج النفط من خلال مشروع تطوير حقل هجليج في جنوب غرب البلاد، ليبدأ إنتاج 25 ألف برميل يومياً بكلفة 196 مليون دولار، كما أن حجم التبادل التجاري بين البلدين بقي يتراوح في حدود 50 مليون دولار في المتوسط، وهو ما دعم حجة المناوئين، بقيادة وزارة الخارجية، بأن السودان لا يستفيد من العلاقة مع طهران، وان المظهر العسكري لتلك العلاقة في مجالات التدريب والصناعات الحربية وفتح الباب أمام السفن الحربية الإيرانية لزيارة ميناء بورتسودان من وقت لآخر (آخر زيارة كانت في أيار/ مايو الماضي) ينعكس سلباً على علاقات السودان الخليجية. وفي واحدة من الرسائل المعدّة بعناية، قامت الرياض العام الماضي بمنع طائرة البشير الذي كان متوجهاً الى طهران لحضور حفل تنصيب الرئيس حسن روحاني، من عبور الأجواء السعودية متعللة بعدم حصول الطائرة على التصديقات اللازمة لذلك.

البعد الداخلي

خطوة إغلاق المركز الثقافي لا يمكن النظر اليها عبر المنظور الخارجي فقط، وإنما هناك المكون المحلي المتمثل في حدوث تململ واضح من بعض المجموعات الدينية الصوفية والسلفية، حتى وصل الأمر الى دعوة السلطات الى منع زيارات كانت تعتزم بعض رموز التيار الشيعي السوداني القيام بها الى بعض الأقاليم، مثلما حدث في ولاية النيل الأبيض قبل شهور عدة، وهو ما دفع بعض السياسيين لاعتبار أن حكومة البشير التي تواجه العديد من الملفات الساخنة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لا تحتاج الى إضافة أزمة جديدة. وثمة تشكيك في قدرة خطوة الإغلاق هذه على محاصرة التيار الشيعي النامي في السودان، لكونه نجح في استقطاب بعض الفئات المستنيرة من صحافيين وأساتذة جامعيين وقضاة، ممن لهم القدرة على الحركة والتأثير، كما يوجد تخوّف بأن تتجه الحكومة الى حظر التشيع، الأمر الذي سيدخلها في مواجهة مع منظمات حقوق الإنسان وحرية الاعتقاد. ردّ الفعل الإيراني على القرار كان هادئاً، وأرجعه مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الى تجاذب بين بعض أركان الحكم في السودان، مؤكداً أن العلاقات بين البلدين لم تتأثر. ويفسّر ذلك من قبل بعض المحللين بالتوجه الجديد لدى طهران إلى التخفّف من بعض الأحمال، مثل علاقتها بالسودان، وذلك في إطار تركيزها على ملف مفاوضاتها مع الغرب.
لكن قرار الإغلاق ذاك لم يجد حتى الآن ردّ الفعل والترحيب المأمولين خليجياً على شكل تخفيف لإجراءات الحصار الاقتصادي مثلاً.
ويبدو أن العواصم الخليجية تنتظر نتائج الحراك السياسي الداخلي عبر مبادرة الحوار الوطني التي طرحها البشير مطلع هذا العام، ويبدو أكثر المتحمّسين لها الدكتور حسن الترابي الذي لا تكنّ له الدول الخليجية وداً، وتعتبره من رموز حركات الإسلام السياسي التي تُنازِلها في كل مكان.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...