لم يخف المسؤولون القطريون إحساسهم بخيبة الأمل عندما علموا ان بلادهم تتمتع بالقليل من الاحتياطيات النفطية والكثير من الاحتياطيات في مجال الغاز. كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، حين كانت الدولة الجديدة تتلمس طريقها في عالم يموج بالصراعات. وعلى غير الحال مع جيرانها من الدول الخليجية الأخرى التي حباها الله احتياطيات نفطية ضخمة، عملت على توظيفها لمقابلة بناء دولة حديثة والتعويض عن قلة السكان، فإن ذلك لم يكن متاحا لقطر، التي اعتبرت وقتها جغرافيا وكأنها امتداد للمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية.
كان النفط وقتها سيد الموقف. فالسوق كانت تعاني من شح في الإمدادات. ثم جاءت حرب أكتوبر العربية - الإسرائيلية في العام 1973 ليرتفع سعر النفط أربعة أضعاف. والأهم من هذا هو ما صحبه من ارتفاع في مكانة الدول المنتجة والمصدرة للنفط. ولم يكن لقطر نصيب كبير، وبالتالي لم تحصل على الوهج السياسي والديبلوماسي والعائد المالي اللذين تمتع بهما جيرانها في السعودية والكويت وحتى الإمارات.
يضاف الى هذا ان الغاز كان يحتل مرتبة متأخرة كمصدر للطاقة بسبب التعقيدات التي تحيط بسوقه وصناعته، اذ يتطلب استثمارات ضخمة وتواصلاً بين المنتج والمستهلك عبر خطوط أنابيب قائمة وتعاقدات طويلة الأمد، تصل الى 20 أو 25 عاما، وهيكلا سعريا ثابتا. فإقامة معمل لتسييل الغاز يكلف نحو ملياري دولار، كما ان كلفة بناء الناقلة التي تحمل الغاز هو 350 مليون دولار في المتوسط، والمرفق الذي يستقبل شحنات الغاز يحتاج الى نحو مليار دولار للتعامل مع مليار قدم مكعب من الغاز يوميا. ورغم هذا، كان سعر الغاز رخيصا مقارنة بالنفط. بل كان كل أمل منتجي الغاز ربط سعره بسعر النفط الخام.
تطور التقنية في صناعة الغاز
على ان النصف الثاني من عقد التسعينيات شهد تطورات رئيسية دفعت بقطر الى الصدارة، مستفيدة من حقيقة انها تملك ثالث احتياطي مؤكد من الغاز الطبيعي في العالم بعد كل من روسيا وإيران. وعلى رأس هذه التطورات أن زيادة عدد الدول الضالعة في تجارة الغاز أسهمت من ناحية في نمو حجم الاستثمارات، خاصة في ميدان تسييل الغاز، ومن ثم تحقيق اختراقات في الجانب التقني. فالغاز أصبح يُنتج أولاً ثم ينقّى وتُزال المياه والشوائب ومخلفات النفط منه، ثم يجري تبريده تحت درجة حرارة تصل الى 260 درجة تحت الصفر حتى يمكن تخزينه ونقله عبر تحميله على ناقلات خاصة. ويخزن في أماكن محمية ومعزولة، وبالتالي لم يعد محتاجا الى خطوط أنابيب كما كان عليه الأمر سابقا. وبعد وصوله الى وجهته، يعاد الغاز الى حالته الأولى ومن ثم يمكن ضخه للتوزيع في إطار شبكة خطوط الأنابيب العادية. وأسهم هذا التطور في تجاوز القيود التي كانت تكبل تجارة وصناعة الغاز وأعطاها مرونة، الأمر الذي خفض كلفة الاستثمارات المطلوبة، اذ تراجعت مثلاً كلفة بناء الناقلات بنحو 60 في المئة. وطال الامر معامل التسييل التي انخفضت كلفتها بنحو الثلث. ويعود ذلك بصورة رئيسية الى الجهود التقنية التي بذلها الصينيون والكوريون الجنوبيون في هذا المجال. صحب هذا التطور نمواً في المخاوف من أن إمدادات السوق العالمية من النفط الخام قد لا تكون كافية لمقابلة التصاعد المستمر في الطلب، خاصة مع البروز القوي للسوق الآسيوية ميدانا أكبر للاستهلاك، وهو ما يتطلب البحث عن مصادر جديدة وإضافية للطاقة. وساعد على بروز الغاز أيضا كمصدر مرغوب للطاقة انه يعتبر بيئيا أنظف من النفط الخام الذي يتحمل مسؤولية أكبر في الانبعاثات الغازية، ما يسهم في تلويث البيئة ويؤثر على عمليات التغير المناخي.
ونتيجة لهذه العوامل مجتمعة، فقد شهدت تجارة الغاز الطبيعي، خاصة ذلك المسال الذي يتمتع بقلة التكلفة، زيادة ملحوظة في حجمها. فقامت في العام 2002 نحو 12 دولة بشحن 113 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال، بمقابل أربعة ملايين طن تم شحنها في العام 1997. وتلاقت الدول الرئيسية في هذا الميدان على فكرة تأسيس منظمة تُعنى بالغاز على غرار منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك). وتصدرت روسيا وقطر هذه الجهود، التي تمثلت في عدة لقاءات ومؤتمرات لم تتبلور في شكل تنظيمي محدد حتى الآن.
بروز قيادة قطرية جديدة
صحبت التطورات النوعية في سوق الغاز تولي قيادة سياسية جديدة زمام الأمور في قطر العام 1995. وعمل الأمير حمد بن خليفة الذي انقلب على والده، ورئيس وزرائه حمد بن جاسم، بنشاط على
الاستفادة من هذه التطورات، واستغلال ثروة البلاد في ميداني النفط والغاز لمساندة سياسة خارجية مستقلة، ومتميزة، تسهم في إعادة تشكيل صورة قطر على المسرح الدولي والإقليمي، و«جعلها وسيطا بين الشرق والغرب» (بحسب دراسة أعدت في «مدرسة لندن للاقتصاد» LSE) في تموز/يوليو 2012.
يبلغ الاحتياطي المؤكد لقطر من النفط حوالي 25,4 مليار برميل، وهي تنتج نحو 1,2 مليون برميل يوميا بصورة رئيسية من حقلي «الدخان»، وهو الأقدم، و«الشاهين»، الأحدث، الذي يوفر ثلث الإنتاج القطري النفطي. حجم النفط الخام المنتج يوميا يبلغ في المتوسط 830 ألف برميل في اليوم، والبقية سوائل، ما يجعل الدوحة تحتل المركز السادس عشر في قائمة الدول المصدرة للنفط على نطاق العالم، والمرتبة السابعة على مستوى أوبك. هذا الى جانب طاقة تكريرية في حدود 338,700 برميل يوميا من مصفاتي «أم سعيد» و«رأس لفان».
على ان مكانة قطر الحقيقية تتمثل في إنتاجها للغاز، اذ تتمتع باحتياطيات مؤكدة تبلغ 896 تريليون قدم مكعب، تمثل نحو 14 في المئة من الاحتياطي العالمي. وهذا الاحتياطي هو في الحقل الشمالي المغمور تحت المياه، وهو حقل ضخم تعادل مساحته بالتقريب مساحة كل قطر على اليابسة (11.437 كيلومترا مربعا)، كما انه يعتبر امتدادا لحقل «بارس» الجنوبي الإيراني.
اتجهت قطر الى تصدير الغاز المسال منذ العام 1997، وسجلت صادراتها نمواً ملحوظاً منذ ذلك الوقت، لتصل الى 1800 مليار قدم مكعب في العام 2010، الأمر الذي جعلها تسيطر على 20 في المئة من تجارة الغاز العالمية، وتصبح أول مصدر عالمي للغاز المسال. وهي تمكنت من ذلك بسبب إنفاقها الكبير على إقامة بنية أساسية ضخمة ومكتملة لصناعة الغاز المسال تتمثل في نحو 13 مرفقا يطلق عليها «قطارات مؤهلة»، وهي مستعدة لتنقية وتسييل الغاز بما فيها قطار بطاقة 7.8 ملايين طن متري في العام، يعتبر الأكبر في العالم.
وتعتبر السوق الآسيوية الميدان الأول لصادرات قطر من الغاز، اذ تستوعب أكثر من نصف تلك الصادرات، تليها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وكان التقدير ان السوق الأميركية ستكون مرشحة للنمو بسبب تصاعد الطلب المحلي على استهلاك الغاز من 22,5 تريليون قدم مكعب في العام 2002 الى 31,4 تريليون في العام 2025، في الوقت الذي لن يتجاوز فيه الإنتاج المحلي 24 تريليون قدم مكعب في ذلك العام. وسيتم التعويض عن الفرق الذي سيصل الى 7,2 تريليونات عن طريق الاستيراد.
انخفاض في حاجة السوق الأميركية
لكن الأعوام الثلاثة الأخيرة شهدت نمواً في الإنتاج الأميركي المحلي من الغاز بسبب التقنية التي جعلت من اليسير الوصول الى مكامن في الصخور واستخلاص النفط والغاز الطبيعي منها بصورة لم تكن متاحة من قبل. وسيفرض هذا الأمر على مصدري الغاز، وعلى رأسهم قطر، مراجعة خططهم وسياساتهم التسويقية المستقبلية، واضعين في الاعتبار ان احتياجات السوق الأميركية ستقل، ان لم تكتف ذاتيا، بل وإنْ لم تتجه الى التصدير. ووفقا لـ«إدارة معلومات الطاقة الأميركية»، فإن الإنتاج المحلي في الولايات المتحدة من غاز الصخر زاد بنسبة 70 في المئة، ووصل إلى تريليوني قدم مكعب. وقبل سنوات خمس، كانت الدول الخليجية بقيادة قطر توفر نحو 20 في المئة من احتياجات السوق الأميركية من الغاز، لكن تلك النسبة تراجعت الى 9 في المئة، وهي في طريقها الى المزيد من التراجع، خاصة أن حجم الاحتياطيات الأميركية زاد إلى 482 ترليون قدم مكعب، وهو ما يمكن أن يقابل احتياجيات الاستهلاك من الغاز لفترة خمس أو ست سنوات. كما أن التوقعات تشير إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن تصبح مصدّرة للغاز المسال في غضون ثلاث أو أربع سنوات. .
تضخم النظرة الى الذات، ومفارقات
تمتعت قطر لسنوات بعائدات ضخمة من مبيعات الغاز والنفط، الأمر الذي جعل دخل الفرد فيها الأعلى في العالم، اذ يصل الى 102,943 دولارا وفق أرقام صندوق النقد الدولي لعام 2012. وبسبب قلة السكان الذين يبلغ عددهم مليوناً وسبعمئة وخمسين الف نسمة (بحسب إحصاء 2012)، نحو 15 في المئة فقط منهم قطريون يتمتعون بخدمات مجانية في التعليم والصحة وقروض ميسرة للإسكان ودعم مالي.
وفرت هذه المداخيل ثروة ضخمة، اذ يقدر الناتج المحلي بنحو 170 مليار دولار، وهو تضاعف أكثر من أربع مرات في خمس سنوات. وعملت القيادة القطرية على استغلال هذا العائد المالي الضخم في مجالات عديدة من بينها الجهود المتصلة لإعادة إنتاج صورتها لاعبا رئيسيا على المسرح السياسي الدولي والإقليمي. فعدا الامكانات الهائلة التي تقف خلف تلفزيون «الجزيرة»، وعدا شراء عقارات في العالم، بل وفي قلب عواصم كباريس ولندن، وشراء فرق رياضية، وحصص كبرى في شركات عالمية، الخ... أتيح لقطر القيام بدور الوسيط في ملفات شائكة مثل لبنان والسودان (دارفور)، ولعب دور رأس الرمح في ليبيا، وهو الدور نفسه الذي تقوم به حاليا في سوريا. هذا الى جانب استضافة مباريات كأس العالم في 2022، وكذلك استضافة العديد من المؤتمرات العالمية الضخمة مثل مفاوضات منظمة التجارة العالمية، ومؤتمر التغيير المناخي... الذي وجد بعض المشاركين فيه مفارقة أن تستضيفه الدولة ذات السجل الأعلى في ما يتعلق بالانبعاث الحراري وغازات ثاني اوكسيد الكربون، نسبة لعدد السكان. اذ يقدر نصيب الفرد القطري بنحو 50 طنا منها، مقابل 17 طنا للفرد الأميركي و 1.4 طن للفرد الهندي و0.4 للأوغندي... لعل تلك هي أبسط مفارقات هذه الامارة!