إشكاليات المجتمع المـدنـــــــي العربي

يرى صالح السنوسي (*) أن البنية الاجتماعية والبنية الثقافية للمجتمعات العربية من أهم معوقات نشوء وتطور المجتمع المدني. فالتكوين العصبوي للدولة القطرية العربية - في معظم حالاتها يقف عائقا أمام قيام مجتمع مدني فاعل وقوي، حيث يحل مفهوم العصبة محل مفهوم المجتمع المدني، لأن العصبة ببناها التقليدية كالعشيرة والطائفة، لا يُبنى عليها مجتمع مدني يقوم على المبادرة ويتكئ على قطاعات واسعة من الفئات الاجتماعية
2012-10-03

منى علي علاّم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك

يرى صالح السنوسي (*) أن البنية الاجتماعية والبنية الثقافية للمجتمعات العربية من أهم معوقات نشوء وتطور المجتمع المدني. فالتكوين العصبوي للدولة القطرية العربية - في معظم حالاتها يقف عائقا أمام قيام مجتمع مدني فاعل وقوي، حيث يحل مفهوم العصبة محل مفهوم المجتمع المدني، لأن العصبة ببناها التقليدية كالعشيرة والطائفة، لا يُبنى عليها مجتمع مدني يقوم على المبادرة ويتكئ على قطاعات واسعة من الفئات الاجتماعية المختلفة المترابطة مصلحيا. فالفعل والمبادرة في الأطر العصبوية محدودان بحدود العصبة، كذلك فإن فكرتي التوازن والمساواة اللتين تقوم عليهما فكرة المجتمع المدني لا تتماشيان مع مفهوم القبيلة أو الطائفة المغلق. تلعب العصبة دورا معوقا وبديلا في آن واحد، في مواجهة المجتمع المدني، الذي تنتمي تنظيماته إلى المجتمع في كليته، وذلك من خلال قيامها بسد حاجة الفرد الى الانتماء إلى جماعة. غير أن هذا التكاتف والتآزر الذى يحصل بين أفراد العصبة يكون في الأغلب بمواجهة العصبة الأخرى، وليس بمواجهة تغوّل السلطة واستبداديتها.
ومن هنا يربط بعض الباحثين، كما يذكر الكاتب، بين طبيعة المجتمعات الخليجية على سبيل المثال، وعدم وجود مجتمع مدني فيها. فالسلالات العائلية والقبلية هي التي تتحكم في الفرد بحيث تصبح المشاركة السياسية لها علاقة بالانتماء القبلي أو الطائفي. كما أن السلطة، التي هي ثمرة هذه العصبيات، تشجع هذه الروابط وتجعلها أكثر سطوة من محاولات إنشاء منظمات مدنية، وذلك أن الدولة والسلطة جرى إنشاؤهما على قاعدة العصبة والولاء للقبيلة أو الطائفة قبل الوطن. فالعصبة في مفهومها الإثني أو الطائفي أو القبلي أو الجهوي، تمثل عائقا ليس من السهل تجاوزه نحو مفهوم المصلحة العامة ومن ثم الدولة والوطن.
هذا في ما يتعلق بالبنية الاجتماعية. أما بالنسبة للبنية الثقافية فهناك، وفق الكاتب، تيار واسع من ممثلي الفكر الإسلامي يرفضون مفهوم المجتمع المدني وما يحيل إليه من معان وتطبيقات. ويأتي هذا الرفض كنتيجة منطقية لموقف هؤلاء من مفاهيم أخرى كالعلمانية والعقلانية والديمقراطية وغيرها، التي أنجبتها ثقافة الحداثة الغربية. ولا يرى هؤلاء ضرورة لوجود المجتمع المدني بمفهومه الغربي في المجتمع الإسلامي، بل يرونه محاولة لنقل التناقضات التي شهدتها مجتمعات الغرب، المختلفة دينيا وثقافيا، إلى المجتمع الإسلامي. وهناك آراء أخرى لا ترى فرقا بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي الذى عرفته المجتمعات الإسلامية في حقب تاريخية سابقة. ولكن محاولة البحث عن علاقة أبوة بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي يمكن أن تواجه، برأي الكاتب، كثيرا من الانتقادات السياسية والتاريخية. فعلاقة هذه التنظيمات بالسلطة على سبيل المثال، لم تكن قائمة على أساس الموازاة بل على أساس التبعية، كما أن معظم تنظيمات المجتمع الأهلي تستند على البنى الاجتماعية التقليدية كالعائلة والقبيلة والطائفة، التي هي في الواقع مصدر العصبية السياسية في الدولة العربية. فهي التي تنتج السلطة والطبقة الحاكمة. فإذا ما قامت مؤسسات المجتمع المدني معتمدة على هذه البنى، فلن تكون لها استقلالية، ولا دور مواز للدولة.

بين عجز المجتمع واستبدادية السلطة

في الفصل الذى يحمل هذا العنوان، ذهب المؤلف إلى أن احتكار السلطة في المجتمعات العربية لكل ما هو سياسي واقتصادي، وتحكّمها في تشكيل بنى المجتمع بالكيفية التي تخدمها، جعل التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية والأحزاب السياسية لا تظهر إلا حسب مشيئة السلطة، وبالشروط والمواصفات التي تجعل منها مجرد ملحقات تابعة لمؤسسات السلطة السياسية. ويُرجع الكاتب السبب الجوهري في ذلك إلى فقدان روح الفعل الجماعي لدى أغلبية أفراد الجماعة العربية، وانعدام الاستعداد لقبول المخاطرة والتضحية، والاكتفاء بدور المتفرج. ولذا فإن النتيجة دائما هي نجاح السلطة في القضاء على محاولات مجموعات قليلة لتكوين منظمات مجتمع مدني مستقلة، إن لم تقبل بالانضواء تحت مظلتها كغيرها من المنظمات الصورية التي أنشأتها السلطة كرديف لمؤسساتها.
ولكن ألا يحتاج هذا الطرح من جانب الكاتب إلى إعادة نظر فى ظل المعطيات الجديدة التي فرضها حراك المجتمعات العربية؟ على الأقل بالنسبة للدول التي قامت شعوبها بثورات ضد الأنظمة المستبدة، ولم تعد تقتنع بدور المتفرج الذى ظلت تلعبه على مدار عقود.

إشكالية الغرب

يقول الكاتب إن انتقائية الغرب في دعمه لحركة المجتمع المدني العربي، حسب مصالحه الاستراتيجية في المنطقة، أدت إلى اتهام هذه المنظمات من جانب كثيرين بأنها مجرد أداة لتنفيذ أجندة الغرب في المنطقة. وعن التمويل الخارجي، يقول إنه فُرض على هذه المنظمات مقابل تمويلها تبني القضايا التي تعتبرها الأطراف المانحة أولويات، مثل قضايا الأقليات والدين والمرأة، والتركيز عليها في عملها وصوغ مطالباتها. وهو ما أثار شكوكا حول هذه المنظمات، خاصة مع استغلال السلطة الأمر لتشويه صورتها بتهمة العمالة والتبعية، إضافة إلى أنه أدى إلى ظواهر سلبية، منها ما يسميه البعض بـ«المراكز المصطنعة»، وهي التي تنشأ بمبادرة شخص بمقر ممول وعدد من الموظفين الذين أخرجهم التمويل من بؤس البطالة وأزمة سوق العمل، يعملون بصورة منفصلة تماما عن الصراع المجتمعي والمقاومة المدنية. كما أصبح الحصول على التمويل غاية في حد ذاته وليس وسيلة للدفاع عن مبادئ وقيم.

المجتمع المدني بعد الثورات:
أي مستقبل؟

نقف أمام واقع جديد بعد ثورات «الربيع العربي». وإذا كان المجتمع المدني، الذي يتجاوز جمعيات البر والإحسان إلى منظمات فاعلة سياسيا واجتماعيا وثقافيا، لا يمكن أن ينشأ، كما يؤكد الكاتب، في الفراغ والخواء السياسي، بل يجب أن يسبقه مناخ سياسي تعددي يولد عن حراك تتولاه أحزاب وتنظيمات سياسية قوية قادرة على مواجهة السلطة، فالسؤال هو: إلى أي مدى سوف يؤدي هذا الواقع الجديد إلى خلق بيئة سياسية مواتية لوجود مجتمع مدني عربي قوي، غير مخترق من قبل الغرب، ويعمل وفق أجندة وطنية وليس وفق الأولويات التي تمليها المصالح الغربية؟ وكيف يتحقق ذلك، بمعنى هل وقوع الثورات تلك وحده كفيل بتحقيقه؟

 (*) صالح السنوسي، أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة بنغازي، «إشكالية المجتمع المدني العربي، العصبة والسلطة والغرب». صدر مؤخرا عن مكتبة الأسرة في مصر.

مقالات من العالم العربي

انهيار التعليم العام في منطقتنا

تتصل مسألة التعليم بشكل مباشر بالوعي الجماعي والتعاون الاجتماعي في أي مجتمع، أي وباختصار بعملية َتشكّله. وهذه مقاربة أولى تسجِّل المعطيات الموضوعية لتراجع التعليم العام في منطقتنا بل وانهياره. فما...

للكاتب نفسه

قصّة "هَدِية" مع الميراث

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...

أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها

قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...