كانت حيرتي كبيرة وأنا أتصدى لواجب كتابة نصي الأسبوعي في "السفير العربي". ليس لأنه لا توجد مواضيع تستحق (أجمعها طيلة الأسبوع في ملف لأختار منها واحداً يوم الخميس) بل ربما لكثرتها: حرائق غابات الأمازون التي لُقّبت برئة الكرة الأرضية، وأعلن أنها مصدر 20 في المئة من الأوكسيجين الموجود عليها. اجتماع السبعة الكبار في "بياريتز" جنوب فرنسا، والاجتماع المناهض له الذي اعتاد المناضلون في كل القضايا تنظيمه. الاشتباك الإماراتي – السعودي في اليمن (اللهم لا شماتة! فمن يدفع الثمن هنا أيضاً هم اليمنيون التعساء) الذي يضيف تعقيداً غريباً وما زال غامضاً على المشهد. السيول التي تتكرر كل عام في المغرب في مثل هذا الوقت من العام، وتودي بحياة عدة أشخاص (ما الأمر؟؟ ألا يمكن التوقع، أو إصلاح اللازم؟).. وهذا يشبه نفق "شكا" على ما يسمى أوتوستراد بيروت – طرابلس الذي تناولته في تعليق على صفحتي في فيسبوك، واستفزني فيه أكثر من خطورته القاتلة قبول الناس (المواطنين) به، وعدم احتجاجهم عليه، وحين تحفر يقولون لك "كل البلد خربان" لتبرير كسلهم واعتيادهم على السوء.. والشاب الفلسطيني الصغير الذي رُفض دخوله إلى الولايات المتحدة على الرغم من حصوله على منحة من جامعة هارفرد، لأن على صفحته في فيسبوك تعليقات لأصدقائه سلبية حيال أمريكا. استنكار الكثيرين لفكرة أن يُختار رجل أسود ليصبح جيمس بوند الجديد (مع أنه رائع الجمال، ومفتول العضلات)، ولكن لا! تصوروا أن يغازل شقراء مثلاً، بينما العكس يجوز، وهذه عنصرية مربعة. تعليقات عنصرية على وسائل التواصل الاجتماعي في فرنسا عن كثرة سائقي سيارات الأجرة في البلد من المسلمين، وممارساتهم (كاذبة طبعاً ومهووسة) وردود عليها تسْحقها بالسخرية، وهو سلاح سياسي بامتياز.. حتى أني وضعت جملاً ومقاطعَ من قراءاتي المختلفة غالباً ما أدونها جانباً، وقلتُ في نفسي سأترجمها وأنشرها بدون وجود رابط بينها، كأفكار جميلة وقوية.
هذه وغيرها الكثير. وكل واحدة منها تستدعي عندي استطرادات بعضها شخصي. خذوا مثلاً نفق شكا المعتم (ظلام دامس من النوع الجهنمي، بلا مبالغة، ويمتد على طول كيلومترين على الأقل، منحنيين، فلا ترى أول النفق ولا آخره!!). والمستفز أنها مشكلة بسيطة للغاية تحل ببضعة لمبات نيون، ولو كان السبب أن الكهرباء الرسمية تنقطع في هذه المنطقة فممكن تزويدها ببطاريات شاحنة ومولِّدة للإضاءة يا قوم، ورجل عاطل عن العمل يجلس على كرسي هناك، ويتقاضى 300 ألف بالشهر مقابل مهمة تشغيلها اليدوي. تذكرت أمي وهي سيدة عراقية كانت من أوائل الحقوقيات في المنطقة، ومن أوائل المناضلات، نالت شهادتها في الحقوق من جامعة بغداد عام 1943، وسُجنت كشيوعية في العام 1949! وعاشت في طرابلس بعد ذلك بحكم الزواج والظروف السياسية في بلدها، فساهمت بتأسيس أول ثانوية للبنات في المدينة، ولاحقتهن بلا كلل ليكْملن الدراسة، ويأخذن حياتهن ومصائرهن على محمل الجد، كما لو كنّ بناتها. أمضت حياتها تحرّض الناس الذين كانوا - لا بدّ - يجدون أنها تبالغ قليلاً أو كثيراً، (ولولا الاحترام الهائل الذي كنّه أبناء المدينة " للست فكتوريا" لكانوا نعتوها حتماً بالجنون): تذهب لبيوت الفتيات الفقيرات اللواتي ينوي أهلن تزويجهن في سن الرابعة عشر، وتحاول إقناعهم وتغيير قرارهم، تقف أمام حفرة وسط شارع رئيسي مضى عليها أشهر، وتسأل التجار والمارة والسائقين لماذا يفضّلون الالتفاف حولها بدلاً من فرض إصلاحها. وفي 1991 - وكانت قد تقدمت في السن من دون أن تشعر بذلك - حملت عصا، وراحت تحاول تمزيق ملصقات إعلانات صادف أنها تحمل اسم قائد الجيوش الأمريكية المعتدية على العراق: شوارزكوف! قالوا لها هذه ماركة شامبو فأجابتهم أنها تعرف ذلك، ولكن الملصقات تستحضر في كل مكان اسم الجنرال الأمريكي، وهذا معيب... تذكرتُ كذلك كيف أني أضربتُ بدل طلابي في الجامعة في أول عهدي بالتدريس، لأني وصلتُ إلى قاعة صف هائلة الحجم، تقع في ما كان ثكنة عسكرية فرنسية، فوجدت 300 طالب وطالبة جالسين في العتمة، لأن سبعاً من اللمبات الثمان كانت غير صالحة، ويرتجفون من البرد لأن زجاج القاعة مكسور. وكنا في 1985 أي في قلب الحرب الأهلية اللبنانية. سألتهم رأيهم فاستغربوا السؤال. اقترحتُ عليهم أن نذهب إلى الإدارة لسؤالها، فاستغربوا أكثر. ذهبتُ إلى الإدارة وحدي، وسألتُ، فقالوا لا اعتمادات. اقترحتُ أن يجمع الأساتذة ثمن اللمبات والزجاج (كانت القاعة للسنة الأولى في السوسيولوجيا، وهي الأكبر) فاستغربوا الاقتراح. طلبتُ أن أقوم بذلك وحدي، وعلى نفقتي الخاصة، فقالوا غير قانوني وممنوع. عدتُ إلى الصف بعد أيام من التفاوض مع الإدارة ومن تحريض الطلاب، واضربتُ أنا عوضاً عنهم: أجلس قبالتهم طوال ساعتين يومياً بلا تدريس، ولكني أمنعهم من الغياب أو من الثرثرة.. إلى أن أصلحتْ الإدارة بقدرة قادر ما يجب إصلاحه (بسرعة، للأمانة).
.. والطالب الفلسطيني ذو السبعة عشر عاماً يقسم إيمانات مغلظة أمام الأمن والجمارك الأمريكية في المطار أنه ليس كاتب التعليقات، وأنه غير مسئول عنها.. بينما الأمر أنها آراء، مجرد آراء، وليست قنابل، وأنّ القانون الأمريكي الذي يطلب من الوافدين تسليم كل مفاتيح مرور هواتفهم وحواسيبهم وأسمائهم على وسائل التواصل الاجتماعي.. هذا القانون فاشي، أين منه قصة أورويل "1948" أو ممارسات النازيين، وينبغي الادعاء عليه طالما هناك محاكم دولية مرجعية، وهي سيئة وبطيئة ولكنها موجودة، وليس الاستنكار بالاستعطاف.
وأما الرئيس الفرنسي ماكرون الذي يحب الاستعراض، فقد دعا محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني إلى "بياريتز" كخبطة إعلامية.. ثم لا شيء! هذا إن لم نتناول سائر بنود جدول أعمال هذه القمة البائخة، والتي لا جدوى منها.
وأما بولسونارو رئيس البرازيل، فبعدما ألمح إلى أن مناهضيه هم من أشعل حرائق الأمازون لإحراجه، بينما هو متهم بالفعل العمْد للاستيلاء على الأراضي والمناجم، وبعدما قال أن هناك حرائق كثيرة في العالم فلماذا هو، في تغابٍ مفضوح، وبعدما رفض المساعدة الدولية لأنها تنتقص من "سيادة" بلده، عاد فقبلها حين صارت نقوداً بشرط أن تكون له سلطة إدارتها، والإشراف عليها. أي أن الرجل لص صريح، وللقصة "يتبع".
صراع أمريكا وإيران يتهدد المنطقة والعالم
27-06-2019
وأما السعودية وامبرطورية الإمارات العظمى فقصتهم ممجوجة. شاب أرعن معتاد على ألعاب "الأتاري"، تورّط في حرب خاسرة، ولا يعرف كيف يخرج منها، و"أخ" كبير له أو راعٍ (يسمونه mentor) خشي من أن تعصف الحرب لو وقعت بميناء "جبل علي" وبناطحات السحاب الزجاجية، فراح يرتكب بدهاء (مكشوف) ما هو أسوأ من الاعتراف بالفشل: التخريب على الجميع. وعلى الرغم من كل ذلك، فهناك من يعتّد بهذين!
ليتني ترجمتُ مقاطع من كتابات ومقالات تعجبني. يا لمتعة قراءتها: الممثلة البريطانية الشهيرة إيما طومسون تحكي عن التزامها النضالي وعن نسويتها، الكاتبة الفرنسية - الكندية نانسي هوستون تحكي عن بشاعة متقابلة هي ديكورات القصور الجمهورية الفرنسية المذهبة التي تُستقبل فيها أحياناً تكريماً ككاتبة كبيرة نالت جوائزاً، وبمقابلها بؤس السجون التي اعتادت أن تقوم بزيارات لها، الروائية ديان سكوت تتحدث عن وظيفة الآثار والخرائب في تشكيل الوجدان، بمناسبة حريق نوتردام في باريس، والعملاقة الراحلة منذ أيام، توني موريسون، تحلل وظيفة اختراع "الآخر" والكراهية له.. تنبهتُ الآن إلى أنهن كلهن نساء. لا بأس: تمييز إيجابي يوازن قليلاً الإجحاف التاريخي والسعي للطمس. ولكني أقرأ لرجال أيضاً.. حين يكون النص ذكياً!