حين انتشر خبر الخلافات العنيفة التي انفجرت في مجلس بلدية طرابلس، ثاني مدن لبنان، خُيِّل لي أنه "أخيراً!"، أي أن تلك الصراعات قد تكون صحوة الضمير في المؤسسة الرسمية والسلطوية المعرَّفة في العالم كله بأنها الأكثر التصاقاً بأوضاع الناس اليومية، وهي في طرابلس، وبكلمة واحدة، مزرية.
ولكن لا!
الجماعة يختصمون على أشياء مبهَمة. قد يفهمها الطرابلسيون، واللبنانيون أستطراداً، بمعنى نسبتها الى حرتقات الزواريب والى "فن" البيع والشراء في الولاءات (التي يقال لها "سياسية" ولكنها استزلامية، او بلغة علمية أكثر: "زبائنية") وفي سواها. ولكن كل محاولة لترجمتها الى من هم خارج هذه الدائرة الضيقة تفشل تماماً. وهو - هذا الاختبار، أي أن تكون قابلة للادراك ومطروحة للإهتمام من قبل غير أصحابها – مقياس اهميتها وفائدتها للناس. هذه قاعدة عامة، تجعل الفلسفة والادب والنظريات السياسية والسوسيولوجية والتجارب كلها إما تافهة تولد وتموت كثرثرة، أو تنير طريق من يطلع عليها. هذا ما يجعل كتابات واقوال ومواقف إيرما ساندوفال، مثلاً، الباحثة ووزيرة الخدمة العامة في المكسيك بخصوص بنية الفساد وطبيعته في بلادها، ذات معنى وأهمية لدى كل من يتعرف عليها، هنا في لبنان، وفي مصر والمغرب والعراق.. وكل أصقاع الأرض، مع اننا نكاد لا نعرف شيئاً عن المكسيك، ومع اننا نبعد عن هذه البلاد 12388 كيلومتراً مُقاسة بما يقال له "خط نار"، أي خط مستقيم مباشر (وبالفرنسية vol d’oiseau أو "رحلة الطير"، وهو تعبير أجمل وأقل "حربجية".. ما علينا!).
دهاليز خلافات الـ24 عضواً في بلدية طرابلس لا علاقة لها باحوال المدينة المنكوبة، فهي ليست صراعاً على برامج أو مشاريع ولا على تصورات حول كيفية تحسين أوضاع السكان، حتى في أبسط مستوياتها: النفابات والاوساخ التي تنتشر في كل الشوارع، ومعها فوضى السير والبسطات والضجيج المنبعث من مكبرات الصوت، ما حوّل ساحة التل التاريخية الى ما يسميه أهل المدينة "قندهار"، ليس لأنها محتلة من سلفيين مثلاً، بل لأنها اقرب الى مشاهد رأووها في التلفاز واضافوا اليها من مخيلتهم، عن كيف تكون الساحات والشوارع في أسوأ إحتمال مديني ممكن.
طرابلس منكوبة فعلاً وبلا أدنى مبالغة، يعيش أكثر من نصف سكانها عند خط الفقر أو دونه، يتسرب نصف أطفالها ممن هم دون العاشرة من المدارس أو لا يدخلونها أصلاً (أبحاث ميدانية لمنظمات الأمم المتحدة، وهي تقول فيها أنها "أسوأ المدن للعيش على ساحل المتوسط"). يخيل إليك أن شبانها طاعنون في السن من فرط ترهل قسمات وجوههم واكتافهم وانطفاء بريق عيونهم.. فنصفهم في البطالة التامة وبلا أدنى أفق، ونصف المتبقي يمارس أعمالاً ترميقية حين يتيسر له ذلك. هنا يُقفل التجار أبواب محلاتهم واحداً بعد الآخر، لإنقطاع الرزق، أو يستخدمونها كمكان كئيب لقتل الوقت، بلقاء الاصدقاء داخلها وشرب القهوة ولعب الطاولة، بينما يتركون الأغبرة تتكدس على بضاعتها الكاسدة. هنا تختلط مياه الشرب بمياه المجارير، وهذه كلها تصب في الشاطئ الجميل حيث يتنزه الناس ويسبحون.. وقد أصابني الارتباك وانا أحرر نصاً يستهول أحوال شاطئ غزة: قطاع غزة محاصر من اسرائيل ومصر وممنوع عليه إدخال أي معدات، وهو سجن مفتوح على السماء منذ سنوات طويلة، ويمتلك أعلى كثافة سكانية في العالم، فمساحته - 360 كيلومترا مربعاُ - يعيش عليها حوالي مليوني نسمة إلا قليلاً بمتوسط نسبة كثافة تصل الى 26 ألف انسان في الكيلومتر المربع الواحد، وهي في مخيمات القطاع ترتفع الى 55 ألف إنسان.. وقد شنت إسرائيل على قطاع غزة حروب مريعة متتالية سقط فيها الآف الشهداء، وعشرات آلاف الجرحى والمعاقين نتيجة الاصابات، واستخدمت فيها أسلحة ثقيلة ومنها الفوسفور الأبيض الحارق.. مما قد "يشرح" أو "يبرر" بؤس حالها ذاك، بينما حال المدينة الثانية من "سويسرا الشرق"، البلد "المتفوق شعبه جينياً على سواه" بحسب وزير خارجيته، تشبه غزة تماماً أو هي أسوأ.
هنا، في "الفيحاء" – وهو لقب طربلس المعروف عبر التاريخ لأنها كانت تعبق بروائح زهر الليمون قبل ان تلفها روائح المجارير – وضعت في إحدى المرات منظمة دولية معنية بالصحة منشوراً لصقا على مداخل البنايات يقول أنه بعد فحص عينات من الماء في حنفيات المنازل، في الاحياء الشعبية كما في الاحياء الفخمة، تبين لها أنها "غير صالحة للاستخدام البشري". ولما لم يأبه أحد، بمن فيهم السكان أنفسهم، فقد يأست المنظمة ولم تعد الى المدينة.
مدينة طرابلس: من يقوى على الحلم؟
07-05-2020
لم تتجاوز نسبة المقترعين في الانتخابات النيابية الفرعية في طرابلس في شهر نيسان/ابريل الفائت 11 في المئة ممن يحق لهم التصويت. لا يشارك الناس في أي شيء، وهو استنكاف يؤشر الى اليأس العميق الذي استقر في النفوس، والذي بات التحريض المذهبي نفسه ("حرب الغلبة" بين السنة والشيعة) الذي شاع لفترة ونال شعبية، أو التحريض على "السوريين الذين يأخذون أعمال ابنائنا"، عاجزان عن زحزحته. يقولون لك حين تسأل أو تحاول المفاضلة بين الشخصيات التي تتقدم لشغل المناصب العامة: "كلهم حرامية". وينتهي النقاش عند هذا الحد.
.. ولم يكن ينقض لتأكيد هذا اليأس المكين إلا مسخرة الخلافات البلدية هذه.
ما الحل؟ لأنه لا بد من حل. فطرابلس هي كما مريض مهمل تماماً، وصل الى أقصى درجات الحرارة والألم وتوشك كل وظائفه الحية على التعطل. ما الحل؟