تحول التسلل الاسرائيلي الى قطاع غزة يوم الأحد الماضي الى مسخرة. صحيح أن قيادياً من حماس – نور بركة – إغتيل خلال هذه العملية، وصحيح أيضاً أن الجبروت الاسرائيلي قادر على إخراج الطائرات لتقصف غزة بلا حساب، وتوقع ضحايا لا تلتفت تل ابيب الى عدها، ولا العالم. لكن غاية هذه العملية لا تتلخص باغتيال ذلك القيادي، بل تتكرر المؤشرات الى وجود أهداف اخرى لم يتمكن المتسللون من تحقيقها، حيث اضطروا الى الانسحاب السريع قبل إتمام مهمتهم، وهو فشل لها. وأعقب ذلك انفجار للخلاف داخل "الكابينت" الاسرائيلي واستقالة ليبرمان، وزير الحرب، من الحكومة.. مزايدة بالتأكيد على نتنياهو حيث اتهمه بمهادنة الفلسطينيين (!)، ولكنها علامة على الارتباك الممكن إثارته، والأهم، على حدود الفعل الاسرائيلي.
لا يوجد في العالم وضع أصعب مما تعيشه غزة. محاصرة بالكامل منذ 2007، تعرضت لحروب عدوانية إسرائيلية يقول عنها "المتحضرون" انها كانت "رداً غير متوازن" على بضعة صواريخ كاتيوشا ترسل من الطرف الفلسطيني حين يضيق ذرعاً بما يقع عليه. من يمكنه نسيان 2009 و2014 إن لم نذكر إلا هذه؟ لكانت الجبال تزلزلت! وغزة فوق ذلك تعاني من الحصار المصري عليها، وبالاخص في السنوات الاخيرة منذ تسلّم الجنرال السيسي السلطة وتَفاهم على ذلك مع نتنياهو الذي يلتقيه كلما سنحت له الفرصة. وغزة جائعة منذ زمن طويل، وبلا ماء ولا كهرباء ولا أدوية منذ زمن طويل، ومستشفياتها ينقصها كل شيء (كما عاد فكرر منذ يومين، جيمي ماكغولدريك، منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، محذراً من كارثة مهولة فيما لو استمر القصف الاسرائيلي على القطاع).
وعلى الرغم من هذه الشروط التي تحيا غزة في ظلها، فهي تفور حيوية وعناداً وإبداعاً. ليس لأن أهلها ليسوا كسائر البشر، أو أنهم "مريخيون"، بل ربما لأنه لم يعد لديها ما تخسره، او لأنه لم يُترك لها خيار آخر غير المقاومة.. فقد قرر الناس فيها – على سبيل المثال – اطلاق مسيرات العودة الكبرى التي أفسدت على إسرائيل احتفالاتها بعيدها السبعين (وهو ما قاله قادتها بغيظ)، وافسدت على ترامب احتفاله بنقل السفارة الاميركية الى القدس. وهي طورت تكتيكات واساليب في التظاهر وترتيبات تنظيمية مذهلة ومتصاعدة منذ ما يقرب الآن من تسعة أشهر وارتضت دفع أثمان هائلة، فأحبطت تماماً المنطق الاسرائيلي الذي افترض أن إجرامه سيستنزف ويُرهب هؤلاء الفتية والفتيات ويحبطهم.. وقد فرضت صور تلك المسيرات نفسها في واجهة وسائل الاعلام العالمية كلها، محاطة بدرجة من التعاطف معها غير مسبوقة على هذا الصعيد. وهي ردعت إسرائيل عن الإقدام على جريمة كبرى في غزة، تشتهيها بقوة. وبهذا المعنى فهي - على الرغم من عدم التوازن في المعطيات المتعلقة بالقوة بين "الطرفين" وتلك المتعلقة بالمنطق الذي يسود في العالم اليوم - حققت التوازن مع الجبروت الاسرائيلي المنفلت من كل عقال.
جرائم إسرائيل في غزّة: التجارة الرابحة
19-04-2018
وفي كل هذا جواب عملي ملموس يسد أفواه من يُنظّرون لضرورة الاستسلام ولعبثية أي شكل من المقاومة (على اساس انها "موضة قديمة" بل ومضجرة، أو أنه لا فائدة منها). سيتجاهل هؤلاء السادة هذه القراءة للواقع القائم، وسيقولون مجدداً "ولكن الثمن غير متوازن". وهذا صحيح. وإنما منذ متى كان هناك توازن على هذا الصعيد؟ ولو اتُّبع هذا المنطق لما قاوم أحد معتديه، من الجزائر الى فيتنام الى كل الامثلة في التاريخ والجغرافيا. هذه طريقة في الحساب تصلح للمترَفين، وهي جزء من الدروس التي تُلقّن في كليات العلوم السياسية فتخرِّج "خبراء" جهلة. وأما الواقع فيقول غير ذلك: الصراع هو الحياة، وهو قانونها. فطالما هو قائم فهناك أملٌ، ومن دونه يسود الموات.