السودان: حكومة الثلاثة آلاف ساعة

أس أزمات السودان ينبع من جذر سياسي، ويعاني جهاز الدولة من الضعف بسبب سياسات إحلال "أهل الثقة"، ومتاعب الحصار الذي عانت منه البلاد، ولهذا ففرص الحكومة الجديدة في إحداث إختراق ملموس تبدو شبه منعدمة على الرغم من الميزات الشخصية لرئيسها.
2018-10-07

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
أبو شريعة أحمد - السودان

عقب صلاة الظهر في مباني مجلس الوزراء في السودان مطلع الشهر الماضي، فوجيء الحضور بوقوف رئيس الوزراء الجديد معتز موسى خطيبا أمامهم، متحدثاً عن ملامح برنامجه لتنفيذ إصلاح هيكلي شامل، وأن فترة تكليفه تمتد الى 400 يوماً أو ثلاثة آلاف ساعة، أي حتى الانتخابات الرئاسية المقررة في العام 2020. هذه الحادثة حملت معها رسالتين: المنبر الذي أستخدمه رئيس الوزراء الجديد مؤشر على مرجعيته الاسلاموية التي ستكون منطلقه في التعامل، كما ان التحديد الزمني بعدد الساعات لفترة التكليف تشير الى إهتمام بالتفاصيل، الأمر الذي يفترض أن يتبعه ترتيب للأولويات وتوفير الارادة السياسية اللازمة لأحداث الاختراق المنشود في مسلسل الأزمات الاقتصادية التي كادت تأخذ بعنق النظام.

معتز موسى الذي درس الاقتصاد في جامعة الخرطوم، تخرج في العام 1989، أي في العام نفسه الذي استولى فيه العميد (وقتها) عمر البشير على السلطة إثر إنقلاب عسكري إتضح فيما بعد ان وراءه "الجبهة الاسلامية القومية"، ثم تحول الى الدبلوماسية ملتحقاً بوزارة الخارجية حيث ابتعث قنصلاً الى المانيا التي قضى فيها أربع سنوات عمل فيها على دراسة اللغة الالمانية، كما حاز على ماجستير في العلوم السياسية. وبعد عودته التحق بوحدة تنفيذ السدود حيث تولى مهمة التفاوض مع الصناديق العربية التي مثلت مصدر التمويل الرئيس لانشاء سد مروى الذي ظل على قائمة المشروعات القومية منذ استقلال السودان. وعندما قرر البشير في العام 2013 تجديد الدماء بإخراج بعض الوجوه التي ظلت في دهاليز الحكم طويلاً وإفساح المجال أمام الشباب، جاء إختيار الرجل وزيراً للكهرباء والموارد المائية. وينسب اليه إنجاز إتفاق إعلان المبادئ الثلاثي بين السودان ومصر وأثيوبيا بخصوص سد النهضة الاثيوبي الذي تتحفظ عليه مصر. ويعتبر إعلان المبادئ هذا الموقع في آذار / مارس 2015 أول وثيقة تتعلق بالمياه توقع عليها الدول الثلاث مجتمعة.

معركة داخلية

قبل بضعة أسابيع من تسميته رئيساً للوزراء، قرر "المؤتمر الوطني" وهو الحزب الرئيسي في الحكومة وينتمي اليه معتز موسى، أن يكلفه الاشراف على القطاع الاقتصادي في الحزب بعد تزايد الانتقاد لآداء الحكومة في هذا الجانب، وتصاعد الاصوات بضرورة إحداث تغيير في وزراء ذلك القطاع. فبدأت بورصة التوقعات في ترشيحه وزيرا للمالية، لكن البشير فاجأ الجميع بمن فيهم قيادات حزبه بتسميته رئيسا للوزراء. ومصدر المفاجأة ان الرجل حل بذلك محل رئيس الوزراء السابق بكري حسن صالح، الذي أمضى في منصبه 16 شهراُ فقط وهو الوحيد الذي بقي الى جانب البشير من مجلس قيادة الانقلاب، كما شغل و لا يزال منصب النائب الاول لرئيس الجمهورية. البشير فيما يبدو شعر أن إستمرار تدهور الوضع الاقتصادي يمثل أكبر تهديد لحكمه، كما أن تعيين شخص شاب نسبياً في هذا المنصب المهم يمكن أن يرسل رسالة ايجابية عن امكانيات التغيير، خاصة وقد تم الاتصال بأحد الخبراء السودانيين في الامم المتحدة لتولي حقيبة المالية - وهو ليس محسوبا على الاسلاميين - لكن الرجل أعتذر، الأمر الذي دفع بمعتز موسى الى تولي مسؤولية وزارة المالية بنفسه، وهي خطوة يمكن أن تتيح الفرصة لإحداث تغيير إذا تمكن من تأكيد ولاية الوزارة على المال العام بعد أن توصلت العديد من الادارات الحكومية الى الاستقلال بايراداتها عن الوزارة المركزية، الامر الذي أضعف من قدرات الدولة المالية وفتح نوافذ للفساد.

على أن هذه لن تكون معركة سهلة خاصة وهناك مراكز قوى لن تتخلى بسهولة عن مكتسباتها هذه. وهي معركة بدأت مبكرا بالحملة التي أطلقت لمواجهة الفساد وما عرف بمواجهة القطط السمان من الذين استغلوا مواقعهم للأثراء. ووفقا لبعض التقارير الصحافية فأن السلطات تحقق مع مؤسسات مختلفة بتهم فساد أو مخالفات مالية في مبالغ يصل اجماليها الى 30 مليار جنيه سوداني (تقدر تقريبا بمبلغ يتراوح بين مليار الى ملياري دولار بسبب تعدد أسعار الصرف وتغيرها عبر السنين).

يبقى أن التحدي الرئيسي الذي سيواجه رئيس الوزراء الجديد وحكومته يتمثل في كيفية إنجاح الموسم الزراعي الحالي، خاصة والبلاد قد شهدت موسم أمطار وفيضانات لم تشهد مثله منذ أكثر من نصف قرن، وهو ما أدى الى زراعة مساحات شاسعة من البلاد وصلت الى 54.4 مليون فدان معظمها في أراضي الزراعة المطرية، علماً ان المساحة التأشيرية الأساسية كان مقدراً لها أن تكون في حدود 41 مليون فدان فقط. وبسبب هذا فانه تم انجاز المرحلة الاولى من خطة زيادة الانتاج لسد العجز في الميزان التجاري عبر الزيادة الافقية في الزراعة بدلا من التوسع الرأسي الذي كان مقرراً، إلا أن السؤال يتعلق بكيفية توفير التمويل لإستكمال العمليات الزراعية المختلفة، خاصة وهناك مشكلة سيولة، وكذلك توفير العمالة اللازمة لعمليات الحصاد، وفتح الاسواق الخارجية وإعلان السياسات الخاصة بتركيز الاسعار وتحفيز المنتجين للإستمرار بالعمل في الوقت المناسب.

مشكلة أعمق

الإختراق المنشود والمأمول حدوثه سيعتمد الى حد كبير على قدرة جهاز الدولة على الحركة سواء في إبتدار السياسات في الوقت الملائم أو في متابعة تنفيذها. لكن جهاز الدولة يعاني من ضعف مريع بسبب سياسات التمكين التي ركزت على إحلال "أهل الثقة" ومتاعب الحصار والانغلاق التي عانت منها البلاد وأسهمت في تقليل فرض التدريب والانفتاح على التجارب الخارجية. ولهذا يرى كثير من المعارضين ان فرص الحكومة الجديدة في إحداث إختراق ملموس تبدو شبه منعدمة على الرغم من الميزات الشخصية لرئيسها. فهناك ضيق الوقت، وكون معظم الطاقم الوزاري مفروض عليه، والكثير من الوجوه الوزارية أعيد تدويرها، وأهم من ذلك ان أس أزمات السودان تنبع من جذر سياسي، وهو ما يتطلب حل الإشكال السياسي بإحلال السلام في مناطق دارفور والنيل الازرق وجنوب كردفان، وتطبيع العلاقات مع العالم الخارجي من خلال ازالة اسم السودان من القائمة الامريكية الخاصة بالدول الراعية للإرهاب، مما يمكن أن يؤهل البلاد لتلقي عون خارجي، وأعفاء الديون التي تقدر بثلاثة مليار دولار وهو ما سيسهم في تحسين الوضع الاقتصادي.

لن تكون المعركة ضد الفساد سهلة فهناك مراكز قوى لن تتخلى بسهولة عن مكتسباتها. وهي بدأت بالحملة التي أطلقت لمواجهة "القطط السمان" من الذين استغلوا مواقعهم للأثراء. وتحقق السلطات مع مؤسسات مختلفة بتهم فساد أو مخالفات مالية في مبالغ تتراوح بين مليار وملياري دولار.

التحدي الرئيسي الذي سيواجه الحكومة الجديدة يتمثل في كيفية إنجاح الموسم الزراعي الحالي، خاصة والبلاد قد شهدت موسم أمطار وفيضانات لم تشهد مثله منذ أكثر من نصف قرن، وهو ما أدى الى زراعة مساحات شاسعة من البلاد وصلت الى 54.4 مليون فدان معظمها في أراضي الزراعة المطرية.

على ان المشكلة تبدو أعمق من ذلك. ففي اليوم الذي أعلن فيه البشير تسمية معتز موسى رئيسا للوزراء وتقليص الحكومة، أصدرت مجموعة المعارضة الرئيسية المنضوية تحت لافتة "نداء السودان"، وهي تضم حركات مسلحة وأحزاب مدنية، بياناً من مجلسها الرئاسي تحدثت فيه عن اجتماعها الاخير في باريس ووصفت التغييرات الحكومية انها مسرحية جديدة وقالت انها إعتمدت خطة لحشد الجماهير في الداخل والخروج الى الشارع لمواجهة النظام، ووجت نداءا الى المجتمع الدولي شارحة الاوضاع التي تمر بها البلاد، كما شدد المجلس على الاسراع باكمال السياسات البديلة وتنظيم ورشة عمل خاصة للتوفيق بين مختلف المقترحات، ومن ثم اعلان وثيقة موحدة للسياسات البديلة والميثاق الوطني.

يأتي هذا الكلام بينما النظام على طريق إكمال عامه الثلاثين في الحكم، وبدون أن تجيب المعارضة على سؤال حول ماذا حدث للسياسات والبرامج التي تم التوصل اليها من قبل، مثل "اعلان أسمرا للقضايا المصيرية" في 1995. فمن الواضح انه ما لم تكن للمعارضة أراض محررة لتطبيق برنامج مثل هذا، فإن الخيار أمامها هو العمل على بلورة برنامج إنتخابي تتحدى به البشير في الانتخابات المقبلة بعد عامين. لكن خطوة مثل هذه تتطلب انهاء أسلوب العمل في المنافي، ونبذ العمل المسلح، والعودة للداخل، وتحمل أي مخاطر من أجل الانطلاق من وسط الناس في الداخل، وهي الخطوة التي ظلت مختلف القوى المعارضة تتجنبها بدعوى انه لا يمكن إجراء انتخابات حرة وعادلة في مثل ظروف السودان الحالية.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...