لا تُنكر الإدارة الأميركية وجود لاجئين فلسطينيين. بل هي تجادل فحسب في أعدادهم: مليوناً وليس 5 ملايين، لأنها لا "تؤمن" بشمول الصفة لأبناء وأحفاد من طُردوا من أرضهم، وتُقْصر الامر على من ولد في فلسطين. وهي تجادل في خصوصية صفتهم: فلماذا لديهم وكالة خاصة بهم تابعة للأمم المتحدة، عوضاً عن أن يندرجوا مثل سواهم من اللاجئين في أركان الأرض الأربعة (وما أكثرهم) في "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين" (UNHCR). ونعتبر أن وجود "الأنروا" (UNRWA) وتجميعها للاجئين الفلسطينيين عوضاً عن تفكيكهم، لا يساعد على ايجاد حل سلمي لموضوع "النزاع" الاسرائيلي الفلسطيني. هكذا بكل براءة وموضوعية عقلانية.
مضى وقت منذ أقرت اسرائيل نفسها بوجود الفلسطينيين أصلاً. كانت قبل ذلك تسميهم "عرباً" وحسب، وتُنكر صفتهم كأحد شعوب المنطقة. تغير الموقف مع ضجيج "الحل السلمي"، وكان لا يضير منحهم اسمهم ذاك مقابل كل ما سيتنازلون عنه، ولاسيما إن لم تكن تترتب على التسمية تبعات.. إذ بقيت الضفة الغربية "يهودا والسامرة"، والقدس "أورشليم" والخليل "هبرون"، وهكذا، بما يشمل غزة نفسها التي تصير "عزة" في التسمية العبرية.. تقوم اسرائيل بشكل غير منقطع بتغذية ايديولوجيا يستند بعضها الى تأويلات للتوراة والدين بينما بعضها الآخر يتم اختراعه بلا توقف، بحيث ضاعت الحدود والفوارق - وهذا أحد أهم ميادين اشتغال الصهيونية، وهي الفريدة من نوعها، ما بين حركة قومية حداثية أوروبية عقلانية من جهة، وبنية خرافية تمزج بخلطتها الخاصة الدين والتاريخ والاسطورة من جهة ثانية. تعتد إسرائيل بكل ضريح وأثر لإثبات ملكيتها التاريخية للأرض، وكتجسيد لـ"الوعد الالهي". وحين لا تجد الأثر، تستمر بالنبش وتسيّج المكان الذي يصبح على أية حال ذو صفة قدسية. وبمقابل ذلك، لا تتوانى عن تدمير سائر الآثار والأضرحة باعتبارها "احتلالاً" وبدعاً. وتعتد اسرائيل والحركة الصهيونية بالمحرقة وتقيم "ياد فاشيم" كنصب لتخليد ذكرى ضحاياها وكمركز أبحاث حولها، وتُلزم كل مسؤول أجنبي زائر بالمرور هناك وبتسجيل موقفه في سجلاتها التي تعدد واحداً واحداً كل أسماء الضحايا. وهناك عشرات جمعيات "أبناء ضحايا المحرقة" تنشط في أنحاء العالم، وهناك إقرار رسمي عالمي بوجود الحدث وبوجوب احترامه، وكل مسّ به يُعتبر مظهراً لمعاداة السامية يعاقب عليه القانون.
ويفترض - في عالم منطقي وعادل - بمن كانت هذه حاله أن يُحْجم عن إنكار "النكبة" (ولكنه هو من صنعها، بينما مُحِقت النازية وحُرِّمت)، وأن يتفهم أن ذرية المنكوبين تتمسك بإحياء الحدث الجلل الذي أصابها.. مع فارق أنه ممتد، أي أن تلك الذرية ما زالت تعيش في مخيمات اللجوء داخل وخارج فلسطين. ليس في ذلك وضعاً للضحايا - أياً كانوا - في مباراة للتنافس على ما هو أفظع، ولكن نوع من التمرين في المحاجة!
فلسطين مظهرٌ متطرف لأشياء أخرى
15-12-2017
.. المهم: ترامب، بعدما اعتبر "القدس الموحدة" عاصمة لاسرائيل ("إقراراً بالواقع" كما تقول إدارته) ونقل اليها سفارة بلاده، يريد اليوم حلّ الاونروا، وإدماج الفلسطينيين في مفوضية اللاجئين. وهو قرّر الامتناع عن دفع حصة واشنطن من ميزانيتها (تعادل ثلث هذه الميزانية) إخضاعاً للامم المتحدة وإفشالاً لممانعتها. ويقول أيضاً أنها فاسدة! وهي تتولى تعليم أكثر من 5 ملايين طفل وتتولى طبابة خدمات اغاثة هذا "المجتمع" في الاردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية وغزة.
تعتبر إدارة ترمب هذه الخطوة ضرورية وشرطاً لازماً لـ"حل" المسألة الفلسطينية، وأن عرقلة هذا الحل تنبع جزئياً من عدم التصدي لها. وكتتمة، فالانروا أنشِأت مستندة لقرار الامم المتحدة الرقم 194 الذي يكرس حق عودة اللاجئين الى ديارهم والاماكن التي طردوا منها. وفي هذا كفرٌ ما بعده كفر، ولا بد من اجتثاثه!
ظاهرة ترامب مطابقة للحال العام
23-06-2018
يقال ان "المنتصر يكتب التاريخ"، أي يروي الـ"ستوري تيللنغ" كما يريدها. والحقيقة أن المهيمِن والطاغي هو من يكتب تلك الرواية (ولو شئتم اعتبار ذلك انتصاراً فهو تكريس مضاعف للوحشية). اعتدنا على تسمية السكان الاصليين للقارة الأميركية - وهم كانوا ملاييناً شديدي التنوع وكانت لبعضهم، كـ"الانكا" و"الازتيك"، حضارات كبيرة ومتقدمة - تسميتهم "الأباشي" أو الهنود الحمر. وأما الاباشي فمشتقة من كلمة اسبانية تعني "السفلة"، وأما "الهنود الحمر" فتكرس حماقة المستعمرين الاوروبيين حين عَثَروا بالقارة الجديدة فظنوها الهند التي كانوا يقصودونها في رحلتهم، ولم يكلفوا خاطرهم تصحيح الخطأ بل أمعنوا فيه بكل تعالٍ. واعتدنا على رؤية السكان الأصليين لأميركا كمتوحشين قتلة بينما الرجل الابيض يحاول تحضيرهم.. واعتدنا على رؤية الغربيين لنا وفق أوصاف وصفات ومظاهر وأشكال دونية او مذلّة ومتخيلة بكل الاحوال، نشرها الاستشراق بالكلمة واللوحة. وما زلنا نرى تلك الصورة في أفلام حديثة، وفي التعامل اليومي مع مجتمعاتنا. ولم يخطر ببال أحد أن يحاسب الاميركان وحلفائهم على فعلتهم في العراق على سبيل المثال.. وما زال الفرنسيون يرفضون الاعتذار عن جرائمهم في الجزائر.. وهكذا.
فمع من تقفون؟ هذه قصة واحدة بفصول متعددة. مع من تقفون؟