من سرق الأرض؟

تبدو المقولة اعتياديّة ومكررة ومفهومة ضمناً في سياق الوقاحة الاستعماريّة: "أرض بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض". لكنّ قوتها الحقيقيّة لا يُمكن أن تُفهم إلا بفهم تأثيرها على تصميم النظام العنصري الصهيوني، وإرسائها لمنطق الجهاز القانوني الذي يُنتج الجوهر الاستعماري لهذه الدولة.
2015-04-02

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا


شارك
| en
عبد عابدي- حيفا/ فلسطين

تبدو المقولة اعتياديّة ومكررة ومفهومة ضمناً في سياق الوقاحة الاستعماريّة: "أرض بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض". لكنّ قوتها الحقيقيّة لا يُمكن أن تُفهم إلا بفهم تأثيرها على تصميم النظام العنصري الصهيوني، وإرسائها لمنطق الجهاز القانوني الذي يُنتج الجوهر الاستعماري لهذه الدولة. مركّبان أساسيّان في هذه الجملة - الشعب والأرض- ومعالجة هذين المركّبين هي الوظيفة الأساسيّة للنظام السياسي في إسرائيل: تصميم "الشعب" الذي يحقّ له الوجود، وتأمين السيطرة على الأرض. هل هذه عودةٌ إلى الأساسيّات؟ إنها كذلك، إذ يتزامن يوم الأرض مع انتخابات يُصر فيها الإعلام (الغربي بالأساس، ومن ثم العربي) على أن "العنصريّة تتزايد" في إسرائيل، وكأن العنصريّة ليست بنيويّة في نظام سياسيّ إنما مجرّد ظاهرة تتزايد أو تتراجع بحسب المتغيّرات السياسيّة. ويأتي هذا الانشغال في إطار انشغالٍ أوسع بالصراع بين "يسار" ويمين الصهيونيّة. فما هي العلاقة بين القضايا الجارية المتعلّقة بالانتخابات والقضايا الأساسيّة والجوهريّة في شكل النّظام الإسرائيلي؟

الادِّعاء بأن العنصريّة هي ظاهرة في إسرائيل وليست جزءاً جوهرياً من نظامها يقوده بالأساس ما يسمّى اليوم باليسار الإسرائيلي كجزء من حربه على اليمين. لأن الجذور الحزبيّة لهذا "اليسار"، متمثّلةً بحزب "ماباي"، هي التي تولّت بعد النكبة تحويل الايدولوجيا الصهيونيّة العنصريّة إلى نظام سياسيّ، مركزةً كل اهتمامها في المركبين الأساسيين - الشعب والأرض. في العام 1930 تأسست "ماباي" كحركةٍ صهيونيّة اشتراكيّة تزعّمها دافيد بن غوريون، الذي أعلن قيام إسرائيل بعد النكبة، وواصل الحزب استفراده بحكم إسرائيل حتى العام 1977. كانت ميّزة الحزب الأساسيّة أنه يعتمد قاعدة شعبيّة مكوّنة أولاً وأخيراً من المستعمرين اليهود القادمين من الدول الأوروبيّة ويُطلق عليهم اسم "أشكناز". متحضّرون متنوّرون بسراويل قصيرة وقبّعات تحمي بياض وجوههم، أسسوا كل أجهزة الدولة وتمكّنوا منها، لا سيما تلك الأمنيّة.

الأرض للأشكناز، والشعب للجميع

مرّت العمليّة الأساسيّة في تحويل الصهيونيّة إلى نظام سياسيّ عبر تعريف الشعب الذي يحقّ له الوجود أولاً، فوضع هؤلاء المستعمرون الأوروبيون أولاً قانون "العودة" عام 1950، وهو القانون الذي يُتيح لكل يهودي في العالم أن يحصل على مواطَنة إسرائيليّة متى شاء، ثم سنّ قانون "المتسللين" عام 1954 الذي يمنع عودة أي فلسطينيّ إلى بيته، وهو بهذا حدد وصمم نهائياً ملامح "الشعب". لكنّ هذا الشعب لم يكن يحوي المستعمرين الأوروبيين فقط، بل اليهود العرب (ويسمّونهم الشرقيين) الذين استُقدموا إلى فلسطين للمشاركة في المشروع الاستعماريّ. هم، باعتبارهم يهوداً، لهم الحق الكامل في دائرة "الشعب اليهودي". لكن هل يتساوى الأوروبيّ والشرقيّ في الهيمنة؟ السطوة الاستعماريّة الحقيقيّة "بموديلها" الكلاسيكي الأوروبيّ تمثّلت بتصميم حزب "ماباي" لمركّب الأرض، عبر منظومة استيلاء على أراضي فلسطين بحيث تبقى الأراضي بملكيّة استعماريّة أوروبيّة خالصة. وليس هذا الخيار إلا إدراكاً عميقاً بأن هيمنة الاستعمار الحقيقيّة على فلسطين لا يمكن أن تُنجز بهيمنة اجتماعيّة أو ثقافيّة، إنما فقط بالسطو الماديّ على إمكانيّة حياة الفلسطينيين، أي على الأرض.

في العام 1901 أسس هرتسل الصندوق القوميّ اليهوديّ الذي يهدف لجمع الأموال من اليهود في أوروبّا بهدف شراء الأراضي في فلسطين وتخصيصها لمصلحة الشعب اليهودي والاستيطان فيها. قانون الصندوق الداخليّ يقضي بألا يبيع أي من أملاكه لغير اليهود. وهو لم يوفّر أي وسيلة للاستيلاء على الأراضي الفلسطينيّة قبل النكبة ـ شراءها بمبالغ خياليّة، شراءها عبر سماسرة عرب، تزوير المستندات.. وغيرها أساليب كثيرة. وطبعاً، أموال أوروبّا لأوروبّا. تجمّعت هذه الأراضي التي استولى عليها الصندوق لمصلحة مستوطنات يسكنها يهود أوروبّا التي تنظّمت كتعاونيّات اشتراكيّة تُسمى "كيبوتس". عدد صغير من العائلات يجتمعون فيها فيمنحهم الصندوق اليهودي مساحات هائلة من الأراضي بغرض تطويرها. لا تزال الكيبوتسات (ونماذجها المختلفة، مثل "الموشاف" والبلدة الجماهيريّة) تحتفظ بهذا الإرث التاريخي، ويشكّل الأساس لامتيازاتها الماديّة في إسرائيل، وترمز للهيمنة الأشكنازيّة في فلسطين، ترمز لنفي وجود العرب وتطهيرهم عرقياً، كما ترمز للتمييز ضد اليهود الشرقيين.

القانون الإسرائيلي صندوق أدوات لصندوق اليهود

بعد النكبة، وفّرت الدولة الإسرائيليّة للصندوق القومي اليهودي (وانضمت إليه "دائرة أراضي إسرائيل") سلسلة طويلة من الأدوات القانونيّة والتنظيمية التي أتاحت له سيطرة كاملة على الأراضي العربيّة المحتلّة عام 1948. بدأت الكارثة طبعاً بسنّ قانون أملاك اللاجئين في العام 1950، الذي يصادر كل أملاك الفلسطينيين في القرى والمدن المهجّرة، بما في ذلك أراضيهم، وينقلها لملكيّة الدولة التي توكّل الصندوق القومي اليهودي بإدارتها. كذلك، فعّلت إسرائيل أنظمة الطوارئ الانتدابيّة التي تتيح إعلان الأراضي الخاصّة كمناطق عسكريّة مغلقة يُمنع دخولها، واستخدمت نظام الطوارئ هذا لتهجير القرى التي لم تُهجّر حتّى النكبة، عشرات القرى في شمال فلسطين (تشتهر منها اقرث وكفر برعم) وقرى في جبال، وقرى كثيرة في النقب. ثم سنّت إسرائيل سلسلة من القوانين أهمها "قانون شراء الأراضي" الذي يتيح مصادرة الأراضي لأغراض عامّة، ويمكّن الدولة من شراء الأراضي من دون موافقة أصحابها. يوم الأرض الذي يصادف الثلاثين من آذار/مارس اشتعل بعد أن أعلنت إسرائيل في العام 1976 أن أراضيَ في منطقة الجليل اسمها "أراضي الملّ" هي منطقة عسكريّة مغلقة بغية مصادرتها. وهو إعلان جرّ قراراً بالإضراب العام والمواجهات العنيفة التي سقط خلالها ستّة شهداء.

المساحة الساحقة من الأراضي التي صادرتها إسرائيل من العرب، ذهبت للنخبة الاستعماريّة الأوروبيّة، خاصةً في عمليّات توزيع شاملة للأراضي على المستعمرات. هذه العمليّة التاريخيّة التي حولت الأسس الفكرية الاستعمارية والعنصريّة إلى نظامٍ سياسيّ على الأرض، تمّت على يدّ حكم الصهاينة الأوروبيين متمثلين بالحزب "اليساري" بقيادة بن غوريون. في العام 1977، وبعد نضوج قدر كاف من الحقد الطبقيّ والاثنيّ لدى اليهود الشرقيين، استغلّ حزب الليكود (اليميني، الصهيوني الليبرالي) بقيادة بيغن هذا الشرخ ليُحدث "انقلاباً انتخابًياً" بعد 30 عاماً من حكم "اليسار". جيّش اليمين جموع اليهود الشرقيين محوّلاً إنكارهم لهويّتهم العربيّة وموجهاً حقداً نارياً تجاه الفلسطينيين (بشعبويّة مفرطة ومعلنة وفجّة)، إلى نوع من أنواع شهادة الجدارة بالانتماء لهذا المجتمع الاستعماري الذي يحكمه الأوروبيّون، علاوةً على الرغبة الجامحة للانخراط في الجهاز الأمني الذي يُعتبر صكّ القبول في مجتمعٍ عمدتُه الأولى والأخيرة هي الحرب.

لقد نجحوا..

بالمحصّلة، وفي يومنا هذا، تسيطر السلطات الإسرائيليّة على 93 في المئة من الأراضي المحتلّة عام 1948، وكلّها بملكيّة رسميّة. نسبة تأميم أراضي لا تضاهيها إلا مثيلتها في الدول الشيوعيّة. كل هذه الأراضي تنقسم إدارتها بين الصندوق القومي اليهودي ودائرة أراضي إسرائيل، المؤسستان لهدف واحدٍ أساسيّ: تأمين بقاء هذه الأراضي بيد الشعب اليهودي. وهما مؤسستان يحركهما مبدأ واحد: أكثر كمّ من العرب، على أقل مساحة من الأرض. لقد نجحوا.. الفلسطينيّون داخل إسرائيل لا يملكون إلا مساحة تشكّل 3 في المئة من الأراضي، وهي مساحةٌ تتم ملاحقتها من قبل السلطات الإسرائيليّة من دون هوادة.

عودة للهيمنة الأشكنازيّة.. بقي أن نُشير إلى أن غالبية الأراضي التي تملكها الدولة (الـ 93 في المئة) وُزعت على التجمّعات السكانيّة التي يعيش فيها الأشكناز من دون غيرهم. 80 في المئة من الأراضي التي تملكها الدولة (86 في المئة من إجمالي مساحة الأراضي المحتلّة عام 1948) هي أراض مخصصة لتجمّعات سكّانيّة يعيش فيها ليس أكثر من 600 ألف نسمة، أغلبيتهم الساحقة من اليهود الأوروبيين، وهم لا يشكّلون إلا 8 في المئة فقط من 8.18 ملايين نسمة يعيشون داخل الكيان الصهيوني. والجشع طبعاً لا قاع له.. السلطات الإسرائيليّة ما زالت تلاحق الفلسطينيين على القليل الذي يملكونه. في النقب مثلاً، يشكّل الفلسطينيّون 31 في المئة من إجمالي سكّان صحراء النقب، لكنّهم يعيشون على 3 في المئة من أراضي النقب فقط، وماذا تنوي إسرائيل؟ حصرهم في 1 في المئة فقط.

وتستمرّ الكذبة الغربيّة

وتستمر الانتخابات، ويستمر فرسان المفاوضات عند القيادة الفلسطينيّة ينتظرون ابتسامة من "اليسار الاشكنازي" ليطلب يدهم إلى طاولة المفاوضات لعشر سنوات أخرى. وتستمر مخططات مصادرة الاراضي: بحجة مدّ السكك الحديديّة، وفتح الأوتوسترادات على حساب الأراضي العربيّة، وتوسيع المستوطنات في الجليل والنقب والمثلّث.. ويُمنع إصدار تراخيص البناء لعشرات السنوات، ومن ثم تهدم كل البيوت التي شُيدت من دون ترخيص لأن الناس لم يجدوا مكاناً يسكنون فيه. هذا طبعاً قبل أن ندخل في إمكانيّات التطوير المدنيّ المعدومة، وقتل الاقتصاد الزراعي ومنع تطوير المناطق الصناعيّة منذ عقودٍ طويلة وقتل الحيّز العام في القرى العربيّة وتحويلها إلى مجرّد مساكن ينام فيها الناس بعد نهارٍ طويلٍ من العمل في أسواق الإسرائيليين واقتصاد الإسرائيليين.

ويستمر اليسار الأشكنازي في إسرائيل في إقناع العالم كلّ مرة من جديد بأنه البديل للعنصريّة والبديل للاحتلال، وأن العنصريّة تكمن في الشعبويّة السمراء والكراهية الظاهرة في الشارع ضدّ العرب، وأنها كراهيّة دينيّة بين المتدينين اليهود والمتدينين المسلمين، وأن المشكلة أصلاً مشكلة بين شرقيين يتصارعون بتخلّفهم. بينما هم وحدهم من يقودون الطائرات ويقصفون ويظهرون في نهاية الأسبوع في المرافق العلمانيّة النخبويّة، هم ذاتهم الذي يظهرون بوجوههم البيضاء المبتسمة بمظاهر متحضرة متنصلة من العنصريّة، ماسحين عنهم تاريخاً من الاستعلاء الاستعماري، وقد أرسوا أمتن الأسس لأبشع النظم العنصريّة في أيامنا، و"أوسع عمليّة سطوٍ مسلّح عرفها التاريخ الحديث".


وسوم: العدد 138

للكاتب نفسه

فلسطين: حقوقيّون في ظلال الـ"درونز"

مجد كيّال 2022-01-06

تلعب إسرائيل دوراً محورياً في تشكيل رؤية الحروب في عصر "الدرونز". فهي اعتمدت في حروبها السريعة بعد حرب 1967، على الارتكاز لسلاح الجو، وقدرات المراقبة والسيطرة عن بعد، وتجنب التوغّل...

لحظة كل الممكنات وكل المخاطر

مجد كيّال 2021-05-26

الحرب العميقة تنطلق على مستويين. الأوّل هو المستوى الأمني، وقد بدأت إسرائيل تسعى إلى ترميم صورة "الوحش" التي كسرناها. ولكن هناك مستوى أخطر: حين تهدأ الأخبار، تبدأ المؤسسة الأمنيّة ببسط...