التصفية الجسدية في مصر

حالات التصفية الجسدية دون محاكمة باستخدام حجة مكافحة الإرهاب استعادة لما كان يحدث في مصر في تسعينات القرن الماضي وتحالف قبائل العريش يهدد بالعصيان المدني بينما تبتلع المدن الكبرى هذه الجرائم
2017-03-06

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
خلدون عزام - سوريا

التصفية الجسدية هي القيادة بأقصى سرعة على طريق اللاقانون، وكأن منفذها يسأل: لماذا المحاكمات؟ لماذا التحريات؟ لماذا الاستجوابات.. ما دام الأمر يمكن أن ينتهي برصاصة واحدة، ولا ضرر من أن يصدر بيان رسمي يتحدث عن مهاجمة وكر إرهابي هنا أو هناك، عن ملاحقة فى الصحراء واشتباك أدى إلى تصفية الإرهابيين المطلوبين.
ممارسات كانت خفية للأجهزة الأمنية على مدار تاريخها تحولت إلى ظاهرة مفضوحة على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة، حيث تكرار حالات القتل خارج القانون، والتي ينفضح كذب الرواية الرسمية الخاصة بها في كثير من الحالات، ليكون الضحية مواطنين مختفين قسرياً قبل شهور أو قيادات بجماعة الإخوان المسلمين التي تتهمها السلطة بالتورط في أعمال قتل وتخريب وعنف.
ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على كشف هوية بعض هؤلاء المذكورين كأرقام وأسماء مجهولة في العديد من البيانات، ولكن ماذا عمن لا زالوا حتى الآن فى مساحة الظل؟ وكيف يمكن وضع الثقة فى أجهزة تورطت ـ ولو مرة واحدة ـ  في تلفيق وتزييف الحقيقة؟

 

سيناء.. من حيث تأتي البداية تكون النهاية

 

قبل شهر شهدت قضية التصفية الجسدية تحولاً هاماً أعطى الأمل بأن تحركاً ملموساً ضدها قد يحدث. جاء هذا بعد تلويح عدد من قبائل مدينة العريش بشمال سيناء بالعصيان المدني إثر تورط قوات مكافحة الإرهاب في قتل عدد من شباب هذه القبائل، كانوا "معتقلين بشكل غير رسمي" لدى أجهزة الأمن قبل شهور ثم فوجئ ذووهم بأجسادهم وقد اخترقها الرصاص داخل شريط فيديو تبثه أجهزة الأمن عبر شاشات التلفزيون باعتباره نجاحاً في اقتناص إرهابيين قاموا بتنفيذ عملية إرهابية ضد القوات المسلحة بالمدينة مؤخراً. إنه القتل مرتين، الأولى برصاصة الغدر والثانية برصاصة التزييف. يتساءل والد أحد الشباب: "كيف تكون الإضاءة والكاميرات مثبتة على أجساد الضحايا بينما تظهر القوات وكأنها تبدأ الاستعداد للهجوم، هل من المنطقي أن تسبق الكاميرات البنادق إلى ساحة الجريمة؟ من جاء بأولادنا من المعتقل الذي لا نعرف اسمه إلى هذه الشقة السكنية؟ من قتلهم وألقاهم على الأرض ثم جاء بالكاميرات وبدأت فصول التمثيلية".

 

"أحمد يوسف" شاب في أوائل العشرين انتشرت صورته بكثافة بعد فيديو التصفية، وهي صورة تظهر الوجه الآخر للحياة وليس فقط للحقيقة. حديث الزواج يبتسم ويرتدي نظارة الشمس، فكيف ينتهي الأمر لأن يتحول إلى جسد مسجى على وجهه بين أقدام الجنود

 

بشكل تقديري، تقول منظمات حقوقية إن عدد حالات القتل خارج القانون والتصفية الجسدية لمعارضين قد وصلت إلى 34 حالة عام 2016 وحده، وهي الحالات التي تم التوصل إلى هوية ذويها بينما آخرون تنتهي سيرتهم من الدنيا عبر بيان يشير إليهم كمجهولين لا يعرف أحد من أين أتوا أو لماذا رحلوا.
"أحمد يوسف" شاب في أوائل العشرين انتشرت صورته بكثافة بعد فيديو التصفية، وهي صورة تظهر الوجه الآخر للحياة وليس فقط للحقيقة. حديث الزواج يبتسم ويرتدي نظارة الشمس فكيف ينتهي الأمر لأن يتحول إلى جسد مسجى على وجهه بين أقدام الجنود ممن تمت تصفية زملائهم هم أيضاً قبل أيام خلال حراستهم لنقطة المطافىء فى مدينة العريش بشمال سيناء.
حكى والده في اجتماع القبائل كيف جاءت قوات الأمن إلى منزلهم قبل ثلاثة أشهر، كيف اعتدت على الزوجة وأجهضتها وضربت الشاب أمام والدته بتهمة الاشتباه، كيف حُرّرت عشرات البلاغات والاستغاثات دون جدوى.
ليس يوسف وحده، ولكنها القصة نفسها تكررت مع كل من ظهرت جثته في هذا الفيديو، يقول والد "محمد ابراهيم أيوب" (22 عاماً) من قبيلة الفواخرية، وكان يعمل سائقاً لسيارة أجرة قبل أن يُعتقل منذ نحو شهرين: "إذا كان ابني إرهابياً وتم القبض عليه لتورطه فى قتل الجنود فأنا سأتبرأ منه، لكن فلتحيوا الجنود الشهداء وتسألوهم هل يمكن لسجين أن يقتلهم".
كتب "أشرف حفني" المتحدث باسم اجتماع القبائل بالعريش عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن خصوصية مدينة العريش والتركيبة القبلية بها هي التي كشفت عن حجم هذا العبث. وأنه بالمقابل فهناك الكثير من الشباب تتم تصفيتهم ولا أحد يعرف شيئاً عنهم، بسبب طبيعة المدن الكبرى القاسية كالقاهرة".

 

أسماء وأرقام تنتظر التحقيق

 

بالفعل، تضيع الحقائق في المدن الكبرى. فقبل وقت قصير ـ  ورغم الضجة التى صاحبت حادثة تصفية الشباب بالعريش ـ أعلنت وزارة الداخلية عن الاشتباك مع إرهابيين اختبأوا داخل شقة سكنية مهجورة على أطراف مدينة القاهرة، بعد توصلها لمعلومات عن مسؤوليتهم عن استهداف كمين للمرور. لم ينشر البيان أسماءهم هذه المرة، فبقي السؤال مفتوحاً عمّن يكونوا. قبل حادثة العريش، ظهرت أسماء أخرى مقترنة بصور شباب صغار في السن رحلوا عن الحياة في لمح البصر، من بينهم طالب كلية الهندسة "إسلام عطيتو" الذي تم اقتياده في صيف 2015 من لجنة الامتحان أمام مرأى ومسمع جميع الطلبة، وبعد أقل من 48 ساعة نشرت صورته مقترنة ببيان قال إن عطيتو قتل خلال مهاجمة وكر إرهابي فى صحراء القاهرة. حملة واسعة مقابلة قادها الطلاب ونشروا خلالها ورقة إجابة الامتحان الأخيرة بخط يد الطالب الذي قالت عنه وزارة الداخلية إنه إرهابي قًتل خلال تبادل لإطلاق النيران.

 

فادي الحموي - سوريا

 

وأخيراً وقبل أيام قليلة من حادثة "العريش" كان إعلان وزارة الداخلية عن تصفية ثلاثة شباب في محافظة أسيوط بصعيد مصر هم "عبد الرحمن جمال، محمد سيد، علاء رجب". قالت قوات الأمن إنها اضطرت لقتلهم أثناء القبض عليهم لمقاومتهم القوات، وأن جميعهم ينتمون لحركة "حسم" المنسوب إليها تنفيذ عدد من أعمال القتل والعنف، بينما كشفت أسرهم بالدلائل وقائع القبض عليهم قبل ثلاثة أشهر.
وبين الحادثتين وقع عدد آخر من الحوادث لعل أشهرها تصفية 13 من قيادات جماعة الإخوان المسلمين داخل منزل بمنطقة "أكتوبر"، قالت وزارة الداخلية إنّهم المسؤولون عن إنشاء اللجان النوعية والإشراف على تنفيذ أعمال عنف بالمحافظات، بينما أصدرت الجماعة بياناً نفى رواية الداخلية وقال إن الاجتماع كان بهدف إعاشة المعتقلين ولم تكن هناك أسلحة. وتبادر سؤال على ألسنة حقوقيين عن كيفية حدوث اشتباك مع هذا الكم من المتهمين دون حدوث ولو إصابة واحدة في صفوف قوات الأمن، وعن قتل المتهمين جميعاً خلال الاشتباك.

 

مخاوف الدم و التزييف

 

"نحن لا نؤيد القتل سواء جاء على يد الجماعات الإرهابية أو الدولة خارج القانون"، هكذا كانت رسائل عدد من السياسيين المعارضين بينهم مرشحون سابقون للرئاسة ممن رأوا أن مد خط هذه الممارسات على استقامته يؤدي إلى مزيد من العنف وازدواج المعاني والمعايير.

 

يذهب المحامي الحقوقي "جمال عيد" في تعليقه على ظاهرة التصفية الجسدية  إلى ما يترتب عليها مستقبلاً من انفلات دائرة الدم وضياع الحقيقة، مشيراً إلى ضرورة التمسك بالقانون كطريق وحيد لمنع الانزلاق إلى أي من تلك الدوائر

 

ولقد كانت الصورة هكذا أيضاً في بداية التسعينات، فهل هو التاريخ يعيد نفسه؟
ففي نهاية آب / أغسطس 1990، نشرت جريدة الأهرام في صفحة الحوادث خبراً صغيراً هو "العثور على جثة شاب مجهول الهوية بشارع ترسا بحي الهرم، وأن الدافع وراء قتله هو الثأر، وقد تم نقل الجثة إلى مستشفى أم المصريين بعد معاينة النيابة". ومن أمام هذا المستشفى البائس ظهرت الحقيقة. فالجثة المجهولة كانت قبل أيام الطبيب علاء محيي الدين، المتحدث باسم الجماعة الإسلامية، والقتل جاء بالرصاص ـ كما جاء فى مذكرات قيادات بالجماعة بعد ذلك بسنوات ـ عبر مجموعة أمنية صغيرة لوحظ وجودها قبل أيام قريبة من منزل المتحدث باسم جماعتهم المتهمة بالتورط في أعمال إرهابية. عنف أقوى جاء بعد ذلك بتنفيذ سلسلة من عمليات الاغتيال لضباط شرطة على مدار سنوات.
يذهب المحامي الحقوقي "جمال عيد" في تعليقه على ظاهرة التصفية الجسدية  إلى ما يترتب عليها مستقبلاً من انفلات إلى دائرة الدم وضياع الحقيقة، مشيراً إلى ضرورة التمسك بالقانون كطريق وحيد لمنع الانزلاق إلى أي من تلك الدوائر: "لا يحق للداخلية أن تلعب دور الشرطي والمحقق والحكم، لا يحق لها الافتراء على أبرياء باسم مكافحة الإرهاب".
يعطي القانون المصري لقوات الأمن حق إطلاق النار وتصفية المتهم فى حالة مقاومته لها وإطلاقه النار على أفرادها، وهو المدخل القانوني الذي تركن إليه كافة بيانات وزارة الداخلية في الإعلان عن حالات القتل خلال المداهمات، بينما تبقى الأسئلة معلقة بأرواح من رحلوا عمن كان منهم مشتبكاً، ومن كان مقيد اليدين خلف ظهره بعد شهور من التعذيب والاختفاء..

مقالات من سيناء

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...