عودتان.. رغماً عن الاحتلال والعالَم

لم يبالوا بساعات الانتظار الطويلة هذه المرّة. كان تعبهم ألذّ على قلوبهم من العسل هذه المرة، وهذه المرة فقط. بعد نزوحات كثيرة ذاقوا فيها شتى صنوف المَرار، بدا زحف العودة رحلة حبيب إلى حبيبه.
2025-01-30

شارك
عشرات آلاف الغزّيين الذين نزحوا أثناء حرب الإبادة من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، في طريق العودة إلى الشمال مشياً على الأقدام بعد عبورهم معبر "نيتساريم". (تصوير: علي جاد الله – عن صفحته على "انستغرام").
إعداد وتحرير: صباح جلّول

"90 بالمئة من العائدين من جنوب غزّة إلى شمالها بلا بيوت".
نعم، لكنّهم عادوا.
"135 ألف خيمة على الأقل يحتاجها العائدون لإيواء أنفسهم في الشمال".
نعم، لكنّهم عادوا.
"51 مليون طن من الحطام يغطي غزّة. لم يبقَ حجرٌ على حجر".
نعم، لكنهم عادوا.
"ممنوع التحرك بالمركبات، فقط سيراً على الأقدام".
لكنهم، بالطبع، أهل البلد، أهل غزة، مشياً عادوا.

غزّة يا غزّة..

لم يبالوا بساعات الانتظار الطويلة هذه المرّة. كان تعبهم ألذّ على قلوبهم من العسل هذه المرة، وهذه المرة فقط. بعد نزوحات كثيرة ذاقوا فيها شتى صنوف المرار، بدا زحف العودة رحلة حبيب إلى حبيبه.

لم يغادر الأسى أهل الشمال العائدين بالطبع، لكنهم كانوا لأول مرة منذ شهور طويلة قادرين على التعامل معه. فأن ترثي مدينتك فيها لأسلم للقلب من أن ترثيها من بعيد...

مسيرة العودة الكبرى يوم الاثنين 27 كانون الثاني/يناير 2025. (الصورة عن AFP).

لقد خرج المجرمون وحوش العصر، وعاد أهل البلد. على الرغم من تفوق عدوهم، أفشلوا هم وحدهم بعنادهم وحبهم لأرضهم مخطط العدو بإخراجهم. عادوا، فهذا بكاء وهذه زغاريد، وذاك رثاء وتلك أهازيج، وهذه غصة وتلك فرحة وتكبيراتُ عيد. كان كل ذلك في يومِ العودة الكبرى، الاثنين في السابع والعشرين من كانون الثاني/يناير 2025.

"بيحلم ترامب، بيحلم إذا واحد فينا بيطلع عمصر أو عالأردن"، تقول امرأة تشهد عودة شعبها إلى شمال القطاع:


"يا وطن يا حبيّب، يا بو قليب الطيب، حتى نارك جنّة"، يهتف شبان غزة في يوم عودة الروح إليهم.

"أرض المجد وأرض العزّة، بلدي الغالية الحلوة يا غزّة"، يغنّي طفلان على طول الطريق، رافعين من معنويات النازحين العائدين.

*****

وعودةٌ أخرى في جنوب لبنان..

حسم الأهالي خيارهم، فيما الاحتلال الإسرائيلي لقرى الجنوب الأمامية يماطل، بعد انتهاء مهلة الستين يوماً منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، وهي المدة التي ينبغي من بعدها لجيش الاحتلال مغادرة الأراضي اللبنانية، التي بقيت دباباته وجنوده يعيثون خراباً فيها. ثمة قرى في الجنوب لم تكن تبلغ نسبة الدمار فيها أكثر من 30 في المئة أثناء الحرب الإسرائيلية، لكنّ الاحتلال أجهز على ما يقارب الـ90 في المئة منها بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ!

لقد شاهد أهل القرى كل ذلك بصبر وصمت وقهر عميق، ثمّ عندما جاء الموعد، حسموا خيارهم. تجمعوا أمام مداخل قراهم وانتظروا ساعة الصفر صباح الأحد في 26 كانون الثاني/يناير. وكما أهل غزة، انطلقوا في مواكبهم لملاقاة أرضهم وبيوتهم وبساتينهم. "يعبرونَ الجسرَ في الصبحِ خفافاً، أَضلُعي امتدّت لهم جسراً وطيدْ"، كتب الشاعر اللبناني خليل حاوي ذات مرّة، وقد عبروا، وكان الثمن غالياً. 24 شهيداً وأكثر من 100 جريح وأسرى أخذهم الجنود الإسرائيليون حيث رفضوا إخلاء مكانهم. لكنّهم وحدهم وبلحمهم الحيّ دخلوا أكثر من 30 قرية، فيما بقيت 8 بلدات محتلة جزئياً، على الرغم من محاولات شجاعة من أهاليها بالدخول إليها...

"لوين؟".. "عَ ميس، عَ ميس! مشي!".. بابتسامة عريضة، تحث المرأة التي بعمر جداتنا الخطى نحو قريتها "ميس الجبل"، مشياً على طريق ترابي وعر. لقد وقفت امرأة جنوبية ثانية، عزلاء أمام الجنودِ والدبابة، وليس هذا بالمشهد الغريب عن نساء الجنوب اللاتي اعتدن المشاركة في مقاومة الاحتلال منذ وُجد. عندما سألوها لاحقاً، من أين أتيتِ بالشجاعة لفعل ذلك، قالت أنها عندما تتذكر الشهداء، وما قدمناه من أجل هذه الأرض "لوحدِك بتقوي". تأتي القوة من تذكّر ما ضحوا من أجله. ثمّ تضيف "فوتوا عبلدكن، ما هي بلدكن!"، ببداهة هكذا، تشرح الموقف كله. أليست قريتنا؟ إذاً لا يهمّ إن كانت هناك دبابة أو عشرة. ندخل كالداخل إلى بيته.

ما زال المشهد في الجنوب صعباً ومربكاً، مع محاولة المحتلين المماطلة (وقد أعطاهم "ترامب" تمديداً، فوق الستين يوماً، دون استشارة لبنان، حتى 18 شباط/فبراير للبقاء في أرضنا!)، لكنّ العودة حتمية. لا بدّ أن ينزاحوا وندخل "بسلامٍ آمنين".

_______________________

  1. أي نحو 17 ضعفاً إجمالي حطام جميع الحروب بين الاحتلال الإسرائيلي وقطاع غزة منذ عام 2008، حسب UNEP.

مقالات من العالم العربي