في تطور عملياتي خطير، سيطرت "قوات الدعم السريع" على ولاية "سنار" الواقعة في الجنوب الشرقي للسودان, حدث ذلك مطلع الشهر الجاري وخلال أسبوع واحد فقط، على الرغم من أن العمليات العسكرية الكبرى، كانت قد شهدت جموداً منذ سقوط "ولاية الجزيرة" وسط البلاد، في كانون الأول/ ديسمبر 2023، وفشلت بعدها كل محاولات "قوات الدعم السريع" لدخول مناطق جديدة.
هذا التطور العسكري، يجعل الطريق أمام "قوات الدعم السريع" إلى جنوب وشرق البلاد سهلاً أكثر من ذي قبل، مما يهدد مناطق جديدة، ظلت بعيدة عن احتمالات انتقال الحرب إليها، منذ اندلاعها في نيسان/ أبريل 2023.
وإذا أحكمت هذه القوات سيطرتها على الجنوب الشرقي، فإنها ستتمكن ــ بالتالي ــ من وضع ولايات الوسط في جزر معزولة عن بعضها من جهة، ومعزولة عن الجنوب والشرق من جهة أخرى. وبذا يصير وجود ما تبقّى من جيش في هذه المناطق بلا جدوى.
والأخطر على الإطلاق، هو خروج مشاريع زراعية جديدة عن الإنتاج كلياً، مثل مشروع "الدالي والمزموم" في "سنار"، والمناطق الممتدة حتى "ولاية النيل الأزرق"، علاوة على أجزاء من "ولاية النيل الأبيض"، وهي مناطق إنتاج رئيسية.
الحرب تُلقي "سلة غذاء العالم" في براثن الجوع
05-06-2024
وبخروج "ولاية سنار" عن الإنتاج، لم يتبق من المشاريع الزراعية الرئيسية في البلاد سوى "القضارف" في شرق البلاد. ومع اقتراب "قوات الدعم السريع" من حدودها مع "ولاية سنار"، والمعارك التي تدور بين الفينة والأخرى في حدودها مع "ولاية الجزيرة"، تكون آخر المشاريع الإنتاجية واقعة تحت التهديد، مما تترتب عليه آثار ماحقة على الأمن الغذائي في البلاد.
ما حقيقة وضع الجيش؟
أيقظ تمدد "قوات الدعم السريع" نحو "ولاية سنار" أسئلة جوهرية حول وضع الجيش. دخول "قوات الدعم السريع" إلى ولاية "سنار" ذات العمق الاستراتيجي، لم يستغرق سوى بضع ساعات، وحدث من دون مقاومة تذكر من قبل الجيش، الذي انتهج سلوك الانسحابات الغامضة، تاركاً المواطنين يواجهون مصيرهم، مع فظاعات "قوات الدعم السريع".
هل نفدت قدرة الجيش وبلغ مرحلة الانهيار، أم ثمة خيانة، أم أن ما يجري هو عملية تسليم وتسلم بالاتفاق؟ جميع هذه الأسئلة مطروحة بقوة لدى الرأي العام.
الجيش، الذي اعتاد على الصمت المطبق وقت الكلام، لم يشرح للرأي العام حقيقة ما جرى. حتى انسحاب قواته من "ولاية الجزيرة" بشكل مفاجئ لم يجد له الرأي العام تفسيراً حتى الآن، على الرغم من الإعلان عن تشكيل "لجنة تحقيق" حول الأمر.
قبل أن تغيب شمس الخامس عشر من نيسان/ أبريل 2023، تحدد وضع الجيش ووضع "قوات الدعم السريع". مذاك، لم تتغير حتى اليوم، المعادلة التي جعلت الجيش في "الدفاع"، متحصناً داخل مقاره، بينما "قوات الدعم السريع" في "الهجوم" والانتشار جغرافياً.
وهي أسئلة موضوعية ومبررة، إذ يبدو أن أبجديات العمل الحربي، لا يتم وضعها في الحسبان في عدد مقدّر من العمليات، بحسب ما يقوله المحللون العسكريون. وعلى سبيل المثال: منطقة "جبل موية" الاستراتيجية، التي تقع في الجنوب الغربي لولاية "سنار"، وتربط ولايات الوسط ببعضها بعضاً - وهي المنطقة التي مهّدت لـ"قوات الدعم السريع" السيطرة على ولاية "سنار" بسهولة مذهلة - هذه المنطقة الاستراتيجية، لم يحافظ عليها الجيش بتأمينها وحمايتها كما تستحق. تأمين هذه المنطقة كان سيؤمن عدداً من المدن والمناطق في وسط البلاد.
لكن الجيش، الذي اعتاد على الصمت المطبق وقت الكلام، لم يشرح للرأي العام حقيقة ما جرى. حتى انسحاب قواته من "ولاية الجزيرة" بشكل مفاجئ لم يجد له الرأي العام تفسيراً حتى الآن، على الرغم من الإعلان عن تشكيل "لجنة تحقيق" حول الأمر.
خلّف سقوط "ولاية سنار" موجة سخط عارمة على قيادة الجيش، وهو غضب قديم يتجدد مع كل خسارة للجيش، منذ سقوط "نيالا" في جنوب "دارفور" في تشرين الأول/ أكتوبر 2023. غير أن السخط ياتي هذه المرة، بعد سقوط ولاية كاملة في أيام معدودة، ومن دون قتال يُذكر. وملامح سقوط مزيدٍ من المناطق صارت واضحة، مع استمرار عجز الجيش عن تحقيق مكاسب على الأرض، على الرغم من قول قائد الجيش ــ في آخر حديث له عقب سقوط ولاية "سنار" ــ إنه يرى النصر قريباً أمامه!
وتأتي موجة الغضب ــ هذه المرة ــ مسبوقة بتقارير استخباراتية، رُفعت إلى "البرهان" قبل حوالي شهرين، وضعته أمام خيارين: إمّا "الحرب بكامل الإمكانيات"، وإمّا "التفاوض". هذا وفقاً لما نقلته مواقع صحافية محلية. ويلجأ قائد الجيش، "عبد الفتاح البرهان"، عقب كل هزيمة عسكرية إلى مخاطبة جنوده، ويصب جام غضبه على تحالف "تقدم"، الذي يتهمه على الدوام بأنه ذراع سياسي لـ"قوات الدعم السريع".
غير أنه هذه المرة اضطر إلى استدعاء عدد من الصحافيين القريبين من الجيش، الذين جاءوا من خارج السودان، وقد حاول "البرهان" أن يشرح من خلالهم ما يجري. غير أن هذا اللقاء، زاد من السخط عليه، بسبب حديثه المنافي للواقع، وغير المبالي بمصائر الناس.
وعلى إثر السقوط المتتالي، برزت أصوات تدعو إلى عزل "البرهان"، وسط اعتقاد سائد بأن قيادة الجيش، تتعمد إبطاء العمليات العسكرية.
والبَيِّن أن هناك انقساماً واضحاً في معسكر الداعمين للجيش حول عزل "البرهان"، فبعضهم يعتقد أن عزله هو المطلب الأول لـ"قوات الدعم السريع"، الذي إذا ما تحقق فسوف يمثّل أكبر نصر لها، بينما يرى آخرون أن أفضل حليف لهذه القوات هو قائد الجيش، الذي تتساقط الفرق العسكرية منه كتساقط المطر، من دون أن يحفّزه ذلك على تحسين وضعه ميدانياً. ويبدو أن "البرهان" يستفيد من هذه التناقضات، في سبيل بقائه على كرسي، يهتز على رأس كل ساعة.
لكن، هل يجدي عزل "البرهان"؟
إن أكثر سهام النقد الموجهة إلى قائد الجيش، تتعلق بسوء الإدارة إلى الحد الذي يمكن وصفه باللامبالاة، والذي تجلى منذ انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، إذ لم تتمكن سلطات الانقلاب من تشكيل حكومة الى أن انفجرت الحرب. كما ظل "البرهان" على الدوام يتخذ الموقف ونقيضه، من دون إصدار أي قرارات تدعم هذا الموقف أو ذاك، محاولاً الإمساك بحبال مهترئة.
بعد انفجار 15 نيسان/ أبريل 2023، تعرض "البرهان" لانتقادات غير مسبوقة، بخصوص إدارة الحرب سياسياً، دبلوماسياً وحتى عملياتياً، على الرغم من الدعم الشعبي الذي حظي به الجيش خلال شهور الحرب الأولى، والذي يتحول الآن الى سخط بسبب الانتهاكات، وموجات النزوح واسعة النطاق. وتطور الأمر إلى توزيع الاتهامات بالخيانة لـ"البرهان" وقادة الجيش.
كل هذا، يمكن أن يكون صحيحاً بدرجة ما. نعم، قد يكون عامل الخيانة صحيحاً في مستوى من مستويات قيادات الجيش، لكن من المهم أن نضع في الحسبان أنه ليس السبب الوحيد لهزائم الجيش المتلاحقة.
بمعادلة بسيطة: وجود قوة ضاربة مثل "قوات الدعم السريع"، مستقلة اقتصادياً وعسكرياً، وتتمتع بعلاقات إقليمية ودولية، وموكلة إليها جميع العمليات الحربية، يعني أن هناك ضعفاً جوهرياً في مؤسسة الجيش، وبالتالي فمن الطبيعي جداً أن تسعى هذه القوة إلى ابتلاع الجيش، طالما أنها دخلت كلاعب رئيسي في النادي السياسي. وملامح ذلك كانت قد ظهرت منذ وقت مبكر.
أكثر سهام النقد الموجهة إلى قائد الجيش، تتعلق بسوء الإدارة إلى الحد الذي يمكن وصفه باللامبالاة، والذي تجلى منذ انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، إذ لم تتمكن سلطات الانقلاب من تشكيل حكومة الى أن انفجرت الحرب. كما ظل "البرهان" على الدوام يتخذ الموقف ونقيضه، من دون إصدار أي قرارات تدعم هذا الموقف أو ذاك، محاولاً الإمساك بحبال مهترئة.
شكل دخول "القوات المشتركة" (حركات "دارفور") ميدانياً إلى جانب الجيش بارقة أمل في تحسين وضعه ميدانياً، وما إن انطلقت عملية استعادة "ولاية الجزيرة" وسط البلاد، حتى توقفت العمليات بشكل كامل أو جزئي. والواضح أن فشل بعض المحاولات المشتركة بين الجيش و"حركات دارفور"، تعود إلى أسباب فنية وإدارية بحتة في الميدان، وطرائق إدارة العمليات العسكرية.
مؤسسة الجيش في ذلك، مثلها مثل مؤسسات الدولة القديمة، التي تكلست بفعل سياسة "المؤسسات الموازية"، التي انتهجتها الحركة الإسلامية طيلة حكم الثلاثين عاماً، وغرق قادتها في الفساد وغياب التأهيل والتدريب والتطوير.
وقد ظهر هذا واقعاً صارخاً منذ الساعات الأولى من عمر هذه الحرب، إدارياً، وإعلامياً. فقبل أن تغيب شمس الخامس عشر من نيسان/ أبريل 2023، تحدد وضع الجيش ووضع "قوات الدعم السريع". مذاك، لم تتغير حتى اليوم، المعادلة التي جعلت الجيش في "الدفاع"، متحصناً داخل مقاره، بينما "قوات الدعم السريع" في "الهجوم" والانتشار جغرافياً.
تحالف الجيش وحركات "دارفور"
شكل دخول "القوات المشتركة" (حركات "دارفور") ميدانياً إلى جانب الجيش بارقة أمل في تحسين وضعه ميدانياً، وما إن انطلقت عملية استعادة "ولاية الجزيرة" وسط البلاد، حتى توقفت العمليات بشكل كامل أو جزئي.
والواضح أن فشل بعض المحاولات المشتركة بين الجيش و"حركات دارفور"، تعود إلى أسباب فنية وإدارية بحتة في الميدان، وطرائق إدارة العمليات العسكرية، التي تختلف تماماً بين جيش نظامي وجماعات مسلحة. وعقب كل محاولة مشتركة، تتبادل الأطراف اتهامات مكتومة بالخيانة، لتبقى الحال على ما هي عليه.
منذ اندلاع هذه الحرب، التي أكملت عاماً ويزيد، والجيش يفقد يوماً بعد يوم مناطق ذات أهمية، وفي الوقت نفسه يرفض التفاوض ويتمسك بالحسم العسكري. تتصاعد المخاوف اليوم من أن يكون الحسم العسكري الذي كان بعيداً، قد صار أقرب إلى أن يكون في متناول "قوات الدعم السريع" وليس الجيش. فمع هذا التطور الجديد بالتمدد في عمق الجنوب الشرقي، يبرز سؤال مقلق: هل "قوات الدعم السريع" لا تزال قادرة على التمدد العسكري؟