رقصات ضدّ صنّاع الإبادة: هكذا تضامن "الأصليون" مع "أقاربهم" في فلسطين

تضامن هؤلاء العابر لحواجز الجغرافيا والثقافة واللغة، تكمن في كون الصراع ضد سرديّة الاستعمار قد يوازي من حيث أهميّته مختلف الأشكال الأخرى لمقاومته: "لقد تكلم شعب الأرض المتواضع: لا مكان للاستعمار على الأرض الأم! إن فلسطين الحرة تُحرِّرنا جميعاً!".
2023-12-14

شارك

"لقد تكلم شعب الأرض المتواضع؛ لا مكان للاستعمار على الأرض الأم! إن فلسطين الحرة تحررنا جميعا!”
-من كلمة “الأمة الحمراء” في تظاهرة واشنطن للتضامن مع فلسطين-

الإشارة للرقصة الشهيرة لأحد الفلسطينيين خلال الانتفاضة، بأنها ليست الدبكة الفلسطينيّة بل رقصة الحريّة لشعوب أميركا الأصليين، أدّت إلى تداولها على وسائل التواصل بإخراجات منوّعة طوال شهريْ تشرين، على أنها تجسيد لكل القضيّة. وتأكدّت الرمزيّة، إذ عاد صداها في الرقصات الفولكلورية للشعوب الأصلية تضامناً مع غزّة. لكن عملياً، قد لا تتجاوز أعداد المتضامنين من الشعوب الأصليّة في قارتيْ أميركا الشمالية وأستراليا لأعداد المتضامنين في لبنان وحده. ذلك أنّ أعداد سكان القارتين الأصليين تضاءل منذ أواخر القرن الخامس عشر من عشرات الملايين إلى عشرات الآلاف بعد مجازر الإبادة. واليوم بعد عقود، قد لا تتعدى أعدادهم في كلا القارتين 15 مليون نسمة[1]، وأغلبهم منتشرون جغرافياً، وأقليّة منهم محصورة بما تبقى من قطع أراضٍ محميّة. لكن يبقى أن قيمة تضامنهم ليست كميّة، بل أنّ تضامن هؤلاء العابر لحواجز الجغرافيا والثقافة واللغة، تكمن في كون الصراع ضد سرديّة الاستعمار قد يوازي من حيث أهميّته مختلف الأشكال الأخرى لمقاومته. وبهذا المعنى، تراهم تقدّموا إلى واجهة النضال إلى جانب اليهود المناهضين للصهيونية، ومن خلفهم منظمات مناهضة العنصرية والحركات النسويّة والبيئيّة والعماليّة وسواهم.

مقالات ذات صلة

ويُشار إلى أنه منذ العدوان على غزة عام 2014 على وجه الخصوص، تراكم التعاطف مع فلسطين من منظمات حقوق “الأصليين” وفنانيهم ومثقفيهم. ونعني بهؤلاء الوجوه البارزة من كبرى القبائل/العشائر مثل الناجافو والشيروكي (الولايات المتحدة) والكري (كندا) وشعوب المايا (أميركا الوسطى) والمابوشي (أرجنتين وتشيلي) والماوريين (نيوزيلندا ومجموعة الجزر البولينيزية بما فيها هاواي)، ومختلف القبائل والمتحدّرين الآخرين. ونستشرف من خطاباتهم أنهم ينظرون إلى مشهد فلسطين كإعادة تمثيل لتاريخهم، ويتطلعون إلى تحرير فلسطين كتحرير لهم ولتاريخهم وثقافتهم من سرديّات المستعمر، كما وتحرير ما يمكن أن يحصلّوه من حقوق بعد توقّف حروب الإبادة ضدهم. ولعل أبرز تجسيد لهذا التضامن تمثّل في “بيان تضامن الشعوب الأصلية مع فلسطين” في تاريخ 26/10/2023 والذي جاء فيه أنّه “من المفجع وغير المستغرب أن نرى القوى الاستعمارية في كندا والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وأوروبا تقف وراء هذه الإبادة الجماعية”، مع اعتبارهم أن “الدول الاستعمارية التي تسلب أراضينا وتحتلّها هي نفسها التي تدعم إسرائيل في احتلال فلسطين وتهجير أهلها”. وتجسّد التضامن في بيان مشترك آخر بعنوان “ نقف مع شعب فلسطين! نحن ندافع عن العدالة وحقوق الإنسان والحرية!”، وقعه عدد كبير جداً من حركات “ضد أنظمة الظلم التي تنظر إلى الشعوب السوداء والسمراء والسكان الأصليين على أنهم يمكن التخلص منهم، ليتمّ التضحية بهم من قبل أنظمة الاستغلال والهيمنة العنصرية والاستعمارية.”

بين 2014 و2023: الشعوب الأصليّة في الولايات المتحدة والوعي التراكمي

“اليوم نوجه ضربة مدمرة للاستعمار. باعتبارنا سكانًا أصليين في جزيرة السلحفاة (أميركا الشمالية وفق تسمية الشعوب الأصليّة)، فإننا نعلن أن إنهاء الاستعمار واستعادة الأرض هما الشكلان الوحيدان للعدالة لجرائم الاستعمار الاستيطاني!”… كان هذا مطلع خطاب الناطقة باسم تنظيم “الأمّة الحمراء” خلال تظاهرة واشنطن في  4/11/2023، التي حشدت نحو 300 ألف أميركي من أطياف مختلفة، وكان مثّل الأصليين في التظاهرة تنظيما “NDN COLLECTIVE” و”Honor The Earth”، إلى جانب “الأمة الحمراء”. علماً أن الأخير تأسس عام 2014 وقام بنشاطات توعية حول القضيّة منذ ذلك الوقت وكان جزءاً من حركة المقاطعة BDS. وفي بيان موقعه الرسمي أنّ “فلسطين هي البوصلة barometer الأخلاقيّة للسكان الأصليين في أمريكا الشمالية”. وبالعودة إلى الخطيبة في تظاهرة واشنطن، نسمعها تقول أن “السكان الأصليين يعرفون تاريخ ومستقبل الفلسطينيين لأنهم عاشُوه”. “نحن عانينا من المشروع الاستعماري الاستيطاني الذي يطلق على نفسه اسم الولايات المتحدة. وقد نجونا من محو وإزالة أسلافنا. نحن في القرن الخامس من المقاومة. ونعلم أن مستقبل فلسطين هو مستقبل مؤكّد لأننا ما زلنا هنا!” لكن تردف أن فلسطين تمثّل مساراً بديلاً لمسارهم؛ “في هذه اللحظة من تاريخنا المشترك، تقربنا فلسطين أكثر من أي وقت مضى من الوعد بتقرير المصير الحقيقي لجميع الشعوب المستعمرة في العالم. فنحقّق أحلام أجدادنا بوقوفنا مع فلسطين اليوم!”.

حول خلفيّة هؤلاء، نعود لعام 2014، فترة العدوان على غزّة، حين أشار أحد المقالات إلى أن التضامن يعمّ “البلدات الهنديّة”، وأنّ “الحاجة إلى ربط نضالاتنا وبناء المقاومة عبر الحدود تصبح أكثر وضوحا”. وقد نشطتْ مجموعات أكاديمية ل “الأصليين” مثل NAISA في التوعية على القضية، وهي منظمة نشطة في حركة مقاطعة إسرائيل.  فيما صرّحت رئيسة منظمة Idle No More movement (بدأت نشاطها في كندا في حماية “الأرض والماء والسماء”، وامتدّ نشاطها إلى دول أخرى) آنذاك، أنّه “بالنسبة للسكان الأصليين في جزيرة السلحفاة، فإن دعم النضال الفلسطيني له أهمية كبيرة. نحن نعرف معنى حرماننا من حقنا في الحياة من قبل المستعمرين الذين لم يتمكنوا من رؤية إنسانيتنا؛ أولئك الذين لم ينظروا إلى أجسادنا إلا كعائق أمام امتلاك الأرض ومواردها”. 

لكن نشر هذا الوعي لم يكن يسيراً. هذا ما نستشفّه من عدد من التقارير الصحافية التي تزامنتْ مع دعوة  عدد من جماعات الأصليين إلى تظاهرات عام 2014. حيث أشار بعض الناشطين من جماعات ناجافو (وهي أكبر قبيلة في الولايات المتحدة وفق بعض الإحصائيّات، وثاني أكبر قبيلة من الأصليين وفق إحصائيات أخرى، على اعتبار أن المكسيكيين الأصليين لا يصرحون دائماً عن جذورهم) في تكساس أن تظاهراتهم تهدف إلى توعية شعبهم حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وإلى كشف نفاق زعاماتهم (أي من زعامات ناجافو) من ذوي العلاقات المالية مع دولة إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية. ويستغرب أحد بيانات “الأمة الحمراء” (2019)، كيف أنّ عددا كبيرا من السياسيّين والنخب من “الأصليين” لا يبدون أيّ تعاطف مع الفلسطينيين. ويشير في هذا الصدد إلى تعبير Red washing –الموازي لتعبير Pinkwash، ويُقصد به استغلال صورة  الهنود الحمر لتبييض صورة إسرائيل-، كمصطلح أكاديمي لوصف كيفية تجنيد الصهاينة لشحصيّات من الأصليين للتطبيع مع المشروع الاستيطاني الإسرائيلي. ويعطي البيان أمثلة عن بعض النخب التي لم تلتزم بمقاطعة إسرائيل فقامت بزيارتها أو التطبيع معها. ويؤكّد في هذا الصدد على أهميّة الالتزام بحركة المقاطعة.

 في مقال آخر نشرته Najavo Times (جريدة أنشأها مجلس قبيلة ناجافو عام 1959) في 2018 بشأن لقاء لمنظمة “الأمّة الحمراء” للتعريف بالقضيّة الفلسطينية، نقرأ على لسان إحدى الناشطات من منظمي اللقاء في سياق شرح الدافع إليه: “يسمونها النكبة”… لكن الكلام وحده لا يشرح طبيعة ما يجري. هذا ما نستشفه من مقابلة مع ناشطة أخرى كانت آتية حديثاً من زيارة إلى فلسطين (يدعم التنظيم زيارات دوريّة لناشطيه إلى فلسطين)، تقول “لن تظن أن أي شيء بهذا السوء حتى تراه بنفسك”.  وتستمر الصحيفة بنقل قصص الذين زاروا فلسطين. وتشرح مثلاً عن تجذّر الفكاهة في ثقافة الأصلين كأسلوب للنضال، ناقلةً عن إحدى النشاطات كيفية معالجة نفسها من “التروما” جراء زيارتها لفلسطين، من خلال صفحة لها على وسائل التواصل الاجتماعي تنشر فيها صوراً كاريكاتورية “memes”. تعمل من خلالها على بناء الجسور بين الشعوب الأصلية، لا داخل الولايات المتحدة فحسب بل عبر العالم كله. تقول الناشطة حول عملها هذا أنّ “ما جذبني إليه هو حقيقة أنه مدخل للحديث عن التروما”، وأضافت أنه “مدخل للحديث عن السياسة. ومدخل للحديث عن مدى فشل حكوماتنا.” 

ومؤخراً، خلال العدوان الأخير على غزة، بدأ ناشطون من “ناجافو” ومن أمم أصلية أخرى، يطالبون زعماءهم بدعم فلسطين. وبدأت كل من المنظمات الآنفة الذكر تعمل رغم الضغوطات والبروباغندا والتعمية الإعلامية، فأغرقت كل من ” NDN COLLECTIVE ” و”الأمة الحمراء” البريد الإلكتروني لممثلي “ناجافو”، برسائل كي يدعوا إلى وقف إطلاق النار.  وأطلقت ” NDN COLLECTIVE ” بياناً، جاء فيه: “إنّنا نشعر بالرعب والغضب والحزن إزاء حقيقة فقدان أرواح الإسرائيليين والفلسطينيين بهذه السرعة وبهذه القوة. إننا ندين العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني، بما في ذلك 2.3 مليون في غزة الذين يعيشون تحت الحصار الإسرائيلي منذ 16 عامًا”. فيما أطلقت “Honor The Earth“، بياناً جاء فيه: “باعتبارنا من السكان الأصليين، فإننا ندرك أن الأمن والحرية الحقيقيين لا يمكن تحقيقهما إلا من خلال إنهاء الاستعمار”. وانتقدت المنظمة تغطية الإعلام الغربي للأحداث. أمّا “الأمة الحمراء” فأطلقت بياناً أشدّ لهجة في 13 تشرين الأول. كما شاركت التنظيمات الثلاث بالعريضة التضامنيّة الأوسع للشعوب الأصلية بتاريخ 2/11/2023 (المذكورة في مقدمة هذا النص). أمّا الملفت رمزيّاً فمشاركة تنظيم “الأمّة الحمراء” في توقيع عريضة أخرى تحت عنوان “بيان غزة“، إلى جانب عدد من التنظيمات من أفريقيا الجنوبية، ومنظمات تدافع عن حقوق السود في الولايات المتحدة وبريطانيا، وعدد كبير جداً من المنظمات النسويّة والعمالية والأحزاب اليسارية من دول مختلفة (لائحة الموقعين طويلة). وقد عبّرت هذه العريضة عن أنّ المشروع الصهيوني الاستعماري المبني على أرض مسروقة، يستدام بالإقصاء والاستغلال والإبادة الممنهجة للشعب الفلسطيني.

لكن، بالنسبة لبعض الناشطين، فإن علاقاتهم بفلسطين تعدّت حدود التضامن أو الصداقات، وأصبحوا يعتبرونهم أقارب. من يستمع مثلاً لأحد اللقاءات التي جمعت أعضاء من “الأمة الحمراء” وهم يتحدثون من مناطق متباعدة للتعليق حول الحراك التضامني مع فلسطين، سيلحظ بأن تبنيهم للقضيّة ليس مجرّد شعار بل انخراط كلّي ذهنيا وعاطفيا. نكتفي بالإشارة إلى تعليقيْن:

الأوّل أتى ردّا على إعراب بعض أفراد المجموعة عن حزنهم على أشخاص قتلوا أو فقدوا الاتّصال بهم من جراء القصف وقد رمى إلى تنبيههم أنه لا يجب الاكتفاء بالرثاء عملا بتقاليدهم القبلية:  “أتحدث من وجهة نظر شخص من قبيلة Najavo Dine، في وقت الموت والحزن (grief) يكون لدينا أربعة أيام بعد أن يتوفى شخص ما، لكن إذا لم تكن قريباً مباشراً للشخص المتوفي، هنا يأتي دور النظام العائلي لقبيلتنا. إذا كنت من قبيلة مختلفة أو لست فرداً من العائلة فإنّ دورك هو المساعدة، لأن أفراد العائلة المباشرون لا يستطيعون أن يحفروا (القبور) أو يلمسوا الدماء ولا يستطيعون أن يخرجوا ليلاً، هناك بعض الأمور التي لا يستطيعون القيام بها، لذا يعتمدون على الأقارب خلال هذا الوقت”. وتابع “عندما أرى أقاربي يموتون (يقصد الفلسطينيين) والأعداد في تصاعد كل يوم، الأمر منهك ولكن لا بدّ أن نتذكر أيضاً أنه ليس دورنا نحن أن نحزن (grief)، وليس دورنا أن ننكسر إنما أن نستمر في الانتظام وفي إخبار الناس حول ما يجري في غزة وفي إعلاء الصوت، هذه أدوارنا وهذا ما يطلبه منا الفلسطينيون اليوم”.

أما التعليق الثاني فقد صدر عن ناشطة أخرى تحدثت فيه عن التثقيف الذي تلقته في التنظيم حول القضية الفلسطينية، والتشابهات التي لحظتها بين هذه القضية وقضيّة شعبها. وهي تقول أن عائلتها لم تبدِ بادئ الأمر اهتماماً بالحديث عن القضية لكنهم أصبحوا اليوم يحفّزون أقرباءهم على مناصرة فلسطين. وتروي الفتاة كيف أصبح والدها يتابع الأخبار بشكل دوري، فيشاهد ال “سي ان ان” وال”ام اس ان بي سي”، ويبدأ يعلّق على الأخبار الكاذبة ويصححها. ثم تروي عن والدتها التي رفضت عرض من الشركة التي تعمل فيها  بالذهاب في رحلة للحجّ إلى إسرائيل بحجة أنّ المنطقة التي يدعون  لزيارتها هي بالحقيقة فلسطين وليس إسرائيل. وقد كلف هذا التعليق والدتها متاعب وخسرت أصدقاء  لكن موقفها كان أنها لن تكون صديقة لأي كان يدعم مجازر الإبادة. وتنقل قولها لهم “لذا باي!” (تضحك).  

من جهة أخرى، برزت أشكال تضامن متعددة، أكثرها شهرةً الرقصات الفولكلوريّة خلال التظاهرات، أهمها التظاهرات التي شهدتها كاليفورنيا (وهي بالمناسبة الولاية التي يتواجد فيها أكبر عدد من “الأصليين”). وانتشرت إحدى الرقصات للأصليين في مينيابوليس، وانتشر عرض آخر للأصليين في ماساتشوستس، ولوس أنجلس، وكذلك في تكساس. كما كانت هناك أشكال أخرى كالالتزام بحركة المقاطعة، وكالمشهد المنتشر لمحاولة السكان الأصليين تعطيل انطلاق إحدى السفن التي تشحن أسلحة إلى إسرائيل من ميناء تاكوما-واشنطن.

https://legal-agenda.com/wp-content/uploads/2023/12/DC-Nov-4-Red-Nation-with-Palestine-678x452-1.jpg
صورة لJoe Piette عن موقع  workers.org  لإحدى يافطات “الأمة الحمراء” خلال إحدى التظاهرات في 4 تشرين الثاني

الشعوب الأصليّة في كندا

الشعوب الأصليّة في كندا من الناحية الديمغرافية تبدو أكثر انتشارا على الأراضي الكنديّة منها في الولايات المتحدة. وتوجد فوارق مهمّة بينهما لناحية الجغرافيا والتاريخ كما توضح الأستاذة المساعدة في علم الاجتماع ميغان سكرايب من قبيلة الCree (أكبر القبائل الأصلية في كندا)، لكن تضيف في مقابلة صحافية أن “الشعوب الأصلية في السياق الكندي تشترك في تجربة تجريدها من أراضي أجدادها، وتشترك في تجربة النزوح.” وهي تضيف أن تضامن “الأصليين” مع الفلسطينيين ينبع من تجربتهم مع الاستعمار الاستيطاني، وإن اختلف مشروعا الاستعمار في كندا وفلسطين في بعض النواحي الشكلية: “أعتقد أن كندا اعتمدت أكثر على التشريعات، بينما في إسرائيل نرى وجودًا عسكريًا قويًا”. كما تلفت سكرايب إلى التشابه في أشكال السيطرة المكانية مثلاً لناحية الفصل العنصري. ولا بد من الإشارة، إلى إحدى ممارسات العنف الاستعماري التي استمرت في كندا حتى ستينيّات القرن الماضي، والذي تمثل في فصل الأطفال عن عائلاتهم من السكان الأصليين وإيداعهم في مدارس داخلية تتبع لسلطة الكنيسة وتعتمد نظام المؤسسات الرعائية. وكانت أشارت المستشارة الدولية في حماية الطفل زينة علوش، إلى التحرش والعنف الذي تعرض له هؤلاء الأطفال، والذين وصلت وفياتهم إلى 40%، فيما بقيت الإنتهاكات بحقهم قيد الكتمان حتى عام 1990. ولعلّ ممارسة إسرائيل تختلف لناحية قيامها باعتقال أعداد كبيرة من المراهقين وتعنيفهم في السجون، أو القتل المباشر في المداهمات وعمليات القصف الجوي.

ونلحظ خلال بحثنا في بعض تقارير السنوات الفائتة، كيف أن ناشطين من فلسطين وجهوا رسائل تضامنيّة مع “الأصليين” خلال أنشطتهم لحماية الأراضي. ومثلاً، يسرد موقع ” kairos response” التابع للشبكة المسيحيّة العالميّة Kairos، سلسلة من الأنشطة التضامنية للفلسطينيين مع الأصليين في كندا، ويقول أنّ “أجيالا عديدة من الشعوب المهمشة والمضطهدة في جميع أنحاء العالم أدركت أن نضالاتها مرتبطة ببعضها البعض”. ويوضح الموقع أنه “في السنوات الأخيرة، أدت التكنولوجيا الحديثة، كما الفهم المتزايد للمقاربة التقاطعية لتغيير المجتمع (intersectional approach to transforming society)، إلى توسيع الفرص المتاحة في حراك العدالة، بما في ذلك التضامن بين السكان الأصليين.” ويردّ الأصليون على التضامن الفلسطيني مع قضيتهم بالمثل. فمثلاً تنقل صفحة “ Independent Jewish Voices Canada” أحد الأنشطة عام 2021، لناشطين من قبيلة ال Mohawk (الشهيرين بتسريحة شعرهم المنتصب دائرياً على خط من منتصف الجبهة إلى أسفل الرقبة)، هو عبارة عن اعتصام ضد أعمال الإنشاء التي تتم في أراضيهم من دون أخذ موافقتهم. وقد توزّع المعتصمون رافعين علم فلسطين مختصرين بدلالاته ما أرادوا التعبير عنه. واليوم تناصر بعض المنظمات في كندا فلسطين مثل “الأمة الحمراء”، و” Idle No More” و Indigenous Climate Action وقد أصدرت الأخيرة بياناً عبرت فيه عن تضامنها مع “أقاربنا الفلسطينيين الذين يعانون من الفصل العنصري من قبل دولة الاستعمار الاستيطاني”.

كما بات الكثير من الناشطين والفنانين والمثقفين الأصليين في كندا يتبيّنون هذا الرابط مع الفلسطينيين. وكان من أبرز من وقّع من كندا على عريضة “بيان تضامن الشعوب الأصلية مع فلسطين” في 26/10/2023، الكاتبة والموسيقية الشهيرة ليان سيمبسون من ال Nishnaabeg ، والباحثة غلين كولتارد من ال Yellowknives Dene First Nation ، والأكاديمية إيفا جيويل من ال Anishinaabe. وخلال إحدى الندوات حول “الصمود في وجه الاستعمار” (Surviving colonialism) بمناسبة مهرجان الأدب الفلسطيني في أيّار 2023، قرأت سيمبسون مقتطفات من أعمالها مشيرةً إلى أن “نزع الملكية باسم الرأسمالية لا يحدث عشوائيًا؛ بل هو نظام محسوب مصمم لإزالة السكان الأصليين من الأرض”. لكن يبقى أنّ أكثر ما انتشر من أشكال تضامن الأصليين مع فلسطين، كانت الرقصة الفولكلورية لفتيات وشبان من الأصليين بثيابهم ذات الألوان الزاهية في طليعة التظاهرات في كندا. وقد  تناقلت وسائل التواصل لقطات عدة لهؤلاء في مناسبات عدّة. كما عبّرت فرقة The Bearhead Sisters الغنائيّة (ثلاث فتيات من “الأصليين”) عن تضامنها خلال إحدى مباريات “الهوكي”، فأنشدت النشيد الوطني الكندي بلغة ستوني ناكودا، وهن يرتدين الكوفية الفلسطينية أمام 10 آلاف من الجماهير. 

https://legal-agenda.com/wp-content/uploads/2023/12/flags-1024x661.jpg
صورة من عام 2014 عن موقع rabble.ca ، علم الموهاوك في تظاهرة حشدت الآلاف في تورونتو كجزء من يوم عالمي للتضامن مع غزة.

في نيوزلندا: يرقصون الهاكا ويعيقون سفن شحن السلاح

يمكن تعريف البولينيزيين [2] على أنهم أكثر الشعوب إثارةً لاهتمام الأنتربوليجيين لناحية علاقتهم بالبحر. إذ طوروا قبل ألف عام تقنيات في الإبحار مكّنتهم من قطع مسافات شاسعة لم يسبقهم إليها أحد. وبدأت انطلاقتهم من تايوان  قبل 6000 عام وفق ما تشير إليه بعض الأوراق البحثية، وبدأوا في التوسّع ووصلوا إلى الجزر الشرقية قبل ألف عام، ليستعمروا جزراً غنيّة كانت عن حق بلا سكّان، وهي تتوزّع على مثلّث بحري أكبر من أي بلد في العالم في المحيط الهادئ. ولا زال الباحثون يتساءلون عن كيفيّة انتقالهم تاريخياً، من تايوان إلى جزيرة ساماوا موطنهم الأوّل فإلى خط نيوزيلندا ورابانويا جنوباً وهاواي شمالاً. وكان لديهم احتكاك مع أميركا الجنوبية على الأقل قبل 800 عام (أي قبل رحلة كولومبس). ويعد الماوري في نيوزيلندا أكبر شريحة من المتحدرين من البولينيزيين (لا تتجاوز أعدادهم المليون). وقد عبّر ممثلون عنهم من أفراد ومنظمات عن تضامنهم مع فلسطين، انطلاقاً من تشابه تاريخ المعاناة مع الاستعمار.

فكما فعل مستعمرو أميركا، أسّس الاستعمار على مدى قرون لتبريرات الإبادة والاقتطاع المستمر للأراضي، بناء على توليفة سرديتيْ الدعوة الدينيّة و”العلوم” اللتين تفترضان التفوق العرقي البيولوجي والحضري للأوروبيين. واستحضرت نظريات من قبيل أن البولينيزيين هم “تقريباً بيض”، أو محاولة تطوّر غير مكتملة للترقي إلى العرق الأبيض  ورأى آخرون أنهم من الآريين واعتبرهم آخرون من القوقاز، وعليه، فللبيض حقّ باستعمار الأرض لأنها تتبع لعرقهم. ولدى المراجعة في تاريخ مقاومة الماوريين في نيوزلندا، لا يمكن إغفال تشابه أنماط الاستعمار في حالة فلسطين. مثلاً لناحية نكث الوعود والاتفاقيات ذات التفسير المزدوج. فقبل وعد بلفور (1917)، وُقعت اتفاقية وايتانغي (1840) بين الموري (Tūhoe) والتاج الملكي البريطاني، ونصت في إصدارها الإنكليزي على تسليم الماوريين السلطة كاملة للبريطانيين والتخلي عن أراضيهم وثرواتهم، بينما نصت بلغة الماوري بحكم الإنكليز على المستوطنين فقط، وتعود الأراضي وثرواتها للماوريين. أدى ذلك إلى نزاع مستدام وتهجير 5\6 من الماوريين وهم يشكلون اليوم 17.3% من السكان، ولم يبق لهم سوى 8% من الأراضي عام 1920، ونحو 5% اليوم، إن استطاعوا استرداد بعضها من خلال حركة المقاومة. فيما لا زالت الفروقات الطبقية كبيرة بينهم وبين المتحدرين من الأوروبيين. 

واليوم، تجلّى تضامن “الأصليين” في نيوزلندا في عريضة تضامنية دعت لفرض عقوبات على إسرائيل وطرد سفيرها والاعتراف بدولة فلسطين وقد جمعت ما يناهز 5 آلاف توقيع. كما شاركت بعض تنظيمات “الأصليين” مثل Aotearoa Maori في التوقيع على عريضة  “ نقف مع شعب فلسطين!”. فيما كان الماوريون ضمن فئات منوّعة من فنانين ومثقفين قاموا بالتوقيع على عريضة تدعو لوقف إطلاق النار، ختمت بعبارة ” من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرة”. وعبّر أطبّاء وأكادميون وطلاب من الماوري عن تضامنهم في عريضة أخرى. كما شارك الماوريون في التظاهرات التضامنية في نيوزلندا، وأرسلوا في مناسبات عدة تحياتهم من خلال رقصة الهاكا الشهيرة وهم يحملون أعلام فلسطين. ومن أشكال التضامن الأخرى في نيوزلندا، إعاقة سفينة تحمل السلاح إلى إسرائيل في ميناء أوكلاند[3].

https://legal-agenda.com/wp-content/uploads/2023/12/800px-Pacific_Culture_Areas.jpg
موقع Wikimedia Commons- خريطة التقسيم الثقافي لأوقيانيا على ثلاثة أقاليم

أستراليا: الصراع ضد العنصرية يجب أن يتخطى الحدود الوطنية

أمّا واقع السكّان الأصليّون في أستراليا مع الاستعمار فلم يكن أقلّ سوءاً. فبسبب لون بشرتهم الأسود، صنفهم الاستعمار الأوروبي في مرتبة أدنى من البولينيزيين حتى أن تقسيم الخرائط اليوم ما ببن إقليم بولينيزيا وميكرونيزيا وميلونيزيا هو قائم على تقسيم عرقي لا سياسي أو جغرافي، وكلمة ميلنوزيا نفسها تشير لغوياً إلى اللون الأسود. وكان الأنثروبولوجيون قديماً هم الأداة الاستعمارية لإعادة إنتاج هذه السرديات، فكانوا يستخدمون أدوات لتحديد قياسات الوجه والجسد، ويجمعون أنماط عن لون البشرة وشكل العيون، ويطلقون نظريات يحددون من خلالها من هم أكثر أو أقل رقياً كعرق، نسبة لقرب أو بعد أوصافهم عن الأوروبيين البيض. وكانوا يعتبرون المتحدّرون من نسل مشترك مع “البيض”، من البولينيزيين أكثر تأقلماً مع الحضارة، وأقل منهم المتحدّرون من نسل مشترك مع الأستراليين “السود”، وهؤلاء بالتالي أرقى من الأستراليين الأصليين غير مختلطي النسل، ويمكن أن يترقوا من خلال التزاوج مع العرق الأبيض.

فيما لا زالت الأبحاث قائمة اليوم حول تاريخ المجازر العرقية التي بقي جزء منها طي الكتمان، وقد نجت 150 من أصل 350 إلى 750 من القبائل الأسترالية (آخر المجازر وقعت عام 1920). وحتى استفتاء عام 1967، كان “الأصليون“ ملكية حكومية. كانوا مجردين من الحق في اختيار شريك الزواج، وتحمل المسؤولية القانونية عن أطفالهم، والتنقل في أنحاء الدولة، والاختلاط مع الأستراليين من غير السكان الأصليين. ما يتماهى ووضع الفلسطينيين اليوم وفق مقال للدكتورة Vacy Vlazna ، تقول ” أصدرت إسرائيل قوانين عنصرية تفرض قيودا مشددة على الحركة تؤدي إلى تقسيم الأسر، ومنع لم شمل الأسرة، وعرقلة زواج الأزواج القادمين من مناطق مختلفة. وما لا يقل عن ثلث سكان غزة لديهم أقارب في إسرائيل والضفة الغربية”. كما تشرح الدكتورة Vlazna  كيف اتخذ كل من المستعمرين الإسرائيليين والبريطانيين مبدأ “الأرض الفارغة” من السكان (Terra Nullius) لتبرير احتلالهم الوحشي وسرقة الأراضي بالجملة لفلسطين وأستراليا.

فيما يلقي وثائقي “يوتوبيا” (2013) الضوء على “معسكرات الاعتقال” (concentration camps) ، حيث يعيش الأصليون بعيداً عن وسائل التنقّل والتواصل وخدمات الماء والكهرباء وفي أسوأ الظروف الصحيّة والمعيشية. ولازال النقاش دائرا أيضاً في المقالات الصحفية والأبحاث الأكادميّة حول ما إذا كانت تسمية “مجازر الإبادة” تنطبق على أسلوب التعاطي مع الأصليين في أستراليا، رغم توقّف القتل الجسدي وتراجع سياسات نزع الأطفال من عائلاتهم (انتهت هذه السياسة في السبعينيات). وقارنت تقارير وأبحاث عدة بين المجازر الحاصلة في أستراليا وفي فلسطين. ففيما انخفض عدد ” الأصليين” في أستراليا من حوالي مليون إلى 0.1 مليون في القرن الأول بعد الغزو عام 1788. فقد أسفرتْ الإبادة الجماعية الفلسطينية وفقاً لورقة بحثية للدكتور Gideon Polya عن قتل نحو مليوني فلسطيني منذ عام 1936، و8 ملايين لاجئ فلسطيني، وبقي نحو 5 ملايين بين معسكر الاعتقال في غزة و”غيتو” الضفة الغربية.

وتشير ورقة بحثيّة أخرى، إلى أن التضامن بين “الأصليين” في أستراليا والفلسطينيين بدأ أواخر السبعينيات مع مهاجرين فلسطينيين. لكن ازداد التعاون منذ بضعة أعوام. وفي تشرين الأول 2021، كان السكان الأصليون وسكان جزر مضيق توريس من بين ما يقرب من 80 منظمة و440 فردًا وقعوا على بيان صادر عن المركز الأسترالي للعدالة الدولية، أدان محاولة إسرائيل الأخيرة لتجريم ستّ منظمات فلسطينية لحقوق الإنسان. وبدأ الحراك يجد منصات جديدة لتجاوز التعتيم والرقابة. وفي آب الماضي، حثت السيناتور الأسترالية من السكان الأصليين ليديا ثورب، الحكومة الأسترالية على الاعتراف بسيادة دولة فلسطين على الأراضي التي احتلتها إسرائيل بشكل غير قانوني منذ عام 1967. ولفتت ثورب إلى أنه خلال عام 2022، استشهد أكثر من 170 فلسطينيا، بينهم 53 طفلا، نتيجة الجرائم الإسرائيلية، وأضافت أنه “منذ بداية عام 2023، أردي 160 شخصا، بينهم 35 طفلا”. وأردفت “نحن نعرف هذا الحزن والأسى والغضب. فهو يربط “الشعب الأول” (أو الأصليين) والفلسطينيين معًا، ونحن نتشارك تاريخًا وواقعًا من محاولات الإبادة الجماعية ولم نختبر بعد التحرر في تقرير المصير والحكم والسيادة”. وتابعت ” نحن نعرف عن الفصل العنصري. ونحن نعرف أننا مشغولون بقوة غير قادرة على التعرف على الحقيقة”.

بعد العدوان على غزة، انتقد كثيرون ازدواجية معايير الحكومة الأسترالية في دعمها لإسرائيل، واصفين معاملة السكان الأصليين الأستراليين بأنها أقرب إلى اضطهاد إسرائيل للفلسطينيين. وقد شارك الأصليون في التظاهرات التضامنية في أستراليا، منذ 9 تشرين الأول، ورفع فيها علم “الأصليين” إلى جانب العلم الفلسطيني. وشاركت منظمة Warriors of the Aboriginal Resistance – WAR في تنظيم تظاهرات داعمة “التضامن بين الفلسطينيين والسود”. فيما أشار أحد المقالات في 1 تشرين الثاني ل Jordan Humphreys، إلى أـنه بالنسبة لليساريين في أستراليا، “يعد دعم حقوق السكان الأصليين أمرًا بديهيًا تقريبًا”، لكن يردف “الرعب من العنصرية التي يواجهها السكان الأصليون في أستراليا لا ينبغي أن يتوقف عند حدود الوطن”. معتبراً أن هذا ما أصبح معترفاً فيه على نحو متزايد، “وينعكس في حضور الآلاف من مناهضي العنصرية الاحتجاجات ضد الحرب، فضلاً عن العديد من أشكال التعبير عن التضامن على وسائل التواصل الاجتماعي التي تربط نضال السكان الأصليين والفلسطينيين”.

https://legal-agenda.com/wp-content/uploads/2023/12/7920c09b54431ab0ad05d8575cd02a1f.jpg
استسلام ملك مملكة الزولو للبريطانيين في نهاية حرب الأنجلو-زولو، 1879. من تاريخ إنجلترا لكاسيل، 1900

بويرتو ريكو… بعيداً عن الصورة النمطية

بويرتو ريكو بعيدة عنا جغرافياً، لكن إعلامياً أيضاً. و يسعى البورتيركيون بالوسائل البسيطة إلى توصيل تاريخ نضالهم ومعاناتهم للعالم، بدلاً من الصورة النمطية بشأن هذا البلد. فقد توهمنا مخيّلة “هوليوود” أنها مجرّد مكان لتوريد عاملات المنازل، أو نعتقد أنها بلد أغنية “ديسباسيتو” فحسب. لكن بويرتو ريكو لا تحظى بحقوقها الإقتصاديّة وحق التمثيل السياسي ولا بالحريات الثقافيّة. فكما يحظر العلم الفلسطيني في العديد من الدول ذات الحكومات الداعمة لإسرائيل، كذلك يحظر رفع العلم البويرتوريكي على أراضيهم. ويسعى البعض إلى كسر الصورة النمطيّة من خلال فيديو ساخر “أو “بودكاست” ما تتحدث عن سبب عدم منح الجزيرة استقلالها عن الولايات المتحدة منذ أكثر من مئة عام أو تعالج فكرة العنصريّة إزاءهم، وكيف أنه عام بعد عام يتم وعدهم بالحصول على الاستقلال والمواطنة (statehood) من دون تحقيق هذا الوعد.

ويمكن أن تجد أيضاً أوراقا بحثيّة تفند أوجه الشبه بين قضيّة بويرتو ريكو وقضيّة فلسطين. ويشير أحد الكتب في هذا الصدد، إلى أن التضامن البورتوريكي مع فلسطين لم يظهر كرؤى عالمية للتحرر فحسب، بل أيضًا من خلال طرق تحديد الهوية، في مواجهة أنظمة القمع للمجتمعات البورتوريكية والأمريكية العربية في شيكاغو منذ السبعينيات. وانخراط بورتو ريكو في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أتى في ظل تراجع الحراك اليساري بعد الانسحاب من فييتنام، لكن هذا التضامن أتاح لحكومات الولايات المتحدة تبرير زيادة المراقبة والشرطة ضد الراديكاليين البورتوريكيين من خلال تشبيههم بالمقاومة الفلسطينية.

وتتمثّل بويرتو ريكو اليوم بمفوّض ولا يحق لها التصويت على نائب يمثلها في الكونغرس الأميركي، على الرغم من أنه يجب أن تحظى ب4 من النواب نسبة لعدد سكانها واثنين من مجلس الشيوخ. لكن تلعب اليوم كل من النائبة نيديا فلاسكيز (من أصل بويرتوريكي) والنائبة ألكسندريا كورتز (والدتها من بويرتو ريكو) أدواراً في الدفاع عن حقوق بويرتو ريكو. وكانت النائبتان من بين قلّة من النوّاب التي وقعت على طلب وقف الحرب على غزّة المقدّم من النائبة كوري بوش. وكان بديهياً أن تشهد بويرتو ريكو مؤخراً تظاهرات مؤيّدة لفلسطين، بعضها حمل شعار “البطيخ”، وردد المتظاهرون شعار “الإحتلال جريمة“، وشعارات “إسرائيل فاشية إرهابية” و”تحيا فلسطين”. حتى أنّ أحد المتظاهرين في 4/11/2023 قام بنزع العلم الأميركي عن إحدى الساريات وعلّق مكانه العلم الفلسطيني. وآخرون عبروا عن تضامنهم من خلال رسم الأعلام الفلسطينية على الجدران. وكان التضامن أيضاً على وسائل التواصل الإجتماعي من خلال تعليقات تضامنية. واعتبرت الصحافية البورتوريكية Bianca Graulau، أن موضوع أوجه الشبه بين غزة وبورتو ريكو لا ينبغي أن يكون أمراً جدلياً، وأردفت “لا أحاول أن أقول إن محنة شعب بورتو ريكو تساوي محنة الشعب الفلسطيني. لم نضطر أبدًا إلى المرور بالأهوال التي يمر بها الشعب الفلسطيني اليوم.” لكن تضيف أنه فيما تقابل دعوة الفلسطينيين للاستقلال بانتهاكات وحشية لحقوق الإنسان، فإن بورتو ريكو تواجه التمييز، والتهجير، والاستغلال الاقتصادي، وسلطة سياسية محدودة، وأن العدو المشترك للاثنين هو الاستعمار الاستيطاني.

https://legal-agenda.com/wp-content/uploads/2023/12/397992312_732833838871747_835923150969550065_n-scaled.jpg
رسومات تضامنية على الجدران في بويرتو ريكو- الصورة مأخزذة عن مواقع التواصل الاجتماعي  

شعوب أصلية أخرى عبرت عن تضامنها

يوجد شعوب أصليّة أخرى عبرت عن تضامنها، لم يسعنا تسليط الضوء عليها في هذه المقالة مثل “الأصليين” في جزر هاواي والهونولولو المتحدرين من البوليونيزيين، والخاضعين لسلطة الولايات المتحدة. كما يوجد تاريخ طويل من النضال المشترك بين حركة زاباتيستا للشعوب الأصلية في المكسيك والمقاومة الفلسطينية. كما أنّ الشعوب الأصليّة في أميركا الجنوبية هم أصلاً أقرب ثقافياً من القضية الفلسطينية من شعوب أخرى، نظراً للجالية العربية الكبيرة والاندماج الثقافي بين العرب والأميركيين الجنوبيين في معظم دول أميركا الجنوبية، ونظراً لاعتلاء الأحزاب اليسارية سدّة الحكم في معظم هذه الدول، والتي كانت أوّل من اتخذ مواقف متقدمة في قطع العلاقات أو سحب سفرائها من إسرائيل والمطالبة بوقف العدوان واتخاذ إجراءات عقابية بحقها.

______________________

[1]  حتى عام 2021، نحو 6.6 مليون في الولايات المتحدة يعرفون أنفسهم أنهم من السكان الأصليين، أو من خليط بين إثنية أخرى مع السكان الأصلين، ويشكلون 2% من مجمل السكان. ونحو 1.8 مليون تصل نسبتهم إلى 5% من الشعب الكندي. وأقل من مليون يشكلون 3.8% من الشعب الأسترالي. ونحو 4.7 مليون في نيوزيلندا، أي أنّ 16.5% من مواطنيها.
بينما تتراوح نسبة الأصليين في أميركا اللاتينية بين 41.8 مليوناً و53.4 مليوناً، وفقاً لأحد الإحصاءات.

[2] بولينيزيا في اليونانية تعني الجزر العديدة

[3]  الأمر نفسه الذي حصل في أوكلاند– كاليفورنيا، وكذلك في  تاكوما–واشنطن، فيما فأصدرت نقابات لعمال النقل في كل من إيطاليا واليونان وتركيا بيانا مشتركا يدعوا حكوماتهم لإيقاف نقل المساعدات والسلاح إلى إسرائيل وأعلنوا امتناعهم عن نقل الذخيرة والسلاح. واتخذت اتحادات النقل في بلجيكا خطوة مماثلة، كذلك فعل عمال مرفأ برشلونا. ودعت نقابات في إيرلندا وبريطانيا وكندا وبولندا لخطوات مماثلة. إضافة إلى اتحادات من دول عدة كاليابان والهند والبرازيل

مقالات من فلسطين

رحلة البحث عن رغيف

كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى...

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...