ترنيمة إلى غزة

ضربةُ الفلسطيني، هذه النار التي أحرقت الميركافا وأكلتْ أديم الأرض المسروقةِ في كوابيس قادة إسرائيل، هي مقاومةُ جرافات الحربِ والتاريخ معا.
2023-10-14

نبيل صالح

كاتب وشاعر ومصوّر فوتوغرافي من العراق


شارك
عفيفة لعيبي - العراق

استقيموا واستووا، سيروا لهُنيهةٍ في جنازتنا، اخطوا برفقٍ كي لا يَفزع الرُضّع.

رأيتهُم يُقتَلون على شاشة التلفاز. رأيتهُم في عراقٍ مُحاصَر. كُنتُ صغيراً مثلهم. وكانت أُمي معي وناحت أُمهاتهم في الشمس. كبرتُ وظَلوا هم صغاراً. واليوم تُرصفُ توابيتٌ أخرى، تُسجنُ أصواتهم في أقبيةٍ من صمت. أتسمعُ؟ صرخاتٌ مُصادرةٌ في مماتٍ لا تنيرُ ديجورهُ إلا نارُ القنابل.

"حتى الموتى لن يسلموا من العدو إذا انتصر" (1).

ضربةُ الفلسطيني، هذه النار التي أحرقت الميركافا وأكلت أديم الأرض المسروقةِ في كوابيس قادة إسرائيل، هي مقاومةُ جرافاتِ الحربِ والتاريخ معاً. بينما تُردمُ أحْيَاء فوقَ أحياءٍ اُهيلت فوقهم\ن أكوامٌ من الفسفور الأبيض، تتشظى أبجدياتُ فلسطين، وتُمحى أسماؤها من سردياتِ شمالٍ عليمٍ في نهب التاريخ (2).

إذاً، الوقوف مع فلسطين اليوم لا يعني تمني النصر لضحايا العدوان فحسب، بل كما كتب تشي جيفارا عن فيتنام في خطابٍ من الكونغو إلى مؤتمر القارات الثلاث في هافانا، هو أن نشاركهم\ن قدرهم\ن حتى النصر أو الممات (3). بمعنى آخر، أن نحرص على ألا تخفُتَ الشرارة في الليل الطويل، ألا تعجزَ الكلمة على عتبةِ الكلام، ألا تُلقَّن كلمةُ الأبيضِ إنجيلاً، وألا تُطمرَ المسألةُ تحت صمتِ الخونة. ولهؤلاء كلمة.

قُبيل انتحاره هرباً من جحافل النازية، كتب فالتر بنيامين أن "سيرة المقهورين تُعلِّمنا أن حالة الطوارئ التي نعيش هي القاعدة لا الاستثناء" (4).  لكن لصوصاً في بلدي، ألسنةٌ لا تنطقُ إلا بلغةِ الباطلِ والزور، وكم من ربيب نظامٍ ولِدَ في بغداد لِمُعتدٍ ونُحِرَ على مذبحهِ مئاتُ الفلسطينيين العُزل، يُلوِّح بالردِ والوعيد. ولكأن الفاشية بدأت تُعربدُ في الضفة للتو!

نحنُ لسنا شُهوداً على سرقة الأرض والتاريخ فحسب، هُناك من يُحرِّم النضال في الغرب وهناك من يُصادره في خرائب مدننا أيضاً.

إلى أبجديةٍ جديدةٍ إذاً، تُلقِّننا اياها فلسطين، وإلى فلسطين قصيدة:

في صمت الدقيقة الأولى
بعد آخر غارة
قطةٌ شاردة...ٌ ضاعتْ
تطوفُ في وسط الخراب
حيثُ يد...ٌ
ألِفُ قسمٍ لم يُتم:ْ
"إسا يابا ن..."
نونٌ ترزحُ تحت أطنان الركام
فمٌ مُطبقٌ في ردهةٍ ملأى بالبياض
يدٌ تقبضُ على الرفش
يدٌ تضربُ على الخدينِ تباعاً
يدٌ تشيرُ إلى الخواء:
"كُل اللي في البيت"
لا بيت
"الحمد لله"
قطةٌ تعبرُ في الظلال
حيثُ جديلةٌ وشريطٌ أبيض
وصبيةٌ لَنْ تلعب

______________________

1-
-Walter Benjamin, Harry Zohn, and Hannah Arendt, Illuminations: Essays and  Reflections (Boston ; New York: Mariner Books, Houghton Mifflin Harcourt, 2019), pp 199
2- أكتبُ وفي البال قصيدة "نهر الصراخ المكتوم والهمس والدهشة" لسركون بولص من ديوانه الأخير "عَظمة أخرى لكلب القبيلة" الصادر عن منشورات دار الجمل (كولونيا- بغداد) 2008، كما سنان أنطون الذي استحضر مراراً في كتاباته جرافات التاريخ التي كتب عنها الراحل محمود درويش.
3-
- Prashad, Vijay. The Darker Nations : a People’s History of the Third World (New York: New Press, 2007), pp 108
4- .Benjamin, Zohn, and Arendt, Illuminations, pp 200

مقالات من فلسطين

رحلة البحث عن رغيف

كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى...

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

للكاتب نفسه

أنْ تُصلَب البصرة بعد السيّاب

نبيل صالح 2024-04-07

كل الطرق في العراق تأخذك إلى المقابر، وأولها دروب الذاكرة، تلك التي تطوفها الأشباح. أين يقفُ الموتى بيُتْمٍ على رصيفٍ مكسور، ينتظرن\ون من يدلهن\م إلى باب من كانوا "هناك" قبل...