وليد دقة، أسير فلسطيني من قرية باقة «الغربية»، في الداخل الفلسطيني المحتل، قضى في السجن 37 عامًا حتى الآن وكان من المفترض أن يكون 24 آذار 2023 موعده مع الحرية (حيث دخل عامه الثامن والثلاثين)، لكن حكومة الاحتلال الإسرائيلية أضافت سنتين إضافيتين إلى حكمه عام 2018، وأصبحت هاتان السنتان الإضافيتان مصيريتين جدًا لحياته بسبب تشخيصه بمرض السرطان. في هذا النص، تقدّم زوجته سناء سلامة شهادة على تجربة وليد دقة في الأسر على مدى 38 عامًا، والمعارك التي خاضتها العائلة على مدى تلك السنوات مع سلطات الاحتلال، انطلاقًا من زواجهما، ومرورًا بإنجابهما طفلتهما ميلاد، وصولًا لوضعه الصحي الحالي.
سبعة وثلاثون عامًا قضاها وليد دقة في سجون الاحتلال حتى اليوم. سنوات بات معها واحدًا من عمداء الأسرى. خلال هذه الأعوام تحصّل دقّة على لقبه الجامعي الأول، ومن بعده اللقب الثاني، وكباقي الأسرى، لم تُضعِف سنوات الأسر من عزيمة وليد، وقد حوَّل الأسرى السجون إلى جامعات وإلى معاهد تعليمية وتثقيفية، وإلى ساحات لبناء الإنسان وبناء المحتوى النضالي والمعنوي للمناضلين والأسرى.
لوليد تجربته الخاصة في السجن، وذلك لأنه إضافة إلى كونه مناضلًا صلبًا، فإنه كاتب وروائي، وكان من بين ما كتبه دراسة بعنوان «صهر الوعي»، وهي دراسة مهمة جدًا لمن يريد أن يفهم واقع الحركة الأسيرة وواقع الحياة السياسية في الخارج، كتبها وليد بعد إضراب الأسرى عن الطعام عام 2004، وهو إضراب كانت له نتائج كارثية على الحركة الأسيرة، وسلبَها الكثير من منجزاتها.
خضر عدنان شهيداً: قتلوا المناضل المثال!
02-05-2023
وفي الأسر كذلك كتبَ مسرحية «الزمن الموازي»، والزمن الموازي مصطلح فلسفي اجترحه وليد، وقد أزعج هذا الاحتلال حتى أنه وبعد عرض المسرحية المأخوذة من نص وليد في مسرح الميدان في حيفا عام 2016، أغلق الاحتلال المسرح، إذ لا تقبل الحكومة العنصرية أي نتاج من أسرانا الذين تنعتهم بالقتلة وبما شاءت من أقبح الأوصاف. تلا العرض تحريضٌ فظيعٌ على وليد في الإعلام الإسرائيلي أيضًا. بعد ذلك جاءت قضية «سر الزيت» وهي قصة جميلة للأطفال كتبها وليد، وتعرّض بسببها للتنكيل والإجراءات القمعية حيث مُنِعت عنه زيارات الأهل وفرضت عليه غرامات مالية، والأقسى كان وضع وليد في العزل في ظروف لا إنسانية كعقاب على الكتابة.
أنهى وليد حكمه الأصلي، 37 عامًا، في 24 آذار 2023، وكان من المفترض به أن يكون اليوم حرًا بيننا اليوم، لكن إمعانًا في التنكيل، أضاف الاحتلال عامين على حكمه السابق في 2018، وذلك بسبب اتهامه بمحاولة تهريب هواتف نقالة ليتصل الأسرى بأهاليهم في ظل منع سلطة سجون الاحتلال الأسرى من ذلك. في حالة أسرى آخرين، كانت العقوبة على هذه التهمة هي بضعة أيام في زنزانة وانتهى الأمر، لكنهم عاقبوا وليد بإضافة عامين إلى حكمه وأصبح هذان العامان مصيريّين جدًا لحياته بسبب تشخيصه بالسرطان.
أمّا القضية الأخيرة، والتي دفعت الاحتلال، وبالأخص سلطة سجونه، لاستهداف وليد والتحريض عليه بشكل مهووس، فكانت ولادة ابنتنا ميلاد في 3 شباط 2020.
ومع هذه القضية الأخيرة، هنالك في سلطة السجون الإسرائيلية من يسعون جاهدين ألّا يخرج وليد من السجن حيًا. ولأنه كان ندًا لهم دومًا، فإنهم يسعون بشكل متعمد لقتله، عبر اغتياله ببطء. خرج وليد في كل معاركه معهم منتصرًا وخرج منها وله اليد العليا عليهم، وكما أقول دائمًا، خرج وقدمه في جبينهم. واليوم أتمنى من كل قلبي أن يتجاوز وليد هذه الأزمة الصحية وأن ينتصر عليهم في هذه المعركة الأخيرة.
«ميلاد» رغم السجّان
جئتُ من عائلة مسيّسة. والدي كان سجينًا في السبعينيات والثمانينيات ولكن لفترات قصيرة. ويبدو أن هذه الحياة هي التي قادتني بشكل ما إلى قضية الأسرى. في التسعينيات كنت متطوّعة في جمعية أنصار السجين، وهي جمعية تُعنى بشؤون الأسرى وتتابع قضاياهم. كنت أكتب عن الأسرى، واقتُرِح علي أن أكتب أخبار الأسرى من خلالهم مباشرة. أعطوني اسم وليد وأسماء أسرى آخرين، ولكنني اخترت أن أزور وليد في السجن عام 1996 لأنه كان يُخيّل إليّ أنني سمعت بهذا الاسم، أنني أعرف هذا الشخص.
زرتُه أول مرّة عام 1996. سألته يومها: ماذا نستطيع أن نقدم لكم؟ ما الذي يمكننا فعله؟ يومها أعطاني وليد قائمة مهمات، وحدد لي أمورًا وقضايا مُعيّنة تخص أسرى آخرين. ومنذ ذلك اليوم وقائمة المهام تزداد. تحولت الزيارة إلى زيارات، وكانت علاقتي ووليد علاقة عمل وإنجاز ونشاط ومهام نقوم بها لأجل الأسرى. وبعد سنوات تطورت العلاقة إلى علاقة عاطفية، ومن ثم إلى ارتباط، وعقدنا قراننا في سجن عسقلان في 10 آب عام 1999. أمّا كيف يمنحوننا حق عقد القران في السجن، فربما أننا كنا محظوظيْن، لأن هذا حصل قبل الانتفاضة الثانية التي غيرت الخارطة السياسية تمامًا. وبعد ضغوطات منا ومن سياسيين ومحامين حصلنا على كل ما نريد بالنسبة لعقد القران.
وليد من باقة «الغربية» وهي قرية عربية في الداخل الفلسطيني المحتل، وأنا أعيش في يافا، ونحمل كلانا المواطنة الإسرائيلية ويتيح لنا القانون -بحسب هذه المواطنة- ما يسمونه بالخلوة الشرعية، وقد ناضلنا أمام المحاكم 12 عامًا من أجل أن ننال هذه الخلوة الشرعية ولكنهم لم يسمحوا لنا بها. لكن ورغمًا عنهم، حققنا ما أردنا؛ أن تكون لنا عائلة، وأن يكون لنا طفلٌ أو طفلة.
كانت هذه القضية التي دفعت سلطات الاحتلال، وسلطات السجون بشكل خاص، لاستهداف وليد بشكل مهووس، أعني ولادة ابنتنا ميلاد، والتي جاءت من نطفة محررة، في 3 شباط 2020، ومنذ ذلك اليوم، ولأننا أصبحنا أمًا وأبًا رغمًا عنهم، تعرّضت ووليد لتنكيل شرس.
فور ولادة ميلاد، بدأتْ جولة أخرى من الإجراءات العقابية والتنكيلية. رفضتْ سلطات الاحتلال أن يتم تسجيلها باسم والدها. اضطررنا أن نناضل أيضًا أمام المحاكم وضد وزارة الداخلية وضد الحكومة الإسرائيلية لتسجيلها واستخراج وثائق ثبوتية لها.
من المهم أن تعلموا أن ميلاد هي أول طفلة يُفتح لها ملف في الشاباك الإسرائيلي قبل أن تولد، من المهم أن تعلموا أن المخابرات الإسرائيلية بعثت إلى المحكمة في إحدى الجلسات محذّرة من ولادة ميلاد. حينها كتب وليد نصًا رائعًا بصوت ابنته قبل أن تصل إلى الحياة يقدم فيها مرافعة عن حقها بالحياة: «كما أنني لا أخشى هذه الدولة وغطرستها، لا لأنني شجاعة واحتمي بطفولتي -هذه الطفولة التي سيتبين لكم من مشاهداتي التي سأنقلها إليكم أنها لم تشفع لي عند دولة العرق- وإنما لأنني ببساطة أتفوق عليهم كصاحبة حق من أبسط حقوق الكائنات، وهو الحق في الحياة. فهم يصنعون الموت، وأنا صنيعة الحياة..وهنا أسألكم: ما الجنون إذن؟ هل الجنون أن تنطق طفلة بعمري؟ أم أن يفتح لها ملف في «الشاباك» الإسرائيلي قبل أن تولد».
تعلمت أنه في الحياة مع وليد، لا ملل، لأنك في نضال دائم على أبسط الأمور. كانت سلطات الاحتلال ترفض أن يرى وليد ابنته، ولذا فقط رآها بعد سنة ونصف من ولادتها، وكان ذلك بعد أن انتزعنا قرار حكم وخضعنا لفحص DNA والذي بدونه لم يكونوا سيسمحون له برؤيتها. هكذا هزمنا القوة القانونية التي كانوا يتمتعون بها: من أين جاءت ميلاد؟ كيف هي ابنته؟ كانوا يتعنتون، أجرينا الفحص وأثبتنا أنها ابنته.
دقيقة حرية مع ميلاد
لا يمكن للكلمات أن تصف أول زيارة لميلاد لوالدها في السجن.
كان السجن بأكمله في حالة توتر وترقب، كل الأسرى أرادوا أن يكونوا في غرفة الزيارة كي يروا المشهد؛ مشهد استقبال وليد لابنته. طلب منّي وليد وقتها أن تدخل ميلاد إلى غرفة الزيارة وهي تمشي على قدميها دون أن أحملها، قال لي يومها، «أريد أن أراها بالكامل، دعيها تدخل على رجليها وأنا سأكون في غرفة الزيارة بين اثنين من الأسرى، اسأليها «وين بابا» وأريدها أن تؤشر علي». أراد الشعور بأن ابنته تعرفه. اتبعت وصية وليد، وفعلًا دخلت ميلاد إلى غرفة الزيارة مشيًا، ولكن من لم يكن واقفًا على قدميه ومن كان يبكي كان وليد. كل الأسرى في غرفة الزيارة كان يبكون.
منذ ذلك اليوم وميلاد تزور والدها في السجن، في البداية كانت الزيارات من وراء زجاج، لكن منذ أشهر سُمِح لميلاد أن تدخل إلى ما وراء الزجاج. كان ذلك يعني بأن والدها يستطيع لأول مرة أن يلمسها ويشمها ويقبلها. بالطبع أنا ممنوعة من الدخول إلى وراء الزجاج وهذا يعني بأن ميلاد ستدخل وحدها. جاء السجان ليأخذ ميلاد ويُدخِلها عند والدها. طلبتُ من السجان وقتها أن لا يلمسها، «لا تحملها» قلت له، «هي ستمشي لوحدها». في الحقيقة لم أكن أريد أن يحملها السجان قبل والدها. حين فتحوا الباب الحديدي كان الصوت مريعًا. صوت الباب مدوٍ يجفل له الكبار فما بالك بطفلة. خافت ميلاد ودخلت إلى والدها ولكنها بقيت هناك دقيقة واحدة فقط مع أنه كان من المسموح لها أن تبقى ربع ساعة. حين رأت -وهي في الداخل- أنني من وراء الزجاج خافت وبدأت تبكي. اكتفى والدها بأن يقبلها لدقيقة واحدة وأعادها. لخص وليد يومها الزيارة وقال لي «أنا اليوم حصل لي ما حصل مع الشباب الذي حفروا النفق وطلعوا على الضو وانمسكوا». كانت لحظة حرية، دقيقة حرية مع ميلاد. كانت لحظات صعبة ولكنها لحظات فرح وحرية رغم كل شيء.
بقية المقال على موقع "حبر".