هكذا أفرغت المدينة سذاجتها في وجه أهل الريف

"فوق كل مائدة طعام.. يوجد شيء من جهد فلاح جائع".
2021-10-07

إسلام ضيف

كاتب صحافي


شارك
محمود المليجي في دور "محمد أبو سويلم" - فيلم الأرض (1970)

لطالما تعرض الريف المصري، الذي تصل نسبة سكانه إلى قرابة 57.8 في المئة من إجمالي عدد سكان مصر، للتهميش، وقد جرفته دوائر السلطة وقراراتها إلى قاع الاهتمامات، وأخضعته لسيطرة المركز وسيادة أنماطه. فسادٌ فيه فقر متفشٍ وانعدام للخدمات الأساسية.

في سبيل الالتحاق بالخدمات أو البحث عن فرصة في الحياة، كان لزاماً على أهل الريف أن يمضوا إلى خارج الأطراف، قاطعين المسافات لإنجاز مهامهم، متجهين من القرية إلى المركز. وسرعان ما بدأت تجربة مخالطتهم لأصحاب الذهنية التي لا تتقبل ثقافة الآخر، ولا تتردد في التنمّر على من يتحدث بلهجة مغايرة للهجة الأكثر شيوعاً داخل نطاق المدينة.

هناك قوالب نمطية عززت من التمييز والنظرة الدونية للكنة وثقافة المجتمع الفلاحي. هكذا تصبح اللهجة مرتبطةً بالصفة, اعتادت آذاننا على سماع وصف القروي بالساذج، وغيرها من الوصمات الاجتماعية الأخرى. تجذرت هذه المفاهيم عند الكثيرين، وتعززت شدتها إلى درجة تحملهم على القول بأن التنمّر هو "مزاح"، ليُمارَس التمييز كأسلوب حياة.

"نحن" و"هم"

بالذهاب إلى دراسات علم الاجتماع، نجد أن إحدى المرجعيات حول الوصم الاجتماعي هي ما يقدمه نموذج بروس لينك وجو فيلان عن "الوصمة"، حيث يعتقد النموذج في إحدى نقاطه الأربع بأن الأفراد الموصومين يتم وضعهم داخل مجموعات مميزة تعمل على إنشاء شعور بالانفصال بين "نحن" و"هم".

نتيجةً لهذا التقسيم، تنشأ ظروف غير متكافئة، حيث يتم وصم الأفراد المصنفين بصفات غير مرغوب فيها تنتقص من مكانتهم الاجتماعية. فالوصم الذي تمارسه الفئة التي تعتقد أنها صاحبة الأفضلية الثقافية والاجتماعية يتسبب في خلق صورة دونية، وتصور ضيق هادم للآخرين.

في سجل التمييز وترسيخ الطبقية، أصدر وزير التعليم العالي في عام 2015 قراراً بمنع طلاب الأقاليم من دخول كليات الإعلام والاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، واستثناء أبناء القضاة والضباط من القرار، الذي أثار حينها جدلاً واسعاً، وحالةً من الغضب بين صفوف طلاب الأقاليم الراغبين بالإنضمام إلى تلك الكليات.

ترتبط هذه الظاهرة بالمعايير الثقافية السائدة في المجتمع. فهي بالضرورة انعكاس للنمطية المهيمنة والمعبرة عن فئة اجتماعية حاكمة مسيطرة، تؤثر على القيم والمعايير، تتلاعب في ثقافة مجتمع متنوع ثقافياً بهدف المزيد من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي الممنهج. ينتج عن ذلك مزيدٌ من التشويه الفكري والتنميط الكارثي الذي يحول الناس إلى قطعان تابعة، عقولهم مأسورة داخل زنازين لا تعرف النور.

"فلاح" في قاموس الشتائم

"الأوله عيروني إن أنا فلاح"... من قصيدة "الفلاح" لبيرم التونسي

مقالات ذات صلة

يؤكد الشاعر بيرم التونسي في تلك القصيدة على الواقع الظالم للفلاح الذي يكدح ويعمل ولا يحصد غير الشقاء والازدراء. إذ تصبح المهنة الأولى التي مارسها المصريون في مرمى نيران السب والسخرية، على الرغم من أهميتها. لقد تم العبث بمصطلح يشير إلى مناضلٍ يكافح من أجل تأمين القوت، فيتحول إلى لقب بغيض وغير مرغوب بعد أن تم تسطيحه واختزاله في صورة تجلب العار، وكأنه حكم يدين صاحبه، يستخدمه الكثيرون في مصر بشكل سلبي كأداة للتحقير في حوارهم اليومي وعلى منصات التواصل الاجتماعي.

هناك قوالب نمطية عززت التمييز والنظرة الدونية للكنة وثقافة المجتمع الفلاحي. تصبح اللهجة مرتبطةً بالصفة، وقد اعتادت آذاننا على سماع وصف القروي بالساذج، وغيرها من الوصمات الاجتماعية الأخرى. تجذّرت هذه المفاهيم عند الكثيرين، وتعززت شدتها إلى درجة تدفعهم للقول بإن ممارسة التنمّر "مزاح"، ليُمارَس التمييز كأسلوب حياة.

كل من يقوم بفعل عفوي أو يتحدث بلكنة مجتمعه الفلاحي أو يرتدي ملابس بسيطة ليس بمنأى عن التنمّر والقولبة. وليست الظاهرة وليدة الحاضر، بل عانى الفلاح المصري من الظلم والوصم من قبل الاستعمار المتعاقب على مصر. فكم كانت تؤلمه عبارة "فلاح خرسيس"، وتوجعه من المستعمر التركي وأتباعه الذين كانوا يتعاملون بتلك النظرة الفوقية، موجهين الاتهامات له بسوء الأدب وعدم الطاعة.

المركز يحكم

يعاني سكان الريف من قلة توافر الخدمات داخل مناطقهم وانخفاض حاد في مستوى معيشتهم، في ظل التحديات التي تواجهها الزراعة وتدني الدخل. يخلو الريف عادةً من الخدمات الطبية. فعند وجود حالات طارئة يتم نقل المريض إلى مستشفيات المدينة لتلقي العلاج حيث تتمركز الخدمات في المدن. أما بخصوص الخدمات التعليمية، فقد تجد في الريف مدارس المرحلة الأساسية فقط، ويضطر الطالب أن يقطع المسافات ليكمل دراسته الثانوية في أماكن مجاورة على الرغم من صعوبة المواصلات والطرق الرديئة، ثم ينتقل ليعيش حياته الجامعية في اغتراب المدن.

تنتقل طالبةٌ من إحدى قرى مركز إيتاي البارود في محافظة البحيرة للدراسة بجامعة الإسكندرية، وتحكي: "تسخر مني زميلاتي بسبب لهجتي القروية، ويرون أنها غير راقية، مما دفعني إلى تجنب الاختلاط بهنَّ، ولم أستطع التكيف"، بينما يتخلى كثير من طلاب الأقاليم، والمنتقلين للعمل في العاصمة عن لهجتهم وأسلوبهم لتجنب التعرض للتنمّر والمضايقات.

وفي سجل التمييز وترسيخ الطبقية، أصدر وزير التعليم العالي في عام 2015 قراراً بمنع طلاب الأقاليم من دخول كليات الإعلام والاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، واستثناء أبناء القضاة والضباط من القرار، الذي أثار حينها جدلاً واسعاً، وحالةً من الغضب بين صفوف طلاب الأقاليم الراغبين بالإنضمام إلى تلك الكليات نظراً لما تتمتع به من إمكانات مقارنةً بالكليات الأحدث التي من المفترض أن تكون مقابلةً لها، معتبرين أن هذا تمييز لفئة من الطلاب على حساب فئة أخرى.

واقعةٌ أخرى تتكرر سنوياً كل صيف، حملةٌ يقودها بعض أبناء مدينة الإسكندرية الساحلية للتنمّر ضد المصطافين من أهل الريف بحجة أنهم أقل تحضراً، وربط السلوكيات الخاطئة بعموم الفلاحين مع وضع معايير للمصطافين على الشواطئ، يعد الخروج عنها انحرافاً. وصل الأمر إلى حد تدشين صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لمناهضة الفلاحين، تدعو لعدم دخولهم الإسكندرية في الصيف. ولأهل الإسكندرية خصوصية في مفهومهم عن "الفلاح". فليس بالضرورة أن يكون مرتبطاً بمهنة الفلاحة أو الأرض الزراعية، بل يرتبط بمعظم من هم خارج النطاق الجغرافي لمدينة الإسكندرية حتى لو كان قاهرياً!!

حقيقة الريف.. غابت عن الشاشات

لا شك في أن هناك أعمالاً سينمائية انحازت للريف المصري، وحاولت تناول شخصية الفلاح بإنصاف، والتعبير عن قضاياه، ولعل أبرز هذه الأعمال "فيلم الأرض" الذي تم إنتاجه عام 1970. ولكن هذه الأعمال محدودة، وحظ الريف في السينما المصرية تعيس، فهي اعتمدت أيضاً على التنميط والسخرية من الفلاح المصري وغيبت حقيقة واقع الريف. ولم يْسلم الفلاح من تصدير صورة سطحية خاطئة عنه عبر الشاشات، ولم يكن دور "محمد أبو سويلم" الفلاح المحارب ضد السادة الإقطاعيين إلا نقطة في بحر من السينما التجارية التي اعتادت الاغتراب عن الريف، وتوجيه العدسات صوب المدينة كي تحقق الإيرادات وتراكم الأرباح، وخضوعاً للمفاهيم السائدة.

واقعة أخرى تتكرر سنوياً كل صيف، حملةٌ يقودها بعض أبناء مدينة الإسكندرية الساحلية للتنمّر ضد المصطافين من أهل الريف بحجة أنهم أقل تحضراً، وربط السلوكيات الخاطئة بعموم الفلاحين، مع وضع معايير للمصطافين على الشواطئ، يعد الخروج عنها انحرافاً. وصل الأمر إلى حد تدشين صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لمناهضة الفلاحين، تدعو لعدم دخولهم الإسكندرية في الصيف!

وبداية من الثمانينيات الفائتة، ومع سياسة الانفتاح الاقتصادي التي اعتمدتها الدولة، أصبح تناول الفلاح في السينما هامشياً للغاية، وقولبته الأعمالُ في أدوار الساذج التائه في ساحات المدينة، الذي تبهره الأضواء، وتم تقديمه بشكل غير واقعي كمادة للسخرية. فلا يختلف الحال بين تهميش الفلاح سينمائياً، وتهميشه على أرض الواقع.

ليس الفلاح وحده

لا بد أن نشير أيضاً إلى ضحايا آخرين طالتهم ويلات التنميط العنصري. امتد الوصم كي ينال من صعيد مصر وأهل النوبة والبدو. يوصم أهل الصعيد بالحماقة، ويتم الإساءة إليهم من خلال إطلاق النكت الساخرة التي تحمل إهانةً بالغة لهم، كما تنسب إليهم الغلاظة في تعاملاتهم، وللهجة الصعيدية النصيبُ نفسه من التهكم.

مقالات ذات صلة

 ويعاني البدو من فجوة كبيرة تفصل بينهم وبين المركز، عمّقها تجاهل الدولة الذي كرس حالةً من العزلة الاجتماعية والثقافية فتحت المجال لانتشار المفاهيم المغلوطة وإلصاق الصفات السلبية بهم، كالغدر وعدم الانتماء. ولا يختلف الحال مع أهل النوبة كثيراً، الذين يُمارَس ضدهم التنمّر بسبب بشرتهم السمراء الداكنة.

***

"فوق كل مائدة طعام.. يوجد شيء من جهد فلاح جائع".

كان شهيد الفلاحين صلاح حسين، قائد المعركة ضد الإقطاع، دائماً ما يذكر هذه المقولة، وهو الذي اغتالته عصابات الإقطاع، ليبرهن على شرف وكفاح الفلاح المدافع عن أرضه بالدم. الكفاح الذي تواجهه السلطات ونمطية المجتمع بالقهر.

ضحايا آخرون طالتهم ويلات التنميط العنصري كأهل الصعيد وأهل النوبة والبدو!

ليس من العدل أن تُدفن قيمة الإنسان في مقابر التسطيح، وأن يتم إقحام مفهوم الجمال في مقارنات عنصرية سخيفة. فلا توجد لهجة قبيحة وأخرى جميلة، وليس لأي جغرافيا أن تكون صاحبة السيادة على غيرها، إلا في أنها تكشف منظومةً تقوم أساساتها على التمييز، وهو الباب الأساس الذي يتيح الاستغلال.. ولا يدري المرء وهو يلاحظ ذلك، أيهما يسهّل للآخر مهمته: أن تُستغلّ فتضطهد، أو أن تُضطهد حتى يمكن استغلالك أكثر!  

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه