مأساة بيروت تثير عاطفة قوية وصادقة في أرجاء مختلفة من العالم. غزّة معتادة على المآسي وعلى إبداء التضامن كموقف سياسي، ولكني افترضت - أو هكذا يحلو لي أن أتخيل بجدية ثقيلة الدم - أن هناك الكثير من الغزاويين، ممن عبّروا عن عواطفهم تجاه بيروت على شاطئ ذلك البحر المشترك بيننا، زاروا بيروت، أو عاشوا فيها هم أو آباؤهم، أيام المقاومة الفلسطينية، وأن هناك بالتالي "معرفة" بيننا تدفعهم إلى ذلك. وقد اعتبرتُ أن "سلاماً يا بيروت" التي رفعوها هي كلمة سر، وفيها إيحاءٌ بتلك المعرفة. ولكن ما بال ناس تعز، وهي مدينة جريحة كما كل اليمن، يتظاهرون ويلوحون بالأعلام اللبنانية. ألا تكفيهم مصائبهم؟! ألم يسألوا أنفسهم لماذا لم يُبدِ اللبنانيون تضامناً معهم، حين كانت بلادهم تُحاصر وتقصف وتنتشر فيها أمراض كالكوليرا لم يعد لها وجود إلا في الروايات، ويموت فيها الأطفال من سوء التغذية.. ولا تزال! هل سيهّب العالم لاحتضانهم لو انهار سد مأرب لا قدّر الله؟ سيكون الانهيار السادس للسد الأسطوري، كما هو اليوم دمار بيروت السادس أو السابع بحسب التاريخ، المستحضَر في يافطات كبيرة تملأ شوارع المدينة، وتقول إنها تعود فتحيا. ليس في الأساطير قوة خارقة فحسب، يُعتدّ بها لطمأنة النفوس بوجه الدمار، والاقتناع بأنه ليس فناء، بل إن فيها عواطف جياشة أيضاً. بلقيس سبأ هناك وعشتروت هنا، وبينهما جلجامش والإلياذة، تفصلهما آلاف السنين، ولكنها تبدو جميعها حاضرة معاً في بيروت، وفي مرمى البصر.
مسلسل لبنان: 1- علاقة شعبان برمضان
16-07-2020
مسلسل لبنان: 2 - التفاهة انتقلت إلى الهجوم
31-07-2020
يغتاظ الواقعيون، وهم محقون. كفاكم شعراً وعواطف. هناك قتلى صريحون، وهناك مفقودون يَظهرون كل يوم كجثث تحت الأنقاض، وجرحى بعضهم ما زال بخطر شديد، وأناس فُقئت عيونهم، وأطفال بُقرت خدودهم، وعجائز مشردون، وبيوت آيلة للسقوط. خراب بيوت، جاء فوق خراب البيوت الذي كان يعتمل منذ زمن في البلاد السائبة على يد قطاع الطرق المتحكمين فيها.. فعن أي أسطورة تتكلمون؟ النوستالجيا موقف رجعي على الدوام. كان ولا يزال. هل من حاجة لتعداد عناصر قسوة بيروت، بشاعتها حتى؟ هل من حاجة لاستحضار هول الانفجار في مرفئها، وقبله هول الاستهتار بها وبناسها، وبالبلد عموماً، وهو هنا أبشع من كل تآمر يجهد بعض الجهابذة من كل صوب إلى البرهان عليه: صاروخ إسرائيلي، سلاح لحزب الله، وأخيراً إن النيترات تلك التي انفجرت قد كانت أصلاً هي نفسها "مسيّسة"، وكأن تلك الفرضيات أبشع من المعطى الأكيد: الاستهتار.
تقول لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا ("الإسكوا") في آخر تقرير لها صدر منذ أيام إن 55 في المئة من اللبنانيين أصبحوا تحت خط الفقر في 2020، بينما كانوا 28 في المئة منذ عام. وأن من صاروا في فقر شديد (وتعريفه من يعجزون عن توفير أدنى الأساسيات) تضاعفوا ثلاث مرات هذا العام، وصاروا 23 في المئة من السكان. هذا زلزال آخر لا يقل تدميراً عن انفجار المرفأ. وأبطاله معروفون على مر السنين، ولكنهم لم يُساءلوا أبداً، بل هم مزدهرون في السلطة وفي عالم المال. هم وشركاؤهم في ظلال مطمئنون...
هذا كله صحيح!
لكن بيروت على الرغم من كل ذلك تحظى بعاطفة جياشة. كل الناس، بسطاؤهم والمميزون، تأثروا بما حل بها، بالانفجار المدمر تحديداً وليس بخلفياته. فهل يُلام الفنانون العالميون، الشعراء، المغنون، المصمم جان بول غوتييه، وفستانه الآسر "قلبي ينزف على بيروت".. والحكومات، بحيث أن البوارج الحربية لدول عظمى التي تزور المرفأ تتزاحم على بابه، وبعضها نقل مساعدات، وهي ليست بالتأكيد وظيفة البوارج، وبعضها ما زال راسياً في الميناء، وهناك طائرات (بعضها عسكري، ولكنها كلها حكومية) تنقل هي الأخرى أطناناً من المساعدات. وبدا أن هناك فائدة عامة لملايين اللبنانيين المهاجرين، شيباً وشباباً بعضهم ما زال في سنوات المراهقة من عمره، أحياناً يرسلون هم أيضاً مساعدات عينية ونقدية كبيرة جمعوها من حيث يقيمون.. يرسلونها لأقاربهم وللجمعيات النشيطة في الإنقاذ وللمستشفيات التي صار نصفها خارج الخدمة.. يفعلون بقوة بحيث "انهار" سعر صرف الدولار!
وقد قال لي صديق يوناني – كل اللبنانيين تلقوا اتصالات متعاطفة معهم، بعضها من أصدقاء في بلاد قصيّة، مضت سنين على انقطاعهم عنهم، بحيث صار معيباً ألا يتصل هؤلاء، وصاروا لو تأخروا يعتذرون – قال لي إن هناك في القرى، وليس في أثينا وحدها، من يرغب بمد يد العون للبنان، وسألني عمن يجب التوجه إليه لضمان وصول المساعدة.. اليونان التي دمرتها سياسات مالية مجرمة، تَشارَك في ارتكابها أصحاب السلطة فيها وفي الاتحاد الأوروبي. وهي عانت من حريق مهول في الصيف الفائت قضى على أكثر من مئتي شخص، وشارف على الأكروبول.. من دون أن يأبه له أحد.
حسناً، هناك في الأمر سرٌ إذاً، لا بد من الإقرار به. جاذبية لا بد من التسليم بوجودها. هل روح المبادرة، وتدبر الأمور هي ما يصنعها؟ هل إن جمع الأنقاض من الشوارع بسرعة قصوى، فعلياً في اليوم التالي لانفجار المرفأ، وترميم ما تيسر حين لا يكون عويصاً، جزءٌ من السر؟ في صيف 1982، في عز العدوان الإسرائيلي على لبنان، وفي تلك الليلة الرهيبة من آب/أغسطس التي سبقت وقف إطلاق النار، حين دُمرت البنايات بقنابل فراغية أطلقتها طائرات لم تكف عن الإغارة المتواصلة لساعات.. خرجتُ صباحاً لأتفقد مجموعة من الأصدقاء العراقيين الذين كانوا يقيمون في بيروت، وكانوا بلا حيلة. مشيتُ فوق ركام لا وصف له امتد على طول الشوارع، وصولاً إلى منزلهم المشترك في "عين المريسة". وحين عدتُ عند المغرب إلى بيتي، مشيت في شوارع نظيفة: حقاً، وبفعالية مذهلة، قام الناس - وكانوا قلة، فبيروت فرغت من معظم سكانها خلال ذلك العدوان – بجمع الركام في أضيق زوايا ممكنة، وبتنظيف الشوارع من الزجاج ومن الحطام.. بل وبغسل الأرصفة بينما كان الماء عزيزاً جداً.
... ها قد تمددتْ بهذه الذكريات الأسطورة مجدداً، وعصفت النوستالجيا بمن عاش مثل تلك اللحظات، وبمن يتخيلها على حد سواء. ذلك كله هو ما يصنع بيروت، وهي تلخّصه. فينتاب المرءَ فجأة شعورٌ بالخوف عليها، بأن يخفي التعاطف معها ما يبدو كمرثية، كلحن جنائزي ولو كان مؤثِّراً. نوع من Requiem. فنهّبُ لنتمسك حياله بالتعويذة: سلاماً يا بيروت!