سد مأرب ونزوح الماء: مخاوف من الانهيار السادس

ثلاثة عقود ونيف من عمر مشروع مائي، تمتد بحيرته الهائلة على 30 كيلومتراً مربعاً، بسعة 400 مليون متر مكعب من الماء، دون أن يخضع لعملية صيانة واحدة. كما تعثرت المرحلة الثانية من المشروع، مرحلة تكميلية لكنها صمام الأمان للماء وسكان المحافظة.
2020-08-11

عبد الرزاق الحطامي

كاتب من اليمن


شارك
سد مأرب، اليمن.

شتاتنا خالد ومتجدد، يباركه المطر ويدور به التاريخ في طاحونة الزمن، ودوامات السياسة والحروب والضياع. اليوم يعود مسنوداً بتغيرات المناخ ونذور الطبيعة، ونحن القرابين. وها هو سد مأرب يفيض لأول مرة منذ إعادة تأهيله العام 1986. "لأول مرة" تلك تبدو هنا مقوّسة حسابية غير دقيقة، فكل شيء في اليمن لا بد من إحالته أولاً على التاريخ ليقول فيه قولته، لأنه قد حدث وحدث. أما في مأرب - وسط اليمن - فوحده التاريخ من يحدثك، وهو المسكوت عنه. تاريخنا مكرور لكنه لا يكفي. ثمة إقصاء سياسي يبدو متعمداً لكل ما هو تاريخي ومعياري رائز على حضارة عريقة أو مجد أثيل، ومأرب خير الشاهِدين.

نهضت أقدم الحضارات الإنسانية في اليمن. كانت مأرب حاضرة مملكة سبأ على عتبة الكينونة الأولى للعالم، ومهد الجنس البشري الطري، العابر على بياض أرض ناصعة، قبل عصور الميلاد والتاريخ، بقدمين حافيتين.

وإذ يفيض سد مأرب لأول مرة منذ 34 عاماً من إعادة تأهيله، جارفاً عشرات الأرواح ومئات المساكن الإيوائية في مخيمات النزوح، تعود إلى سفح الذاكرة متلازمة الماء والنزوح، اليمني والشتات، حيث يكون التشرد وشماً أبدياً ومحدّداً محورياً لهوية اليمن الشخصية، وهو أقنوم السمت الأنطولوجي العام لمجتمعه، بكل أجياله المتعاقبة، كابراً عن كابر، على نسق ثابت في القدر والمصير.

خبراء في أنظمة الري والسدود المائية، وتصريحات معنيين في مشروع سد مأرب تشير إلى احتمالية انهياره بعد فيضانه الأخير، وهناك من اعتبر الانهيار أمراً وارداً مع غزارة الأمطار في الأعوام الأربعة الأخيرة، واستمرار تدفق السيول القادمة من أربع محافظات يمنية إلى السد. ويقول أهالي مأرب إنهم على مدى نصف قرن لم يألفوا مثل هذه السيول العنيفة.

ومأرب محافظة تتصدر اليمن في قوائم الجفاف والتصحر وشحة المطر وندرة مواسم سقوطه. لكنها في سنوات الحرب غيرها في أيام السلام، خضراء مطيرة، دافقة السيول من ماء وبشر، ومخيمات النزوح التي نشأت حديثاً في مدينتها، هي اليوم أكبر مديريات المحافظة.

مقالات ذات صلة

ثلاثة عقود ونيف من عمر مشروع مائي، تمتد بحيرته الهائلة على 30 كيلو متراً مربعاً، بسعة 400 مليون متر مكعب من الماء، دون أن يخضع لعملية صيانة واحدة. كما تعثرت المرحلة الثانية من المشروع، مرحلة تكميلية لكنها صمام الأمان للماء وسكان المحافظة. وهنا تتضافر عوامل التقادم والإهمال لجهة أن انهيار السد - لاقدر الله – الذي بات أمراً وارداً ووشيكاً وما عاد مجرد احتمال.

سد مأرب يفيض لأول مرة منذ إعادة تأهيله العام 1986، جارفاً عشرات الأرواح، ومئات المساكن الإيوائية في مخيمات النزوح، فتعود إلى الذاكرة متلازمة الماء والنزوح.

وما من شيء أخطر على السدود من الطمي المترسب في بطونها، وأحدث التقديرات تتحدث عن نسبة ارتفاع الطمي في سد مأرب خلال العام الجاري بحوالي 80 مليون متر مكعب من أصل السعة الاستيعابية الكلية لخزان السد.

ومع تكدس الطمي والإهمال، نمت شجيرات ونتوءات في أحشاء الطين اللدن بقاع السد، وكل هذا إنما على حساب موطن الماء، والمساحة المحددة هندسياً لاستيعاب منسوب ارتفاعه. وتحت ضغط المطر واستمرار السيول يبدأ السد في تقيؤ الماء الطامي ويكون الفيضان الأكبر.

دور مأرب في التاريخ

وبالعودة إلى التاريخ اليمني، باعتبار سد مأرب القديم رمزه الأبرز، وشاهداً بصرياً على حضارته التليدة، يبدو مشروع سد مأرب الحديث (على بعد 11 كيلومتراً غرب مدينة مأرب القديمة وثلاثة كيلومترات عن السد القديم) منجزاً عملاقاً، فقد بني بمساحة أوسع وسعة أكبر، لكن بعبقرية هندسية وجدوى اقتصادية أقل.

والمطر والسيول ليسا إلا واحداً من عوامل الانهيار المتعددة للسد في أسفار الخراب القديم. فمن بين خمسة انهيارات على الأرجح تعرض لها سد مأرب القديم تاريخياً، في حقب مختلفة ومتباعدة زمنياً، كانت الحروب والغزو والاحتلال الخارجي وضعف الدولة وهشاشة السلطة المركزية في فترات الحكم المحلي عوامل حاسمة في انهيارات السد الفادحة، وهي الآن تتوافر جميعاً بجانب هدير السيول.

____________
من دفاتر السفير العربي
اليمن بعدسة ريم مجاهد
____________

ولا تقتصر تداعيات انهيار سد مأرب أو استقراره على اليمن فحسب، فالسد القديم الذي بني على الأرجح تاريخياً وأثرياً في بداية العصر الثالث لمملكة سبأ الكبرى في الفترة من 2150 ق.م إلى 2100 ق.م، ساهم في صياغة الهوية العربية بانتقال العرب من البدوية البدائية إلى الحضرية المدنية، من خلال ازدهار النشاط التجاري في الجزيرة العربية. وكانت مأرب في عهد الدولة السبئية واستقرار السد (الأمن المائي) سوقاً مركزية وحاكمة في الاقتصاد الإقليمي والدولي والاستيراد السلعي والتصدير، و"بورصة" السوق المالية على طريق اللبان في الشرق الأدنى القديم.

وحتى في فترات انهيار السد وموجات النزوح والهجرات اليمنية التي تناثرت شمالاً على خطوط طول وعرض الجزيرة العربية وكل الجهات، كان لسد مأرب دور إيجابي عبر القبائل اليمنية النازحة خارجياً في تغيير البنية الديمغرافية للعالم العربي الذي أزاحته قوميات أجنبية عن مركز وجوده، وتحكمت بقراره وحريته وثرواته. فبعد الهجرات اليمنية إثر انهيارات السد، تشكّل الكيان العربي، ووجد نفسه طرفاً ثالثاً في صراع الحضارات، فتغيرت موازين القوى الدولية، وصار العرب رقماً صعباً في معادلات الصراع بين المعسكرين العالميين: الفرس والروم، بعد أن كانوا مجرد أقلية، ووقوداً مستخدماً في حروب هاتين الإمبراطوريتين.

خبراء في أنظمة الري والسدود المائية، ومعنيون بمشروع سد مأرب، يشيرون إلى احتمالية انهياره بعد فيضانه الأخير، وأن الانهيار وارد مع غزارة الأمطار في الأعوام الأربعة الأخيرة، واستمرار تدفق السيول القادمة من أربع محافظات يمنية إلى السد.

من بين خمسة انهيارات، على الأرجح، تعرض لها سد مأرب القديم تاريخياً، في حقب مختلفة ومتباعدة زمنياً، كانت الحروب والغزو والاحتلال الخارجي وضعف الدولة وهشاشة السلطة المركزية في فترات الحكم المحلي، عوامل حاسمة في انهيارات السد الفادحة، وهي الآن تتوافر جميعاً بجانب هدير السيول.

ولعب اليمنيون المهاجرون (نازحو السد) دوراً محورياً وحاسماً في نشر رسالة الإسلام وفتوحاته، وتثبيت أركانه، وشهدت عدة مصادر وتوثيقات تاريخية، بيد اليمنيين الطولى في تحرير اليمن وعُمان والمنطقة العربية برمتها من هيمنة الفرس والروم، وصولاً إلى تقويض معسكريهما حتى آخر حجر.

السد، وحدة قياس الدولة اليمنية

يشير أحد النقوش المسندية إلى أن إحدى عمليات الإصلاح التي تمت لإعادة تأهيل السد القديم في فترات تصدعه، كانت تتطلب حوالى 20 ألف رجل عامل، وأكثر من 14 ألفاً من حيوانات الإبل والجمال التي تقوم بحمل ونقل الأحجار، كما تتحدث نقوش أخرى عن أعمال ترميم وصيانة كانت تتم بشكل دوري، وتحت إشراف مستمر لما يستجد على السد من أحوال، خاصة في الصيف، موسم سقوط الأمطار وجريان السيول. ومن سطور هذا النقش الذي يتحدث عن متطلبات الإصلاح الجزئي للسد، يمكننا استنباط عدة إشارات هامة، منها أن عملية بناء سد مأرب الأساسية، أو إعادة بنائه بعد انهياره كلياً، تتطلب حتماً أضعاف هذا العدد من القوة البشرية والإبل والآلات والمعدات والنفقات التشغيلية.

أما الإشارة الأهم، فهي أن عمليات البناء والترميم وإعادة البناء ما كانت تتم إلا في ظل دولة قوية، ومجتمع واعٍ بجدوى المشروع. وفي عالم ما قبل الصناعة والتعداد السكاني، قد يشير النقش ضمناً إلى مساهمة مجتمعية فاعلة من عموم المناطق اليمنية في تمويل المشروع وأعمال تنفيذه، ما يعني أن الحضارة كمفهوم هي نقطة تقاطع عضوي بين دولة قوية مستقرة، ومجتمع واعٍ وحيوي.

السد الحديث.. عوامل القوة والانهيار

حسين الصادر، وهو كاتب سياسي من أبناء محافظة مأرب، يرى أن مشروع سد مأرب في ظل المستجدات المناخية الحالية بحاجة إلى إعادة نظر فيه برمته، وإلى خطط طارئة تستجيب للمتغيرات. ومن بين هذه الخطط يشير الصادر إلى أهمية تجاوز المجتمع المحلي "تركيبته المعقدة"، وإن نجاح أي مشروع عظيم مقرون بثقافة الإنسان ووعيه عنه "وليس عيباً أن نقول أن المجتمع المحلي في مأرب يحتاج إلى إعادة هيكلة ليستطيع مواكبة التحولات".

الحضارة كمفهوم هي نقطة تقاطع عضوي بين دولة قوية مستقرة ومجتمع واعٍ وحيوي.

ومعلوم أن مأرب مجتمع قبلي، وحتى في عصر الدولة السبئية في تاريخ اليمن القديم، كانت مأرب مجموعة اتحاد قبلي. وبما أنها تقوم اليوم على اتحاد قبلي متماسك اجتماعياً من أربع عشائر قبلية تلتقي في صف الدولة ومواجهة المشروع الحوثي، فقد يكون هذا عاملاً مهماً من عوامل القوة للسد واستقراره. بيد أن حديثاً عن بيروقراطية إدارية تتحكم قبلياً بإدارة مشروع السد ومجرياته يفاقم من مخاوف المواطنين من استخدام السد قرباناً لأغراض سياسية وعسكرية.

هناك من جهة أخرى أن مأرب ما زالت واقعة، مع عدة محافظات يمنية، في مجال المنخفض الجوي وتأثيراته العاصفة. ويرِد على لسان أبناء مأرب توصيف لطيف لفيضان سد مأرب الأسبوع الماضي. يقولون: "الماء نزح" في إشارة إلى خروجه عن مساره الطبيعي. فقد ارتفع منسوب المياه في خزان السد إلى 32 متراً وهو مستوى الخطر، ما يدفع بتصريف مياه السيول الدافقة إلى السد عبر قناة طوارئ تبعد عن خزانه ستة كيلومترات. تعرف هذه القناة بـ"المفيض" أو "المهرب"، ويطلق عليها أهل مأرب "المنزاح". والمنزاح ليس إلا إحالة تاريخية على أكبر موجات النزوح الجماعي القديم لليمنيين بفعل انهيار السد.

***

نزح الماء إذاً عن مساره الطبيعي، جارفاً على طريقه أربعة مخيمات للنازحين الذين بدأوا رحلة تشرد جديدة، وها هم بأقدام حافية على مسار انزياح لغوي لمصطلح "المنزاح" وظاهرته الأنثروبولوجيّة في معجم الشتات الخالد..

مقالات من اليمن

"الزامل"، ورقصة الحرب في اليمن

مثّلت معركة غزّة الجارية، التي انطلقت في السابع من أكتوبر/تشرين أول2023، مرحلةً جديدة في مسيرة الشعر الشعبي الحماسي أو "الزامل"، إذ تجاوز الفضاء المحلي باستيعابه مضامينها، ومواكبته لأحداثها، بدءاً من...

للكاتب نفسه

تزوير وتكفير الآثار اليمنية!

في منتصف آذار/ مارس الماضي 2021، وبالتزامن مع الذكرى السنوية السابعة لـ"عاصفة الحزم"، دعا محافظ ذمار إلى فتح باب المنافسة أمام المصممين الفنيين والنحاتين لتشييد نصب تذكاري وسط المدينة للملك...