في قرية "بغوص"، جنوب بني سويف، شعر أحمد سيد بضيق تنفس مفاجئ مصحوبٍ بسخونة لا تنخفض على الرغم من تناوله بعض الأدوية. انتابه الخوف مع تزايد الحديث عن وباء كورونا ومشابهته للأعراض التي لديه، فقرر الذهاب إلى مستشفى "الفشن" القريبة المخصصة لاستقبال حالات كورونا ضمن 7 مستشفيات في المحافظة.
فوجئ هذا المزارع الذي تخطى عامه الستين، بعدم وجود جهاز PCR. نصحه طبيب الاستقبال بالذهاب إلى قسم الأمراض الصدرية لإجراء فحص بالأشعة، مع دفع 500 جنيه مقابل ذلك. لكنهم أخبروه هناك بأن الجهاز الوحيد للأشعة في المستشفى معطل منذ يومين. يؤكد طبيب له أن أعراضه توحي بإصابته بكورونا. وعلى الرغم من تدهور صحته، يرفض مسؤولو المستشفى وضعه بقسم الرعاية لعدم شغور أحد أجهزة التنفس الثلاثة الموجودة، بالإضافة إلى غياب سرير يمكن أن يستقبله. نصحه الطبيب آسفاً بالتزام منزله، وعدم مخالطة أفراد أهله، مع إعطائه بعض الأدوية.
لحظة صعبة عاشها هذا الأب لأربعة أبناء خلال عودته للمنزل، إذ تذكر مصير اثنين من أبناء قرية مجاورة توفيا في اليوم السابق بسبب المرض نفسه. هل عليه الاستسلام للموت؟ هل ينبغي عليه الذهاب لمستشفًى خاص، كتلك الفكرة التي طرحها الطبيب في المستشفى الذي لم يركز كثيراً في وضعه المادي؟ هل يستطيع توفير 5 آلاف جنيه يومياً على الأقل، ولفترة لا يعلمها إلا الله؟ استبعد سريعاً هذه الفكرة. بعد 4 أيام لفظ أحمد سيد أنفاسه الأخيرة في سكون.
في قرى بني سويف والمحافظات المجاورة بوسط مصر، كالمنيا والفيوم، حيث يعمل غالبية الأهالي في الزراعة، أو هم موظفون بدرجات دنيا في بعض المصالح الحكومية والمصانع الصغيرة، لا ينطبق المثل القائل بأن الصحة للفقراء والمال للأثرياء. إذ يعلم الجميع أن الإصابة بكورونا المستجد مرادفها الموت، وأن المصابين لن يجدوا من يعالجهم من هذا الفيروس الذي لا يرحم أجسادهم النحيلة المليئة بالأمراض، نتيجة المهن الصعبة والغذاء الذي لا يغذّي، ومياه الشرب المليئة بالشوائب، والتي تسبب الأمراض أكثر مما تبقيهم على قيد الحياة.
منذ زمن طويل، تعوّد أهالي القرى على غياب خدمات الدولة المختلفة. واليوم يتأكدون من غيابها، لكن بمرارة. فبعد 4 أشهر من دعاية حكومية تقول بأن الدولة تسيطر على الفيروس بتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، ظهرت أمام أعينهم حقيقة لا تكذبها الشاشات الزجاجية، فلا أماكن، ولا أجهزة تنفس متاحة في المستشفيات، ولا حتى توعية بمخاطر المرض أو كيفية التعامل معه. مأساة ينبغي أن يعيشوها بصمت، بدون كاميرات أو أخبار تنقل أزمتهم أو نقص الخدمات التي يعانون منها.
وزارة الصحة المصرية لا تصنّف بني سويف ضمن المحافظات الأكثر إصابة بفيروس كورونا المستجد. ولكن الحقيقة على الأرض تعكس صورة مغايرة، فالفيروس يتوسع دون رادع مع إصابات ووفيات لا تدخل في إحصاءات الدولة، طالما أن المتوفين يموتون في منازلهم. يحاول الأهالي بصعوبة شديدة تجنب المرض مع التخلي عن عادات السلام والتواصل المعهودة، وتجنب الشوارع التي تظهر فيها إصابات، لكن الخيارات أمامهم تظل محدودة.
"إجراءات الحماية" رفاهية غير مسموحة
هنا في المحافظة، "ابقَ في المنزل"، تلك الدعوة التي أطلقت على الصعيد العالمي لمواجهة الوباء، لا تلفت انتباه الأهالي، لا لشيء سوى لصعوبة تطبيقها، في ظل نقص الموارد وغياب أي شبكات إعانة من الدولة. من القرى إلى الأحياء الفقيرة في المحافظة، إجراءات مثل التباعد الاجتماعي وشراء وسائل الحماية وغيرها، هي رفاهية غير مسموحة لهم، ولا يمكن لفقراء أمثالهم تحمل تكلفتها. فهذا الوباء الذي أجبر أبناءهم العاملين في القاهرة والمدن الكبرى على العودة إلى القرى، مع توقف جزء كبير من النشاط الاقتصادي في البلاد، قضم دخلهم الضئيل، وضغط على ظروفهم المعيشية المتدهورة في الأساس. أمام هذا الفقر المتفاقم ومحدودية الدخل، لجأ البعض في القرى إلى بيع جزء من حيواناتهم التي يعتمدون عليها في الدخل، على الرغم من تراجع أسعارها، لتوفير المعيشة لبعض الوقت. أُجبر الأهالي على التخلي عما تبقى من المأكولات الباهظة السعر - بالنسبة لهم - التي قللوا منها في الأساس خلال الأعوام الماضية بسبب تفاقم الفقر، كوسيلة للوقوف في وجه تبعات الوباء.
في قرى بني سويف والمحافظات المجاورة بوسط مصر، كالمنيا والفيوم، حيث يعمل غالبية الأهالي في الزراعة، أو هم موظفون بدرجات دنيا في بعض المصالح الحكومية والمصانع الصغيرة، لا ينطبق المثل القائل بأن الصحة للفقراء والمال للأثرياء.
منذ مجيء الرئيس عبد الفتاح السيسي وسياسات التقشف التي طبقها، لا يكف نمط استهلاك الأسر عن الانحدار والتردي. جاء كورونا المستجد ليأخذ بهذا الاستهلاك خطوة جديدة للأسفل. تكشف بيانات مركز التعبئة والإحصاء في 21 حزيران/ يونيو، تزايد اللجوء إلى الأرز وزيت الطعام والبقوليات التي تكفي للبقاء على قيد الحياة فحسب، على حساب اللحوم والطيور والأسماك والفاكهة، بعد انخفاض دخل أكثر من 73 في المئة من الأسر المصرية.
ومع التأزم المتزايد للوضع، وعدم ظهور بارقة أمل لنهاية الوباء في الأفق، عاد الأبناء مجدداً إلى القاهرة في نهاية أيار/ مايو الماضي، مخاطرين بحياتهم في أعمال تجبرهم على الاختلاط الواسع، والتواصل المباشر مع مئات الأشخاص يومياً، مع قبول أجور تصل إلى نصف ما كانوا يتقاضونه قبل الأزمة، على أمل الحصول على بعض المال، ومواصلة تحويل المساعدات لأسرهم. يتجنب الأبناء منذ حينها العودة إلى أسرهم، ويكتفون بإرسال الأموال عبر البريد.
حظيت بني سويف بمكانة هامة على الخارطة الاقتصادية للجيش والدولة منذ رئاسة الرئيس السيسي في 2014. فهذه المحافظة تطل على 6 محافظات وتربط شرق وغرب البلاد، كما هي بوابة الشمال باتجاه القاهرة الكبرى، تتمتع بثروات طبيعية هامة، جعلتها بؤرة لاستثمارات كبيرة تكتسي في أغلبها اللون الكاكي. وهي باتت تضم أكبر مصنع لإنتاج الأسمنت في الشرق الأوسط، ومجمعاً لتصنيع الرخام والجرانيت، ومصنعاً للحديد والصلب ومزرعة للإنتاج الحيواني، وكلها من تنفيذ الجيش. لكن الصحة ظلت بعيدة عن هذه الاستثمارات.
والسبب أن الاستثمار في قطاع الصحة في محافظة يقبع ثلث إلى نصف سكانها تحت خط الفقر، يتناقض مع استراتيجية الدولة التي ترى في المشروعات والخدمات وسيلة ربحية، ينبغي أن تحقق عوائد، مهما كان الواقع الكارثي للمواطنين. نظرة "البيزنس" لدى الدولة في التعامل مع الخدمات التي تقدمها للمواطن، تعكس استفحال هذا التوجه النيوليبرالي المتناغم مع رغبات ومصالح طبقة رجال الأعمال دون اعتبارات لخطورتها على حياة المواطن.
في نهاية نيسان/ أبريل الماضي، أثارت تصريحات نجيب ساويرس بشأن ضرورة عودة النشاط الاقتصادي وفتح البلاد من جديد، نقاشاً أقرب للسخرية الحزينة بين الأهالي في بني سويف، في الوقت الذي ضرب الفيروس العديد من القرى في المحافظة مع بداية الأزمة. يدور الحديث عن الإصابات التي وقعت في إحدى قرى المحافظة، لعمال في شركة "أوراسكوم للإنشاءات" التي يملكها ساويرس، خلال عملهم في العاصمة الإدارية في الشهر نفسه.
بعد 4 أشهر من الدعاية الحكومية بأن الدولة تسيطر على الفيروس بتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، تظهر حقيقة لا تكذّبها الشاشات الزجاجية. فلا أماكن، ولا أجهزة تنفس متاحة في المستشفيات، ولا حتى توعية بمخاطر المرض أو كيفية التعامل معه. مأساة تُعاش بصمت، بدون كاميرات أو أخبار.
لا يكف نمط استهلاك الأسر عن الانحدار والتردي منذ مجيء الرئيس عبد الفتاح السيسي وسياسات التقشف التي طبّقها. جاء كورونا المستجد ليأخذ بهذا الاستهلاك خطوة جديدة للأسفل. تكشف بيانات مركز التعبئة والإحصاء عن تزايد اللجوء إلى الأرز وزيت الطعام والبقوليات التي تكفي للبقاء على قيد الحياة فحسب.
يتهكم الأهالي من توصيف الملياردير لما يحدث لرجال الأعمال بـ"مذبحة اقتصادية" بسبب توقف النشاط، دون أن يفكر لوهلة في "المذبحة الإنسانية" التي تهدد ملايين الفقراء، مع القليل من خيارات المناورة لديهم في ظل غياب خدمات صحية تعطيهم بعض الثقة إذا ما تعرضوا للإصابة. الآن، أُعيد النشاط الاقتصادي بكامل طاقته كما يريد النظام ورجال الأعمال، لينجو ساويرس من مذبحته الاقتصادية التي حذّر منها، ويُترَك ملايين الفقراء يواجهون مذبحتهم الخاصة.
بروباغندا تفقد تأثيرها في الطبقات الفقيرة
بروباغندا النظام كالحرباء تتلون بتغير الظروف والمخاوف. مع بداية الأزمة وعدم الانتشار الواسع لفيروس كورونا، تفاخرت الحكومة ووسائل الإعلام بنجاح استراتيجية الدولة بفضل بعض إجراءاتها المطبقة، التي تضمنت الحظر الجزئي، في كبح جماح المرض في الوقت الذي هزم الوباء دولاً أخرى أكثر تقدماً مثل فرنسا وإيطاليا. حاولت مصر التأكيد على هذه "السيطرة"، بتقديم المساعدات لإيطاليا والصين والولايات المتحدة (!)، ونشر فيديوهات للقوات المسلحة تشارك في عمليات تطهير المؤسسات والشوارع ضد الفيروس.
تصاعدت هذه النبرة الدعائية مع تأخر انتشار الوباء بشكل واسع في مصر حتى بداية شهر أيار/ مايو الذي شهد بدء القفزات الكبيرة للفيروس. فعلى الرغم من هذه المهلة التي منحها الوباء للنظام، بنسبة إصابات أقل من المئة يومياً، إلا أن أي استعداد صحي لمواجهة الكارثة التي تلوح في الأفق ظل خارج حسابات المسؤولين.
يجري في مصر.. يجري كل يوم
25-06-2020
مع تفشي الوباء، اكتشف المواطن سريعاً أن الإجراءات التي طبقتها الحكومة، لم تكن سوى محاولة لمنع وصول الوضع إلى نقطة ينكشف فيها خواء هذه البروباغندا وعدم وجود أي استعداد يذكر. لجأ النظام إلى أسلوبه القديم في التهرب من المسؤولية بتوجيه أصابع الاتهام إلى "وعي المواطن" الذي لم يلتزم بالإجراءات التي وضعها.
في تصريحات صحفية، أرجع مسؤول بوزارة الصحة القفزات الكبيرة في وباء كورونا خلال شهر أيار/ مايو الماضي، في الغالب إلى السلوكيات الخاطئة لبعض المواطنين، وعدم اتباع الإجراءات الوقائية اللازمة، بالإضافة إلى زيادة عدد المخالطين للحالات المصابة. أما الدولة، فقد توسعت في إجراءات فحص كورونا، بحسب المسؤول. وقد أكد الرئيس السيسي بأن الحكومة "أخذت بالأسباب وبذلت كل الجهد لمواجهة كورونا"، مع نشر شهادات لمصابين على القنوات التليفزيونية، يشكرون جهود الدولة والرعاية الكاملة التي وفرتها لهم حتى شفائهم. تفصح إدارة أزمة كورونا في مصر، عن أن حماية "صورة النظام الجميلة" التي يروج لها، وينفق عليها أموالاً باهظة منذ 2014 أهم من صحة المواطن نفسه.
الفيروس يتوسع دون رادع مع إصابات ووفيات لا تدخل في إحصاءات الدولة، طالما أن المتوفين يموتون في منازلهم. حاولت السلطة سد كل ثقب تنفذ منه أصوات محتملة تكشف تقاعسها، بحملة ترهيب واعتقالات للأطباء الذين يجرؤون على التحدث عن نقص الإمكانيات والوضع الكارثي في المستشفيات.
بالتوازي، حاولت السلطة سد كل ثقب تنفذ منه أصوات محتملة تكشف تقاعسها، بحملة ترهيب واعتقالات للأطباء الذين يجرؤون على التحدث عن نقص الإمكانيات والوضع الكارثي في المستشفيات. وأوضحت منظمة العفو الدولية في بيان نشرته في 18 حزيران/ يونيو، أن الأطباء في مصر بين خياري "الموت" بالوباء أو "الاعتقال" من السلطات إذا ما تجرأوا على انتقاد غياب الخدمات ومعايير السلامة.
متوحّدون عالقون في زمن الكورونا
31-05-2020
في بني سويف، تظهر خيبة أمل المواطنين على أبواب المستشفيات دون دهشة تجاه هذه البروباغندا ، تلك الدعاية التي ربما صدقها البعض في البداية طالما لم تخضع حينها للاختبار. في أيار/ مايو، أعلنت وزارة الصحة أن 7 مستشفيات في المحافظة على أتم الجاهزية لاستقبال حالات الإصابة. وتسبب اختيار هذه المستشفيات في حالة من الإحباط للأهالي الذين تذكروا تجارب سيئة لهم في الماضي في هذه الأماكن بسبب تجهيزها المتدهور، بالإضافة إلى امتلائها الدائم بالمرضى حتى قبل الوباء. كالعادة، يصْدق حدس المواطن، فالجاهزية ليست سوى في تصريحات المسؤولين فقط، بينما لا تتوافر في المستشفيات أماكن لهم.
على فيسبوك، تحولت المجموعات التي أنشأها أبناء المحافظة، إلى ما يشبه نشرة استغاثات للأهالي الباحثين عن سرير في مستشفى لأفراد أسرهم المصابين بهذا المرض الذين يجهلونه. يتصلون بالأرقام التي وضعتها وزارة الصحة، التي تدخلهم في متاهة من عمليات "تحويل المكالمات" تنتهي بدون حل. لا يحظى غالبيتهم بـ "واسطة" تساعدهم على الحصول على مكان بالمستشفى، ذلك الامتياز المهم الذي يتمكن من خلاله الأثرياء الحصول على مكان في المستشفى حتى وإن كانت حالتهم غير خطيرة، كما يؤكد أحد الأطباء في مستشفى الحميات ببني سويف.
أيام قليلة تمر، ويعلن الشخص نفسه على فيسبوك وفاة الحالة التي كان يبحث عن سرير لها. هذا التجاهل من الحكومة وتفاقم الوفيات خارج المستشفيات، دفع بعض الأهالي إلى تنظيم مبادرات لشراء اسطوانات الأكسجين بالمحافظة وتوفيرها لبعض المصابين. لكن تظل هذه المبادرات ضئيلة أمام الوباء المستشري.
وسط حالة من الفزع اليومي والفقر المتصاعد، يزكيهما الوباء في المناطق الريفية والفقيرة، يشعر الأهالي أن الفيروس يقتلهم ببطئ قبل أن يصيبهم. وضع مزرٍ سيستمر النظام في محاولة إخفائه أو التهرب من مسؤوليته عنه، عبر آلته الدعائية الهائلة التي لا تقبل تعكير صفو صورته الجميلة.