يندر أن تجد فتاة أو سيدة مصرية لم تتعرض للتحرش الجنسي، بالقول أو بالفعل. الظاهرة منتشرة في المدن تحديداً، عكس المناطق الريفية التي يعرف السكان فيها بعضهم. وتشتد الظاهرة أيام الأعياد التي تشهد وقائع تحرش جماعي!
نشاط واقعي وافتراضي ضد التحرش
مواقع التواصل الاجتماعي كانت ساحة لإثارة القضية ونقاشها، من خلال صفحات على الفايسبوك، منها: "ضد التحرش"، "أنا مش هاسكت على التحرش"، "قطع إيدك"، "ثورة البنات"... صفحات وجدت فيها الفتيات الفرصة لسرد وقائع التحرش بهن في مراحل مختلفة من أعمارهن، ومنهن من كانت طفلة أو في بداية المراهقة. وتبادل المشاركون الآراء حول أسباب الظاهرة: انتشار البطالة وغياب التربية السليمة وقلة الوعي الديني الصحيح، بخلاف ذاك الذي يكتفي بالمظهر، ونظرة المجتمع إلى المرأة نظرة دونية، بالإضافة إلى ما تبثه وسائل الإعلام من مواد مثيرة للغرائز. البعض اتهم الشرطة بالتقصير، والبعض الآخر ألقى اللوم على الفتاة التي تسكت على التحرش. وكان هناك رفض عام لتحميل المرأة مسؤولية تعرضها للتحرش نتيجة ارتدائها ملابس غير "محتشمة"، حيث أكدت كثيرات على تعرضهن للتحرش رغم تغطيتهن أجسادهن، فضلاً عمن تعرضن للتحرش وهن في سن الطفولة. وطالب كثيرون بتشديد العقوبات على المتحرشين.
لم يقتصر الأمر على الواقع الافتراضي، بل جرى تنظيم فعاليات على الأرض في القاهرة ومحافظات أخرى، تمثلت في وقفات وسلاسل بشرية وغرافيتي ضد التحرش. كما نظمت إحدى الحركات الشبابية، "حركة بصمة"، دوريات خلال أيام العيد داخل محطات مترو الأنفاق بالقاهرة؛ لضبط المتحرشين، ومنع الرجال من الركوب في العربات المخصصة للسيدات.
دراسة
كشفت دراسة أعدها "المركز المصري لحقوق المرأة" عام 2008 بعنوان "غيوم في سماء مصر"، تناولت عينة عشوائية بلغت 2020 مفردة، قُسمت بالتساوي على الذكور والإناث، بالإضافة إلى 109 مفردات من النساء الأجنبيات القادمات إلى مصر لأغراض مختلفة، وذلك في 3 محافظات مصرية هي القاهرة والجيزة والقليوبية، أن 83 في المئة من المصريات و98 في المئة من الأجنبيات تعرضن بالفعل للتحرش الجنسي بأشكاله المختلفة. وقد اعتمدت الدراسة تعريفاً إجرائياً للتحرش بأنه "أي سلوك جنسي متعمَّد من قبل المتحرش، غير مرغوب فيه من قبل ضحية المتحرش، ويسبب إيذاء جنسياً أو نفسياً أو بدنياً أو أخلاقياً للضحية". وعن أكثر أشكال التحرش التي تتعرض لها النساء، جاء الصفير والمعاكسات الكلامية في المرتبة الأولى (67.9 في المئة)، يليه النظرة المتفحصة لأجسادهن (46.6 في المئة)، ثم لمس الجسد (40 في المئة)، ثم قيام المتحرش بالتلفظ بألفاظ ذات معان جنسية، ثم المعاكسات التليفونية، تليها الملاحقة والتتبع من قبل المتحرش. وأخيراً كشْف المتحرش لبعض أعضائه الجنسية أو التلميح بها (10.9 في المئة). أما بخصوص الأماكن، فجاء الشارع في المرتبة الأولى، تليه المواصلات العامة، فالأسواق و"المولات"، ثم المدارس والجامعات، ثم الشواطئ. وبالنسبة للأجنبيات حصلت الأماكن السياحية على نسبة 43 في المئة. أما بالنسبة للمظهر العام للنساء اللواتي تعرضن للتحرش، فقد أشارت النتائج إلى أن أكثر من تعرضن للتحرش كن يرتدين الحجاب (31.9 في المئة تنورة وبلوزة وحجاب، 21 في المئة بنطلون وتونيك وحجاب، 19.6 في المئة العباية أو الإسدال).
وعن مواصفات الشخص المتحرش من حيث الفئة العمرية أجابت 67.4 في المئة من المصريات بأن المتحرش يكون فى الفئة العمرية من 19 إلى 24 عاماً، و62.5 في المئة من 25 إلى 40 عاماً، و38.8 في المئة لكل من الفئتين العمريتين، الأطفال تحت سن 18، والكهول من سن 41 فأكثر.
أما عن الفئة العمرية للمتحرَش بها، فقد ذهبت 48.4 في المئة من المصريات إلى أن كل النساء يتعرضن للتحرش بمختلف أعمارهن، مقابل 51.4 في المئة من الأجنبيات.
وعن حال المتحرش المهنية، جاء السائقون في المرتبة الأولى، سواء سائقو التاكسي أو الميكروباص أو السيارات الخاصة، يليهم طلبة المدارس والجامعات، ثم العاطلون، فيما ذهبت أكثر من 60 في المئة من الأجنبيات المستطلعة آراؤهن إلى أن المتحرشين بهن يكونون من رجال الأمن والشرطة مقابل 9.9 في المئة من المصريات عيّنَ هذه الفئة.
وفيما يتعلق بالذكور، أكد 62.4 في المئة على قيامهم ببعض سلوكيات التحرش الجنسي، 49.7 في المئة منهم بصفة يومية. وعن شعور المتحرش أثناء قيامه بالتحرش، أجاب 41.8 في المئة بأن ما يفعلونه يشبع رغباتهم الجنسية، وذهب 23.1 في المئة إلى أنهم يشعرون برجولتهم وبثقتهم في أنفسهم، و19.3 في المئة إلى أنهم لا يشعرون بشيء لأنهم تعودوا على ذلك ولا يحصلون على أي متعة، و13.9 في المئة إلى أنهم يشعرون أن في ذلك إهانة وإذلالاً للمرأة، و13 في المئة إلى أنهم يشعرون بالقرف. وعن أسباب قيامهم بالتحرش، يقول 53.8 في المئة من المتحرشين إن "الضحية ترتدي ملابس غير لائقة"، و42.4 في المئة إن "المرأة كانت جميلة"، 31.8 في المئة إن "المرأة أظهرت إعجاباً بهم"، 30.9 في المئة يرون أن "كل امرأة تكون سعيدة عندما تتعرض لذلك"، و27.7 في المئة "إشباعاً لرغبة جنسية"، 13.9 في المئة "إشغالاً لوقت فراغهم"، 7.8 في المئة "تدعيماً لثقتهم في أنفسهم". هذه النتائج تنطبق على العينة التي أجريت عليها الدراسة، ولا تختزل المجتمع المصري كما أكدت نهاد أبو القمصان رئيسة "المركز المصري لحقوق المرأة" في أعقاب نشر الدراسة.
آراء الاختصاصيين
يقول د. محمد المهدي أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، إن غالبية المتحرشين يقعون في فئة "المتحرش العرَضي"، الذي يجد نفسه في موقف يعطيه فرصة للتحرش، ويعلم أنه لن يتعرض لعقوبة قانونية أو مجتمعية. وإلى جانب ذاك، هناك اضطرابات شخصية أو جنسية، كالشخصية السادية التي تستمتع بإيذاء الضحية وإهانتها، وهذه أقرب إلى شخصية المغتصِب. وهناك "الاضطراب الاحتكاكي" القائم على احتكاك المتحرش بضحيته، وهناك "الاستعراء الجنسي" حيث يظهر المتحرِش بعض أماكن جسده أمام الضحية ويشعر بالاستمتاع. ويؤكد د. المهدي على أنه، وفي كل تلك الحالات، لا يمكن اعتبار المتحرش مريضاً نفسياً، ولا مبرر لإعفائه من المسؤولية وتحويله إلى ضحية.
وبالنسبة للآثار النفسية التي تتعرض لها المتحرَش بها، يشير د. المهدي إلى أن هناك آثاراً نفسية قصيرة المدى تحدث بعد التحرش مباشرة، فتسيطر على الضحية مشاعر الخجل والخوف والقلق الشديد والإهانة والغضب، وأحياناً الإحساس بالذنب. وهناك آثار طويلة المدى تتمثل في تكوّن نظرة سلبية لدى المرأة تجاه الجنس الآخر، مما يؤثر على قبولها للرجل كشريك حياة، إذ قد تعاني من نفور من العلاقة الزوجية التي ترتبط في ذهنها بما حدث لها من تحرش، وتشعر أن هذه العلاقة انتهاك للحرية والكرامة، كما تحمل شعوراً عدائياً للمجتمع الذى تراه منفلتاً ومنهار القيم، وتصبح أكثر حدة وعدوانية وشراسة، وتتعامل بخشونة شديدة، لتحمي نفسها من أية محاولة للتحرش بها.
من الناحية القانونية، يؤكد د. أمين مصطفى، أستاذ ورئيس قسم القانون الجنائي بكلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، على أن قانون العقوبات المصري الحالي يكفي بما حواه من مواد لمواجهة الظاهرة. فالمادة 306 مكرر من قانون العقوبات تنص على أنه "يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنة وبغرامة لا تقل عن 200 جنيه ولا تزيد عن 1000 جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من تعرض لأنثى على وجه يخدش حياءها بالقول أو بالفعل في طريق عام أو مكان مطروق"، كذلك يعاقب القانون على المساس بجسد المرأة أو بعورة من عوراتها، ويعتبر ذلك جريمة هتك عرض، وتشكل جناية يعاقب عليها. كما تنص المادة 268 من قانون العقوبات على السجن المشدد مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد على 7 سنوات، فيما تصل العقوبة إلى 15 عاماً إذا كان عمر الفتاة أقل من 16 سنة، وهى المادة التي استند عليها الحكم القضائي المُشتهر الذى صدر عام 2008 ضد شخص تحرش بإحدى الفتيات حيث حكم عليه بالسجن 3 سنوات.
المشكلة إذاً في المجتمع الذي يتساهل مع جريمة التحرش ويتقبلها، بل ويلقي اللوم على الفتاة وكأنها هي المسؤولة. كما أن الفتيات اللاتي يتعرضن للتحرش لا يقمن بالإبلاغ، ومن ثم فهناك حاجة إلى حملات توعية لتشجيعهن على الإبلاغ، وفق د.مصطفى. وعن صعوبة إثبات واقعة التحرش، يرى د.مصطفى أنه يجب صياغة المحضر بشكل جيد في قسم الشرطة. كما للقاضي الجنائي الحرية في تكوين قناعته، ويصدر حكمه من خلال أقوال المجني عليها وأقوال الشهود، خاصة إذا لم تكن هناك علاقة تربط بين المجني عليها والمتهم، فما الذى يدفعها للإبلاغ عنه في هذه الحال؟ ويضيف أنه "من المهم أن تكون لدينا ثقافة مجتمعية تجعل من يشهد واقعة التحرش يساعد في الإمساك بالمتحرش قبل أن يهرب".
وأكدت د. آمنة نصير أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، على أن ظاهرة التحرش لم تحظَ بدراسة دقيقة، مطالبة الجامعات والمراكز البحثية بإجراء دراسات ميدانية وفق منهج علمي، لامتلاك القدرة على طرح الحلول. وانتقدت تناول وسائل الإعلام لهذه القضية، فقد اعتادت على تناول القضايا بسطحية والجري وراء التصريحات المثيرة من غير إفادة حقيقية للمجتمع. وعن التناقض الواضح بين انتشار مظاهر التدين في المجتمع وبين تفشي ظاهرة التحرش، قالت: "اهتممْنا بالمظهر في حين نعاني فساد وخواء الجوهر. القضية أخلاقية في المقـام الأول وليست مسألة حجاب أو لحية".