عرس الدم السوري الذي لا ينتهي!

تقود روسيا الملف السوري وتتحكم في كثير من مفاصله، بما في ذلك إنشاء المنطقة الآمنة. وقد جاء الاتفاق الروسي - التركي الجديد بعد اجتماع طويل بين الرئيس الروسي ونظيره التركي في سوتشي يوم 22 تشرين الأول/اكتوبر الماضي، انتهى بإعادة ترتيب أوضاع منطقة شرق الفرات بينهما، مع وجود قوات أميركية فيها تشارك في دوريات مع القوات التركية
2019-11-21

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
بالقرب من بلدة رأس العين الكردية السورية، فيما تتصاعد أعمدة الدخان لتحجب الرؤية عن الطائرات الحربية التركية، في تشرين الأول/ اكتوبر الماضي (وكالة الصحافة الفرنسية - دليل سليمان)

نقلت مصادر محلية مطلع الشهر الحالي، وعلى نطاق ضيّق، أن القيادة الروسية رفضت إصدار الجانب الحكومي السوري بياناً إعلامياً عن تحقيق الجيش السوري "انتصاراً" عسكرياً بعد انتشار القوات الحكومية شرق وشمال البلاد. وخلافاً لما كان يحدث عقب السيطرة على أي منطقة جديدة، فإن البيانات الرسمية لم تذكر أي من هذه "الانتصارات".

تغيرات المواقف المتسارعة

تفاوتت نبرة البيانات الحكومية التي ظهرت قبل وأثناء العدوان التركي اﻷخير (الثالث) على الشمال السوري بين الشدة واللين. لكن الموقف الحكومي بقي متناسقاً مع نفسه، في حدوده الدنيا، برفض التدخل التركي والالتزام ب"الدفاع عن الأرض السورية بكل الطرق المتاحة". وفي حدوده العليا، التقط تفاوت القوة العسكرية بين البلدين (لصالح تركيا بالطبع)، فبقي يطالب باعتماد اتفاق أضنة الموقّع عام 1998 بين البلدين كنقطة مرجعية في عدم تبرير أسباب العدوان، ثم في تحميل "الإدارة الذاتية"الكردية مسؤولية التسبب بالعدوان عدة مرات بتصرفاتها، وأن ما فعلته بالتعامل مع "الأميركي" يرقى إلى مرتبة "الخيانة". ووفق البيان الرسمي للخارجية السورية فإن "من يرتمي بأحضان الأجنبي سيرميه الأجنبي بقرف بعيداً عنه".

كان لافتاً في البيانات الحكومية تجاه "اﻹدارة الذاتية" أنها لم تذكرها بالاسم أبداً، وأنها استخدمت مصطلح "المجموعات المسلحة" في إشارة إلى "قوات سوريا الديمقراطية"(قسد)، أي المصطلح المستخدم مع فصائل المعارضة المسلحة مع إضافة صفة "الإرهابية" إلى اﻷخيرة. ويوضح الأمر الطريقة التي تنظر بها دمشق إلى الإدارة باعتبارها سلطة أمر واقع "مؤقتة وزائلة".

أدّى تطور الأحداث المتلاحق وتدفق القوات التركية واجتياحها منطقة واسعة، والوساطة الروسية مع "الإدارة الذاتية" إلى تغيّر موقف اﻷخيرة باتجاه طلب التعاون مع الجيش السوري ودعوته لاستلام إدارة تلك المناطق عسكرياً. ولكن ذلك لم يترافق مع تغيير في الخطاب الرسمي تجاه تلك اﻹدارة أو تجاه الكُرد ككل، وهو اتسم بنزعة أبوية شمولية تعتبر أن غفران خطيئة الإدارة ومناصريها أمرٌ ممكنٌ ضمن شروط النظام السياسية والعسكرية.

وضمن هذه اﻷبوية دعت وزارة الدفاع السورية"عناصر قسد للانخراط في وحدات الجيش للتصدي للعدوان التركي الذي يهدد الأراضي السورية"، مع استعدادها "استقبال العناصر والوحدات الراغبين بالانضمام إليها، وتسوية أوضاع المتخلفين عن الخدمة اﻹلزامية والاحتياطية، والمطلوبين أمنياً".

كان لافتاً في البيانات الحكومية تجاه "اﻹدارة الذاتية" أنها لم تذكرها بالاسم أبداً، وأنها استخدمت مصطلح "المجموعات المسلحة" في إشارة إلى "قوات سوريا الديمقراطية"(قسد)، وهو المصطلح نفسه المستخدم مع فصائل المعارضة المسلحة مضافاً إليه بخصوصها صفة "الإرهابية". ويوضح الأمر الطريقة التي تنظر بها دمشق إلى الإدارة باعتبارها سلطة أمر واقع "مؤقتة وزائلة".

لكن "قسد" ردّت في بيان رسمي بأن أفرادها "يستحقون الثناء والتكريم وليس تسوية أوضاع ومراسيم عفو من تلك التي تصدر بحق المجرمين واﻹرهابيين"، كما رفضت "قطعاً لغة الخطاب الموجهة للأفراد بدل توجيه الخطاب لقيادة قوات سوريا الديمقراطية" مؤكدةً ضرورة "التسوية السياسية وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية السورية" لضمان "وحدة الصفوف" إلا أنها أصدرت لاحقاً بياناً تشيد فيه "بتضحيات الجيش السوري في المعركة ضد الإرهاب التركي وضد داعش".

معارك مشتركة بين خصوم اﻷمس ضد العدوان التركي

لم يكن واضحاً في الاتفاقية الروسية - التركية (ما تسرّب منها) الموقف المحتمل من حدوث تضارب في مناطق السيطرة السورية ـ التركية، وبالتالي احتمال حدوث معارك بين الطرفين. وهو ما تجسد عملياً في الأسبوع الثاني من العدوان عبر قصف مدفعي تركي على مواقع القوات السورية أثناء محاولتها دخول بلدة رأس العين، حيث أدت المواجهات إلى مصرع خمسة أفراد من الجيش السوري، فيما ذبحت الفصائل الموالية لتركيا بالسكين عنصرين منه، كما قامت القوات التركية باحتجاز 18 عسكرياً من الجيش السوري سلّمتهم لاحقاً إلى القوات الروسية.

اتسم الخطاب الرسمي تجاه اﻹدارة الذاتية أو تجاه الكُرد ككل، بنزعة أبوية شمولية تعتبر أن غفران خطيئة تلك الإدارة ومناصريها أمرٌ ممكنٌ ضمن شروط النظام السياسية والعسكرية.

مازالت المعارك محتدمة في عدة نقاط على امتداد مناطق الحدود، تشارك فيها قوات الجيش السوري و"قوات سوريا الديمقراطية"، حيث تدير التنسيق بينهما غرفة عمليات روسية.

مازالت المعارك محتدمة في عدة نقاط على امتداد مناطق الحدود، تشارك فيها قوات الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية، حيث تدير التنسيق بينهما غرفة عمليات روسية. وتبدو هذه المعارك خروجاً مهماً عن التفاهمات الإقليمية بين شركاء الحرب السورية، وتؤسس من جانب أول إلى أن النزاع السوري قد ينزلق في ظل اﻷطماع التركية إلى حرب إقليمية، على الرغم من الوجود الروسي واﻷميركي، متسبباً في زيادة إشعال المنطقة التي شهدت حركة نزوح باتجاه العراق ومناطق الحكومة. ومنذ بداية الهجوم أغلقت المدارس، ويستقبل كثيرٌ منها الآن نازحين من مناطق مختلفة، فيما يحاول من يستطيع تحمل تكلفة النقل الوصول إلى مدينة الحسكة (80 كيلومترا جنوباً). أما البقية فسيتعين عليهم التكيف مع الظروف القاسية في مدن حدودية تواجه المزيد من الهجمات من الشمال.

سلّة الروسي الواسعة

يأتي الموقف الروسي برفض "إعلان الانتصار" بعد اتفاق روسي - تركي جديد جاء بعد اجتماع دام ست ساعات بين الرئيس الروسي ونظيره التركي في سوتشي يوم 22 تشرين الأول/اكتوبر الماضي، انتهى بإعادة ترتيب أوضاع منطقة شرق الفرات بينهما، مع وجود قوات أميركية في المنطقة تشارك في دوريات مع القوات التركية.

كما يبدو التدخل الروسي في مسألة لم تكن تهتم لها أو تشارك فيها كثيراً من باب التزام جديد بعدم تجاهل حضور الإدارة الذاتية المنضمّة مؤخراً للقطار الروسي. فمن الواضح لجميع اللاعبين أن الملف السوري تقوده روسيا وتتحكم في كثير من مفاصله، بما في ذلك إنشاء المنطقة الآمنة.

الانتشار العسكري للجيش السوري شرق البلاد أضاف إلى مناطق سيطرة الحكومة مساحات كبيرة تعادل ثلث البلاد تقريباً. وبذلك فإن دمشق من الرابحين في صفقة الاتفاق التركي –الروسي،على الرغم من حدية الموقف تجاه الغزو التركي وخسارة أراضٍ ومدنٍ استراتيجية.

تريد روسيا أن تضع جميع البيض السوري في سلتها. فهي تريد إرضاء تركيا في سوريا لأسباب كثيرة بعضها اقتصادي مرتبط بمشاريع الغاز الروسي فيها، وبعضها الآخر سياسي في محاولة مستمرة لجذب تركيا إلى فضائها الجيو-استراتيجي.. وهو ما نجحت به حتى الآن، خاصةً مع تردد الحديث عن انسحاب تركي محتمل من الناتو.وفي الملف السوري ترتبط الاسباب بامتلاك تركيا أوراقاً سورية على رأسها ورقة الفصائل المسلحة في نسختها الأخيرة بعد خروج كثير من الداعمين لها من الميدان.

الانتشار العسكري للجيش السوري شرق البلاد أضاف إلى مناطق سيطرة الحكومة مساحات كبيرة تعادل ثلث البلاد تقريباً، وبذلك فإن دمشق من الرابحين في صفقة الاتفاق التركي –الروسي، على الرغم من حدية الموقف تجاه الغزو التركي وخسارة أراضٍ ومدنٍ استراتيجية، خاصةً أن هذا الانتشار يمدّ الحكومة السورية بعناصر قوة اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية في ظل رفض العشائر العربية سياسات "اﻹدارة الذاتية". وقد يكون صحيحاً اﻵن أن "اﻹدارة الذاتية" ستبقى تدير بعض شؤون تلك المنطقة (كما تطلب هي)، إلا أن اﻷمر في النهاية سيحتاج إلى كثير من الحوار مع دمشق الرافضة ﻷي تغيير يفضي إلى أي شكل من أشكال الحكم الذاتي لهذه اﻹدارة أو لغيرها، وهو دورٌ ستلعبه موسكو بلا شك.

اﻹدارة الذاتية وترميم الخسائر

تعزز العملية التركية مكاسب أنقرة على حساب السوريين ككل، وعلى حساب اﻹدارة الذاتية بشكل أساسي، التي خسرت منطقة واسعة قامت فيها على مدار السنوات الماضية ببناء تجربة سياسية واجتماعية واقتصادية قدمت خدمات متنوعة للسكان، ونوعاً من الأمان، وخاصة بعد هزيمة تنظيم داعش بمساعدة "الائتلاف الدولي"، كما أسست لسلطة جديدة في المنطقة.

الاتفاقية الروسية ـ التركية تعيد "تحجيم" وموضَعة تجربة "الإدارة الذاتية" التي كانت حتى أمس قريب تشمل ثلث مساحة سوريا تقريباً. فمع انتشار أخبار وصول الجيش إلى مناطق متعددة في الشرق السوري، سرعان ما أُنزل علم كُردستان التاريخي ورفع العلم السوري الرسمي بدلاً منه. وبالوقت نفسه تجري عمليات "ترانسفير" منظّمة، ممتدة من عفرين إلى رأس العين، تقوم بها تركيا بتواطؤ روسي ـ أميركي، وهي تعمل على إبعاد مناصري اﻹدارة (والكُرد عموماً) عن مناطق الشريط الحدودي، وهو ما يتقاطع تاريخياً مع مشروع "الحزام العربي" الذي طرحه البعث في سوريا منذ الستينيات الفائتة، حيث اقترح إسكان عائلات عربية على طول الحدود مع تركيا، تمّ نقل بعضها من المنطقة التي غمرها سد الفرات غداة إنشاءه أوائل السبعينيات الفائتة. ألا أن المشروع لم يكتمل لأسباب كثيرة من بينها احتجاجات كُردية.

في الوقت نفسه، لا تريد روسيا أن يضاف الكُرد إلى قائمة الخاسرين في العدوان التركي، كما لا تريد إعطاء "اﻹدارة الذاتية" حجماً أكبر من حجمها مقابل بقية القوى اﻹقليمية، من حلفاء وأعداء.فقد وجدت الادارة الذاتية نفسها -بعد انسحاب القوات الأميركية شبه الكامل، وفقدانهالداعمها العسكري واللوجستي - مضطرةً للتعاون مع الطرف الروسي ضمن توازنات القوى الجديدة في الشرق السوري، حيث تحتل "قوات سوريا الديمقراطية"(قسد) المركز اﻷخير في ترتيب القوى العسكرية هناك.هي إذاً فرصة لتلك الإدارة ﻹعادة تظهير نفسها في الخريطة السورية.وعلى الرغم من أنها تبدو الخاسر اﻷكبر فيما جرى حتى اﻵن، إلا أن ذلك لا يعني خروجها من الميدان بسهولة في ظل تصديها الشرس للقوات التركية وللفصائل المسلحة المرافقة لها.

تجري عمليات "ترانسفير" منظّمة، ممتدة من عفرين إلى رأس العين، تقوم بها تركيا بتواطؤ روسي ـ أميركي. وهي تعمل على إبعاد مناصري اﻹدارة (والكُرد عموماً) عن مناطق الشريط الحدودي. وهذا يتقاطع تاريخياً مع مشروع "الحزام العربي" الذي طرحه البعث في سوريا منذ الستينيات الفائتة، حيث اقترح إسكان عائلات عربية على طول الحدود مع تركيا.

أما واشنطن، التي وإنْ انخفضت أهمية حاجتها إلى السلاح الكُردي الذي وقف معها في قتال تنظيم داعش (وخاصة بعد الإدّعاء بقتل البغدادي في مناطق السيطرة التركية)، فهي لم تقطع إلى اﻵن حبال الود مع اﻹدارة الذاتية خاصة في موضوع تأمين موارد مالية لها من النفط السوري المسروق. ولكن وبالمقابل، فإن تفاهمات واشنطن مع أنقرة وموسكو، تمتلك أولوية أعلى من الدفاع عن اﻹدارة الذاتية، أقله في ظل وجود تناقضات في موقف إدارة ترامب من التجربة الكُردية في الشرق والشمال السوري.

وأما دمشق، فهي ترى أن تجربة اﻹدارة الذاتية "انفصالية" وتهدد الكيان السوري، الذي لا تنقصه التهديدات. وفي الوقت نفسه الذي تتجاهل فيه دورها في التسبب بحدوث هذه الكارثة عبر تغييب العمل على حل إشكالات الأقلية القومية الأكبر في البلاد (يتراوح عددها وفق الأدبيات الكًردية بين 6 و18 في المئة من السكان، ووسطي هذه النسبة يعطي رقماً قريباً من المليون).

أما أكبر خسارات اﻹدارة الذاتية، فكان استبعاد حضورها مع قواتها (قسد) في اللجنة الدستورية التي اجتمعت مؤخراً في جنيف، في وقتٍ حضرت فيه شخصيات كُردية (خمس شخصيات) في صفوف المعارضة من المجلس الوطني الكُردي والمجتمع المدني، دون أي حضور من جانب النظام، بموافقة روسية مستجيبةً لرغبة تركية، وأخرى دولية، ترافقت مع زيادة الحساسيات اﻹقليمية من التطلعات الكُردية الاستقلالية، وسط اشتعال العراق وبعده إيران، والكراهية التركية الشديدة لكل ما يمت بصلة إلى الكُرد الرافضين للإنضواء تحت أجنحتها.

منطقة آمنة بمساحة أقل

في معلومات محدّثة من شمال سوريا، فإن قوات الغزو التركي توغلت في بعض المناطق بعمق تجاوز 40 كيلومتراً داخل اﻷراضي السورية، في حين أنها في مناطق أخرى لم تتجاوز الحدود، وهو ما يجعل مشروع المنطقة الآمنة الذي ينفذ، مختلفاً عن الطرح الرسمي التركي، ويبدو أنه نتيجة معدّلة من نتائج الاتفاق الروسي التركي.

طرحت تركيا سابقاً أن امتداد المنطقة اﻵمنة سيكون متواصلاً بطول 425 كلم وبعمق 32 كلم ( 13600 كلمتر مربع، ما يتجاوز مساحة لبنان)، أي من رأس العين شرقاً إلى تل أبيض غرباً. إلا أن التنفيذ العملي، حتى اﻵن، يُظهر أن المنطقة ستكون متقطعة، ويكاد الأمر يشبه إقامة كانتونات جديدة على مساحات محددة، سيتم فيها بناء وحدات سكنية وخدمات تقدمها تركيا بتمويل دولي.

لكن اﻷبرز فيما تم تناقله على الجانب التركي، أن هذه الكانتونات ستبنى في مناطق خالية من السكان العرب أو الكُرد وفقاً ﻷنباء غير رسمية. وهو ما يعني، إن ثبتت صحة الكلام، أن مسألة التغيير الديموغرافي في المنطقة أخذت شكلاً جديداً، يسمح لتركيا بتكوين قوى موالية لها وقت الحاجة، وتكون قادرة على الوقوف بوجه تمدد حزب العمال الكردستانيPKKإن حدث.

يضاف إلى ما سبق، أن الجزء الذي ستديره تركيا عبر الميليشيات التابعة لها (ميليشيات "الجيش الوطني السوري") يتضمن إدارة عدد من المدن الرئيسية في مناطق الحدود، هي تل أبيض، وعين العرب، ثم رأس العين التي "عاد إليها أكثر من 30 ألف سوري" وفقاً لتصريح والي منطقة "شانلي أورفة" التركي، فيما كان إجمالي اللاجئين "العائدين إلى ديارهم ومنازلهم 365 ألفاً"، وفق تصريح الرئيس التركي في السابع من تشرين الثاني. بالمقابل تحدث وسائل إعلامية أن هناك ما يقرب من هذا العدد قد تركوا مناطقهم باتجاه العراق ومناطق الحسكة السورية. ومؤخراً بدأت السلطات التركية حملات تضييق على اللاجئين السوريين فيها لدفعهم إلى الانتقال إلى تلك المناطق، فيما نفت السلطات التركية إجبارهم على توقيع أية أوراق رسمية على ذلك. إلا أن منظمات حقوقية دولية أكدت وجود هذه الضغوطات.

طرحت تركيا سابقاً أن امتداد المنطقة اﻵمنة سيكون متواصلاً بطول 425 كلم وبعمق 32 كلم ( 13600 كلمتر مربع، ما يتجاوز مساحة لبنان)، أي من رأس العين شرقاً إلى تل أبيض غرباً. إلا أن التنفيذ العملي حتى اﻵن يُظهر أن المنطقة ستكون متقطعة، ويكاد يشبه إقامة كانتونات جديدة على مساحات محددة، سيتم فيها بناء وحدات سكنية وخدمات تقدمها تركيا بتمويل دولي.

في السياق نفسه، وبحثاً عن تمويل لمشروع المنطقة اﻵمنة، هدد الرئيس التركي خمس عشرة مرة خلال شهر تشرين اﻷول/ أكتوبر الماضي أوروبا وقياداتها بترحيل اللاجئين إليها إذا لم تقدم له أموالاً لتنفيذ المشروع، حيث يوجد في تركيا وفق تصريحات الرئيس التركي "أكثر من 4 ملايين لاجئ من السوريين" العرب، والنسبة الكبرى منهم من حلب وريفها وحمص وإدلب.

يعني انتقال هؤلاء الى هذه المنطقة تغييراً ديمغرافياً في بنية السكان هناك، ليس بما يتعلق بالكًرد فقط، الذين سيصبح وجودهم هناك موضع شك، ولكن وكذلك بما يتعلق ببقية الأقليات القومية من سريان وأرمن وآشوريين. عدا أن وجود هذه الكتلة السكانية التي يغلب عليها الانتماء إلى المعارضة، وجزئها الأكبر إسلامي التوجه، سيشكل عامل تهديد لكل من الحكومة السورية وللكُرد، ويمكن استثماره مستقبلاً في أي تفاوض سياسي (وهو ما لا تمانعه روسيا) أو في معارك ضد الكُرد وسكان المنطقة اﻷصليين. كما يعني الانتقال من جانب مواز، أن المناطق التي قدم منها هؤلاء، قد أصبحت نسياً منسياً، خاصة مناطق العاصمة وحمص، وأصبحت هدفاً سهلاً للاستثمارات العقارية أو التغييرات الديمغرافية أيضاً، وهو ما يعني تغيراّ واضحاً في توزيع وبنية السكان في ظل تفاوت رغبة كثير من اللاجئين في تركيا أو أوروبا أو غيرها بالعودة إلى مناطق سيطرة الحكومة.

تركيا، التي أعلن رئيس إقليم كُردستان العراق "نيجرفان بارزاني" أنه "لديها مشكلة مع منظمةPKK وليس مع أكراد سوريا"، تجد أن "الممر الكردي" الذي تشكله تجربة اﻹدارة الذاتية يشكّل تهديداً وجودياً لأمنها القومي الذي ما زال، بعد مئة عام على تأسيس الجمهورية التركية، يرى الكُرد بعين "البشر الفائضين عن الحاجة".

الانسحاب اﻷميركي حدثَ، لم يحدث!

بعد إعلانه الانسحاب من سوريا عدة مرات، عاد الرئيس اﻷميركي للقول إن عدداً من قواته (1500 عنصر مع قواعد موجودة بالفعل، وأخرى يجري إنشاؤها في الدرباسية وعامودا وتل أبيض) ستبقى في الشرق السوري لحماية (وسرقة) آبار النفط والغاز السوري، وأن ما سيباع من هذا النفط سيكون لصالح قوات (قسد) تقديراً منه لجهودها في مكافحة داعش. ولم يحدد إلى متى سيستمر ذلك ولا اﻵلية التي ستستخدم لتنفيذ ذلك...بينما يستمر نقل النفط بشاحنات محمية بعربات قتالية أميركية عبر شركة تركية يمتلكها صهر الرئيس التركي إلى تركيا وشمال العراق ومنه إلى ميناء جيهان التركي، ثم إلى إسرائيل، وفق وثائق نُشرت مؤخراً.

قول اﻹدارة اﻷميركية أن حصيلة مبيعات النفط ستوجه إلى "قسد" يعني في الظاهر عدم تخليها عن الإدارة الذاتية حتى اﻵن، وهو ما اتضح عند منع وصول القوات الحكومية إلى معبر "فيش خابور" الوحيد الذي يصل بين مناطق الشمال السوري ومناطق شمال العراق، ومنع الجيش التركي كذلك من الاقتراب منه. وليس من الواضح حتى اﻵن مستقبل التواجد اﻷميركي هناك ولا مستقبل العلاقة التي ستربط اﻹدارة الذاتية بدمشق التي كما أشرنا لا تعترف بها إلا كحليف عسكري مؤقت.

مستقبل الشمال الآن وغداً

في تصريح له مؤخراً، أعلن الرئيس التركي أن بلاده "ستوسع المنطقة الآمنة إذا استدعى الأمر ذلك"، وهو ما يبدو تفسيراً للقصف التركي على الجيش السوري، فيما لم تصدر عن موسكو أية تصريحات تعلّق على المعارك هناك:
في المشهد السوري اليوم، هناك ثلاث مناطق تسيطر على كلٍ منها قوة عسكرية على تضاد مع القوة الأخرى، ولكل منها مشروعها المدعوم من قوى إقليمية ودولية، وهي تجتمع بشكل أو بآخر في جنيف لوضع المسودات الأولى لدستور جديد أو معدّل للبلاد، بغياب اﻹدارة الذاتية وقواتها.

اعادة توطين السوريين النازحين الى تركيا في الكانتونات الحدودية يعني أن المناطق التي قدم منها هؤلاء قد نُسيت، وخاصة مناطق العاصمة وحمص، وأصبحت هدفاً سهلاً للاستثمارات العقارية أو التغييرات الديمغرافية.

تؤسس اجتماعات جنيف الجديدة لتنفيذ جزء من القرار 2254 الذي يتحدث بالعموم عن مرحلة انتقالية في منظومة الحكم السورية. إلا أن هذا لا يؤسس لحل سياسي يجمع بين هذه المناطق ويوحدها من جديد تحت سلطة مركزية.ما يعني، وبالتالي، احتمال استمرار المعارك العسكرية لفترة قادمة مهما كانت نتائج جنيف.

توضح المعارك المستمرة للآن بين الجيش السوري والقوات التركية وميليشياتها إمكانية انزلاق المفاوضات إلى حيث لا يدري أحد، كما أن العودة الأميركية لحراسة مواقع النفط تقدم احتمالات جديدة غير منظورة في الوقت الراهن، ويبدو تعويل الجميع على الطرف الروسي، كضامن الكل، ولابتداع حلول ترضي الجميع، وكل حسب قوته وارتباط مصالحه به.. وهو الذي يعمل بالوقت نفسه لتنفيذ مصالحه بدأب شديد.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه