هَرّبت أغلب العائلات شبابها إلى مدن أوروبا، حيث ذابوا في الجدران هناك، فوقعتْ المسؤولية الكاملة على عاتق الفتيات، كي يحفظن مدينة اللجوء هذه من التحول إلى أنياب جائعة. يعملن، لأن الجوع غيمة ستسافر في سماء الجميع، وتُمطر كالسيل. وحدهن الشجاعات سيحتمين ويحمين أهاليهن بمظلات من عزيمة.
يُخيِّم على العالم شبحٌ من السواد الخانق. وثقوا أنه إن لم يكن اليوم، فغداً: لا نجاة من دون نجاة غزة.
"مول صفاقس" ليس مجرد مركز تجاري، بل هو بمثابة مشهد مركزي لإعادة تشكيل الفضاء الحضري وفق منطق السوق. بنيته المغلقة، أَمنيّته المشدّدة، علاماته التجارية المنتقاة، كلها تُنتج تصوراً خاصاً للمدينة كمساحة مُفلترة، محمية، محكومة بمنطق الاستهلاك والتمايز. إنه فضاء يُعيد صياغة العلاقات الاجتماعية من خلال تراتبية الوصول إلى المكان، ويُقسّم المدينة إلى داخل أنيق مُراقب وخارج فوضوي مُهمّش. السؤال إذاً لم يعد فقط: ما مستقبل صفاقس بعد نزع التصنيع؟ بل...
بينما يُحاصَر أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة خلف جدران وأسلاك شائكة منذ ما يقرب من عامين، ويتعرضون الى حرب إبادة نشطة، وتمنع عنهم سلطات الاحتلال وصول المساعدات الطبية والغذائية، فضلاً عن صعوبة نقل المصابين خارج القطاع، يتمتع المستوطنون الإسرائيليون بحرية التنقل، عبر منظومة علاقات دولية تحرص على توفير ممرات "برية" آمنة، وسفن إجلاء في أوقات الأزمات، فضلاً عن الرحلات الترفيهية والسياحية.
نقف الآن جميعاً أمام خياريْن، أمام اللحظة الصعبة، بين موتٍ وموت. أسأل نفسي كثيراً على مدار الأسبوع الماضي الذي قضيته في القلق والتفكير والتأمل: لماذا عليَّ أن أعيش في أقلّ من عاميْن كُل هذه التفاصيل والاختيارات، ليس لشيءٍ إيجابي أو جيّد، وإنما لمجرد أن أعيش. تَكرار المشهد نفسه: إمّا البقاء وإمّا النزوح. مرّةً من غزّة حتى شرقها، ومرةً من الشرق إلى رفح، ومن رفح إلى مكانٍ آخر داخلها، ومرةً أُخرى...
خلال الثلاثين عاماً من حكم عمر البشير، تعرضت جميع مدن السودان إلى إفقار تنموي ممنهج، بينما استحوذت الخرطوم على كافة الخدمات المموَلة من موارد هذه الولايات بشكل كبير. وتبعاً لذلك تدهورت الخدمات الصحية والتعليمية في مدن السودان المختلفة، علاوة على اتساع ظاهرة البطالة وانعدام فرص العمل والإنتاج في الولايات، الأمر الذي ضاعف من نزوح الأرياف والمدن نحو العاصمة، التي اكتظت أطرافها بالسكان. وفي إحصائية تقديرية أعلنتها ولاية الخرطوم بلغ تعداد...
أعلن وزير الصحة في آب/ أغسطس 2025 عن لائحة جديدة، رفعت الأسعار بشكل كبير، حيث تراوحت تكلفة الإقامة فقط لليوم الواحد بين 150 جنيهاً في القسم الاقتصادي، و550 جنيهاً في الأجنحة الخاصة، غير شاملة تكاليف الخدمات الطبية الأخرى، بالإضافة إلى زيادة كبيرة في تكاليف جلسات الدعم النفسي والفحوصات الطبية. وتشير البيانات إلى فجوة حادة، بين عدد المرضى الذين يحتاجون إلى الرعاية الفعلية ونسبة الذين يصلون إلى العلاج، إذ لا يتلقى...
هل يكفي مجرد إقامة فعاليات ثقافية، لترك بصمة حقيقية وراسخة ومستدامة في واقع المجتمعات المحلية؟ ثم أن المسافات الشاسعة التي تفصل بين المناطق السياحية، وحال الطرق السيئة، ونقص الخدمات الأساسية، تشكل عقبات حقيقية أمام السياحة الداخلية، كما لا تتوافر في المناطق السياحية في الداخل مرافق إقامة، ولا خدمات فندقية كافية وتنافسية، ولا استثمارات حقيقية تدعم هذا القطاع.
"ولدتُ حيث وُلد المسيح، بين طبريا والناصرة، في قرية الشجرة بالجليل الأعلى. أخرجوني من هناك عام 48 وعمري عشر سنوات، إلى مخيم عين الحلوة في لبنان.. أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حُفِرت حفراً.. أنا لست محايداً، أنا منحاز إلى من هم "تحت".. الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار...
السؤال الأكثر ترديداً على منصات التواصل الإجتماعي في العراق، منذ تفجُّر حادثة الطبيبة الراحلة بان زياد هو: "ما الذي بينك و بين الله يا بان، الذي جعل موتك يُطلِق فينا هذا الغضب الكامن ضد كل ما عانيناه من مظالم؟". فلربما قررت بان فعلاً إنهاء حياتها بنفسها، ولربما كانت قضيتها هي مجرد انتحار، غير إنها، مهما كانت حقيقة الأمر، وبدون أن تعلم، كشفت عن إجماع شعبي بأن الحق سيضيع بالسكوت عما...
مع شهر تموز/ يوليو 2025، تسارعتْ وتيرة تهاوي قيمة الريال بصورة مُفزعة. كان لا بدّ من تدخّل حكومي، لحفظ ماء وجه الدولة التي ينخرها الفساد والإحباط، وحال مزرية من اللامبالاة. حينها تجاوز سعر صرف الدولار الواحد حاجز 2800 ريال، وكان يقترب من 2900 ريال، والانهيار مستمر. تتّضح هنا بعض خيوط التلاعب المصرفي - وربّما السياسي أيضاً - المتجرِّد من المسؤولية. تتّضح كذلك فداحة الغفلة الحكومية عن ضبط المتلاعبين بالعملة، باعتبار...
شهد انصياع مصر الكامل للقرارات الاسرائيلية، بعد سيطرة حركة حماس على القطاع في 2007، محاولات ناجحة لكسره، أولها خرق الغزيين للسلك الشائك عام 2008، وثانيها قرار الرئيس مبارك نفسه، بفتح المعبر أمام حركة الأفراد والبضائع، بعد اعتداء إسرائيل عام 2010 على السفينة التركية مافي مرمرة، وهي جزء من ست سفن شكلت "أسطول الحرية"، وسقط في الاعتداء 10 شهداء من ركابها، وثالثها الفترة الذهبية بعد اندلاع الانتفاضة المصرية في كانون الثاني...
أسهمت بضائع التجار في كسر احتكار اللصوص. وعلى الرغم من أنني استغرب من حديثي عن هذا الأمر بشكلٍ طبيعي، لكن الطبيعي في ظلّ الحرب يتحوّل إلى شاذ، فيما تطفو على السطح الشوائب التي تسود المُجتمع، وتتحوّل إلى نمطٍ يومي واعتيادي. هذا ما نعيشهُ في غزّة: نُفاضِل بين احتكار التُجار واحتكار اللصوص. وهي بالتأكيد سياسة يسعى الاحتلال إلى ترسيخها، لإضعاف المُجتمع وإذلاله أكثر.
تجاوزتْ أدوار الاتحاد العام التونسي للشغل الطابع النقابي الصرف، ليتحوّل، في مفاصل تاريخية حاسمة، إلى قوة سياسية ومجتمعية مؤثرة، سواء في مقاومة الاستعمار، أو في صراعات التنمية، أو في اللحظات المفصلية مثل انتفاضة الخبز عام 1984، أو الوساطة الرباعية بعد الثورة، التي منحته جائزة نوبل للسلام سنة 2015. ولكن، هل يمكن لنقابة نشأت من رحم المصنع أن تُعيد ابتكار ذاتها في زمن المنصة؟ السؤال اليوم يتعلق بكيفية استمرار الاتحاد في...
حافظت الثقافة الاجتماعية السائدة في جبل صَبْر، على تقبّلها لعمل المرأة، وعدم النظر إليه نظرة انتقاص أو دونية، بل والاعتراف بدوره الأساسي في العائلة. وهن يتملكن الاراضي والعقارات، ليس وراثة، بل من ثمرة أعمالهن، كما من الشائع أن يجرين عقوداً تجارية باسمائهن. وهن غالباً من يتولين مصاريف دراسة الابناء والبنات في الجامعات، لوفرة دخولهن مقارنة بدخول الرجال. وفي ذلك خصوصية لجبل صبر اليوم، الذي بقي عصيّاً على اندثار نفوذ النساء...
"هل سألتم يوماً إذا ما كان الموتى يحلمون؟ أو يهرعون ليلاً خوفاً من كوابيسهم؟ ماذا لو كانت الأصوات التي تُسمَع ليلاً في المقابر هي لكائنات كابوسية؟ بالنسبة إلينا، في هذه المقبرة الجماعية، نسمع كوابيس الموتى وأحلامهم: امرأة تحلم أنَّ طفلها الذي مات عطشاً أثناء اللجوء إلى جبل شنكال في آب/أغسطس 2014، يعيش ويكبر ويتخرج مهندساً ويكوِّن عائلة، وتلتقي بأحفادها. عجوز أخرى تحلم بزوجة ابنها التي حملتْ مؤخراً، وقتل عنصرٌ داعشيٌّ...
فلسطين في مرحلة حرجة ومصيرية، تتطلب تكاتف الجهود والمبادرة الخلاقة والجريئة، وليس الاختباء والانتظار. قد يتيح توسيع المبادرة الاقتصادية الفلسطينية، وربط تدويل مصالح الاقتصاد الفلسطيني (حتى ولو بالارتهان للاقتصاد العالمي) بالاعتراف الديبلوماسي بدولة فلسطين، فرصة قد لا تعوض لتفويض ذلك الكيان الجديد والمميَز بين دول العالم، وتمكينه.
على الرغم من أن الجيش تجرع الكأس المُرَّة من تجربة حليفه السابق، قوات الدعم السريع، إلا أنه أعاد تكرار التجربة نفسها، وعلى نطاق أوسع. وهو هذه المرة، وبدلاً من مواجهة قوة واحدة، سيتعين عليه مواجهة تشكيلات متعددة! ولا يبدو أن الجيش يمتلك قدرة وإرادة لمواجهة هذا الواقع الجديد، حيث فرّخت هذه الحرب المستمرة لأكثر من عامين تشكيلات ومجموعات مسلحة جديدة، نبتت على أساس مناطقي، إثني، وجهوي، وأخرى ذات عقيدة سياسية،...
هؤلاء الشهداء الذين صاروا جثامين تُرصّ في خطوط تحت أقدام الناس في بقايا المستشفيات، بالتأكيد كانوا يعيشون في الأيام الماضية، مأساةً كبيرة، عندما لم يتمكنوا من توفير الطحين ولا الطعام لأطفالهم، وقد كان خيارهم واحداً من اثنين: النظر إلى أجساد أطفالهم الهشّة بلا طعام، أو المُخاطرة ومحاولة الوصول إلى الطحين، مع احتمال الموت.
تواصل السياسات العمومية العمل بمنطق "الحياد"، أي تطبيق البرامج نفسها على الجميع، متجاهلة أن تكافؤ الفرص لا يمكن أن يتحقق من دون معالجة الفجوة في الشروط الأصلية. هذه الدينامية تُولِّد مفارقة أخيرة أكثر إيلاماً: وهي أن الهامش، مع الوقت، يبدأ باستبطان صمته. حين تغيب الدولة الفاعلة، وتغيب اللغة التي تشرح الظلم، يُعيد المهمَّشون فهم أنفسهم خارج أي مشروع مشترك. المدرسة لا تعني لهم مستقبلاً، لأنهم لم يعودوا يؤمنون بوجود "دولة...
المزيد