بالمنطق المجرد، تبدو الكثير من الممارسات ومعها الأحكام والقرارات، خرقاء تماماً ولا مبرر لها، فات زمانها واندثرت أسسها، ولا تنسجم موضوعياً مع معطيات الواقع. لكنها على الرغم من كل ذلك ما زالت قائمة ومستمرة، ويجري الالتفاف بأشكال شتى على القانون حين يصطدم بها.
إشراف وتقديم: نهلة الشهّال
استاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي - رئيسة تحرير السفير العربي
يُصدر "السفير العربي" دفتراً ثالثاً (1) حول أوضاع النساء اليوم في بلداننا، يرصد مسيرة معارك كبيرة تُخاض منذ زمن في مجتمعاتنا لتغيير ممارسات متجذّرة: ختان الفتيات، تزويج القاصرات، استباحة النساء بالتحرش وحتى بالاغتصاب والاستخفاف بهما، حرمانهنّ من حضانة أطفالهنّ ومن الولاية عليهم – وعلى أنفسهنّ! – حرمانهنّ من ميراثهنّ وخصوصاً في الأرض، حتى حين يعملن فيها، العنف بكل أشكاله - وصولاً للقتل "المُباح" - الذي يقع عليهنّ لأنهنّ نساء، الحرمان من الدراسة... تحاول مجموعة النصوص أن تقول أين أصبحت هذه المعارك اليوم، وتُعيّن الذي أنجزته وتمكّنت من ترسيخه، وتصف كيف كانت مساراتها، وتحدّد ما تبقى من تلك المسائل الكبرى والجوهرية مما لا بد من التصدي له.
اخترنا مقاربات لسيرورات تلك المسائل تتوزع على مصر والسودان والمغرب والعراق واليمن ولبنان. وفي كل واحدة منها تبرز خصوصية المكان بالنظر إلى مشكلات كبرى تعاني منها نساؤه. ولكن الملاحظ أن هناك مشتركات كثيرة تجمع بين ما هو مطروح في مجتمعات تلك البلدان، تصل في كثير من الأحيان إلى حد التطابق، حيث لا تعود الفوارق قائمة إلا في التفاصيل، وتفقد دلالاتها.
أسميناها "سيرورات" لأنها تُخاض منذ سنوات عديدة مسجّلة تقدماً ونجاحات جدية في بعض الحالات، وإخفاقات في حالات أخرى، بل هي أحياناً انتكاسات فعلية، كما يبيّن مثال العودة الكثيفة إلى القتل بحجة "الشرف" في العراق المنكوب. وفي كل هذه الحالات يبرز الارتباط الوثيق بين خصائص الوضع العام في البلد المعني، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبين ما يمكن رصده من نتائج في مسار هذه المعارك.
كما تبرز في كل مرة هشاشة المنجَز، واستعداده للاندثار لو برزت ظروف تدفع إلى ذلك، مما يعني أنّ هذه المعارك مستدامة، تحتاج إلى يقظة مستمرة واستعداد متحفز للدفاع عن المكتسب، وفي الوقت نفسه إدراك بأن المتبقي للتحقق ضروري وثمين، وعدم الاكتفاء بـ "جوائز ترضية" قد تُخفي بشاعات كثيرة. وهذا يخص مجتمعات منطقتنا، ولكنه يخص كذلك العالم كله حيث نشهد تراجعات كبرى في عدة مجالات وفي بلدان "متقدمة"، وتعديلات رجعية لقوانين كانت قائمة، وكانت ثمرة لسعي شاق ونضال دؤوب، أو نرى تماهل في تطبيقها. ولعل إلغاء الحق الدستوري بالإجهاض الآمن من قبل المحكمة العليا الامريكية، هو آخر الأمثلة أمامنا. وبالطبع ودائماً، فإن حقوق النساء هي أولى ضحايا الصراعات السياسية. وعلاوة على ذلك فالتعامل الزجري معها يصلح كمعيار لملاحظة حالة التراجع العامة عن منجزات شتى "لا علاقة" للنساء بها، إذ تقع في مجالات حقوق العمل أو صون حرية الرأي والمعتقد...
تغييّر القناعات العامة السائدة ليس بالأمر الهيّن. قوة تلك القناعات، ومعها الأعراف والتقاليد، ليست أفكاراً فحسب يمكن تعديلها بحملات التوعية والإقناع والحجة أو بالقانون، كما في حالة الختان في مصر والسودان، على الرغم من أهمية كل ذلك. فهي تخفي علاقات وتوازنات نُسجت على مر التاريخ، ومصالح مادية فعلية. وقد تقول نساء عديدات أنهنّ لا يرغبن بختان بناتهنّ مثلاً، ولكنهنّ لن يتمردن ويخرجن عما هو سائد، خوفاً من النتائج أو اعتياداً على ما هو متوارَث. وأما في المعركة الدائرة حول حق الحضانة للأمهات في لبنان على سبيل المثال، فنرى أن المؤسسات الدينية ذات السلطة، والمشرفة على الأحوال الشخصية لكل طائفة، تَعتبر أن الأمر يمس مباشرة نفوذها على "أتباعها"، ويطال في الصميم سطوة القوى والجهات التي تستند إليها.
بالمنطق المجرد، تبدو الكثير من الممارسات ومعها الأحكام والقرارات، خرقاء تماماً ولا مبرر لها، فات زمانها واندثرت أسسها، ولا تنسجم موضوعياً مع معطيات الواقع. لكنها على الرغم من كل ذلك ما زالت قائمة ومستمرة، ويجري الالتفاف بأشكال شتى على القانون حين يصطدم بها. تقول مؤسسة الأزهر – وهي المرجع الديني الأكبر في مصر وفي قسم كبير من العالم العربي - أن الختان ليس من الفروض الدينية، وينص القانون على تحريمه في كل من مصر والسودان، ولكن "الناس على دين آبائهم"!
ثمة معارك لا تقل أهمية ولكنها أقل انفعالية، كالوصول إلى تمكين النساء من ميراثهنّ في الأرض. وقد تطلب الأمر بالنسبة للسلاليات في المغرب مثلاً سنوات من النضال الشاق ليتثبتن من حقهنّ قانونياً، وما زالت هناك تدابير تعطّله أحياناً.
ويُلحظ أنه على الرغم من بُعد مسألة وراثة الأرض عن المواضيع "الحساسة"، وهي تلك المرتبطة غالباً بالسطوة الجنسية على النساء باعتبار "خطورة" أي استقلالية لهنّ في هذا المجال – حتى ولو خصّت المشاعر – إلا أن الحجج نفسها تُستخدم في جميع الحالات، وأساسها نظرة دونية لهنّ بوصفهنّ يحتجن لأن يكنَّ موضوعات دائماً تحت وصاية ما وأنهنّ عرضة دائماً للشك بصوابية سلوكهنّ، وبإمكان خداعهنّ من "الآخرين".
سيحين زمن ليس فيه ختان للفتيات بحجة ضبط رغباتهنّ الجنسية وضمان "عفتهنّ". سيحين وقت لا زواج فيه لطفلات صغيرات تُسحق حياتهنّ من المهد. سيحين وقت لا تحرش فيه أو اغتصاب يَستخف به المجتمع والسلطات وتُردّ مسؤوليته عنه عليهنّ، ووقت لا يدوم فيه مسلطاً عليهنّ سيف الحرمان من أطفالهنّ لتأمين خضوعهنّ التام مهما كانت الظروف، وقت لن يكون فيه قتل للنساء وسيعتبر جرماً مضاعفاً (2) باعتباره يُرتكب من الأقرباء...
هذه سيرورات تحفر عميقاً في المجتمعات. وستصبح بديهيات كما سبقها سواها.
اليمن
لبنان
المغرب
السُّلاليات في المغرب: هذه الأرض لنا
20-06-2022
عمل نسائي ميداني: قوافل "يطو" في المغرب
03-07-2022
مصر
السودان
العراق
(1) "التفاوت: مكانة النساء بين الاعتقاد الشائع والسائد وبين الواقع والوقائع"، و"مبادرات النساء: قادرات وعازمات"
(2) كما قال السيد محمد حسين فضل الله في فتوى شهيرة له إنّ من يقوم بذلك يستحق العقاب في الدنيا كما أن هذه الجريمة هي من الكبائر التي يستحق مرتكبها دخول النار