تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
للاقتصاد الموازي أو الاقتصاد غير المهيكل في الجزائر دورٌ رائد، فهو قطاع يستغل بطرق مختلفة كل الشرائح وعلى رأسها النساء، بمختلف تصنيفاتهن الاجتماعية والجغرافية. نعرف مأساة النساء المفتقِدات للشهادات المدرسية المؤهِّلة، واللواتي يشتغلن في شتى القطاعات (الإنتاج من البيت، أو العمل في الزراعة، أو في مؤسسات خاصة وحتى عمومية)، بدون أية حماية قانونية، وعلى رأسها الضمان الاجتماعي، فاقدات بذلك كل أمل في تقاضي منحة تضمن لهن أدنى شروط العيش في الكبر، وهن أكثر المعرّضات لما يسمى بأمراض الفقراء.
نتعرف هنا على فئة جديدة ظهرت مع انتشار تكنولوجيات الإنترنت، وارتفاع عدد النساء العاملات في مجالاته، وهن حاملات للشهادات ومنها الجامعية، في بيئة اقتصادية تسودها البطالة. قد يُنظر إلى هذه الفئة من زاوية أنها تمثل المرأة العربية المودرن، العاملة في قطاعات سباقة. ولكنه استغلالٌ فحسب يشبه أشكال الاستغلال في قطاعات أخرى أقل ادعاء.
عن النساء العاملات تحت لواء تكنولوجيات الإنترنت
لم يجرِ للأسف تفحص هذه الفئة المستغَلَة في مجال الاقتصاد الموازي في الجزائر، ربما لكونها جديدة وربما لكونها لا تُرى ولا تلاحظ في الفضاء العام كباقي الفئات النسوية، مثل المشتغِلات في المحلات، أو في قاعات الحفلات، أو في معارض السيارات.. الخ، والتي تتميز كذلك بالهشاشة.
فهل تجاهلها سببه رقابة ما، ربما كانت غير إرادية، لترقية النشاطات الاقتصادية التي تستعمل الإنترنت والرقمنة، على الرغم من أنه، في التصنيف الدولي لتدفق الإنترنت سنة 2018 (worldwide boadband speed league)، تأتي الجزائر في المرتبة 175 من 189 دولة.
هكذا وعلى الرغم من الاستغلال، ومن هشاشة العمل، ومن شتى الأخطار الاجتماعية والصحية، التي تحيط بالمرأة العاملة في هذا المجال، فهي متجاهَلة ومنسية من طرف سلطات تدعي مطاردة العمل غير المعلن، ومَنسيّة حتى من طرف الجمعيات المدافعة عن المرأة.
أمام شبح البطالة، وأمام التغيرات بل الاختلالات العميقة التي تطال المجتمع والأسرة، تجد المرأة في الجزائر نفسها تمارس – مضطرة - عملاً كسائقة سيارة أجرة Uber، أو كمدرّسة عبر شبكة الانترنت، تصحح التمارين حسب الطلب، وكمربية أو جليسة أطفال، طباخة، ممرضة أو حتى طبيبة تُستدعى للعمل حسب منصات مستلهمة من Uber.
تقول المعطيات–على الرغم من قلتها - التي تخص قطاع الشغل والتشغيل في الجزائر، أن (وبحسب الديوان الوطني للإحصاء« ONS » في 2012)، نسبة النساء في سن العمل اللواتي لهن وظيفة، لا تتجاوز 16.6في المئة مقارنة ب 66.7 في المئة من الرجال. أما عن الاقتصاد الموازي فهو يشغل 3.9 مليون شخص أي ما يعادل 45.6 في المئة من اليد العاملة المتوفرة، وهو رقمٌ لا تتبعه أية دراسة دقيقة حول تموقع العنصر النسوي في هذا المجال. وقد شاع في السنوات الأخيرة انعدام الدراسات والإحصائيات الدقيقة حول المرأة التي تعمل خارج الإطار الرسمي المقنن، لدرجة أن الرئيس الجديد للجزائر (المنتخب في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2019) تطرّق لهذا الموضوع في خطابه الأول واعداً برفع الجباية عن المرأة العاملة بالبيت شرط أن تسوّي وضعيتها مع صندوق التضامن، حاصراً هذا النشاط في الأعمال التقليدية المعروفة، كالخياطة، حضن الأطفال بالبيت، صنع الحلويات والطبخ.. وهذا ما يؤكد جهله أو تجاهله للعمل النسوي الهش في ميادينَ بعيدة كل البعد عما كنا نعرفه أو نتخيله..
شيوع نمط "أوبر"
إن ظروف السوق العالمية، وتغيراتها التكنولوجية والتنافسية، وقوة وسرعة تغلغلها في بلداننا، تفرض تكيّفات أكثر وأسرع مع ما يقدمه الواقع. فهناك اضطرابات كبيرة في تعريف علاقات العمل، لدرجة أنه مثلاً، حتى التعليم (والغالبية الساحقة ممن يمتهنونه في الجزائر هم من العنصر النسوي) أصبح مهدداً علناً، تنافسه وتفرض قوانينها وتصوراتها عليه، منصات ال"ويب"التي تقترح "طرقاً جديدة للتدريس والتعلم"، ولكن على نمط ما يقال له ال"أوبرة"Uberisation . لا السلطات ولا أولياء الطلاب قرروا فتح ملف التربية والتعليم، الذي أصبح يتحكم فيه قانون السوق الموازي والمهن الهشة.
الجزائر: اللامرئيون في "ثورة الابتسامة"
23-04-2019
وبينما تُفسَّر الهشاشة المهنية في البلدان المتقدمة اقتصادياً، بضرورة المرونة الإلزامية في بيئة يحكمها التنافس وتنوع الميادين الجديدة، إلا أنها تُعبِّر في بلداننا عن استغلال أعمى يرافق اقتصاداً ريعياً، ولا يمكن تعريفه بوضعية أنه "يتفق فيها الطرفان، العامل وصاحب العمل،بواسطة عقد عمل قانوني مؤقت"، على عكس عقد الموظف ذي الراتب الدائم. وهكذا، وبما يخص عمل النساء ضمن هذا النموذج، فالهشاشة تتفشّى بين من أصبحت تسمى بفئة"العامل/ة الحر/ة"، والتي هي مؤشرٌ آخر على وقوع نساء جدد في قبضة شركات كبرى، وغالباً متعددة الجنسيات، تُحمّل بصفة فردية "العاملة الحرة" تذبذبات ومتطلبات مجتمع استهلاكي وغير مستقر.
في أسفل السلم
نادراً جداً ما نجد النساء اللواتي اقتحمن هذه المهن الجديدة، الناتجة عن عالم التكنولوجيات الرقمية، في مناصب مسؤولية (كمدير للموقع webmaster وما شابهها). لذا نرجّح أن المرأة في هذا الميدان، مهما تكن مؤهلاتها وشهاداتها، تبقى تلك الfactory girl، أي العاملة البسيطة، غير المرئية في مجال شبه صناعي من نوع جديد، ويدر أرباحاً تنافس أرباح الصناعات الكلاسيكية الكبرى كصناعة المراكب والأدوية.
فعلى الرغم من عدم وجود الدفع الإلكتروني في الجزائر ( E-payement)، وهو حاجزفي عرقلة نشاطات ال"أوبرة" (Uberisation) والتجارة الإلكترونية (E-commerce )، إلا أنه يلحظ تزايد وجود هذه النشاطات في قطاعات شتى. لذا، وأمام شبح البطالة التي لم يكن يُتطرق إليه في الماضي القريب إلا في عالم الرجال، وأمام التغيرات بل الإخلالات العميقة التي تطال المجتمع والأسرة، تجد المرأة في الجزائر نفسها تمارس–مضطرة -عملاً كسائقة سيارة أجرة Uber، كمدرسة عبر شبكة الإنترنت، تصحح التمارين حسب الطلب، كمربية أو جليسة أطفال، طباخة، ممرضة أو حتى طبيبة تُستدعى للعمل حسب منصات مستلهَمة من Uber.
في الظرف الحالي، فإن أغلبية النساء الناشطات في ميدان الإنترنت موجودات خاصة في قطاع التجارة الإلكترونية، يعلمن أن هذه لهذه الأنشطة المرتبطة بال"ويب" قاسم مشترك، هو السعي لأدنى تكلفة ودون احترام أي قيود قانونية وجبائية، للاستفادة من قوة عاملة لا تكلف في غالب الأحيان أكثر من ساعة تكوين أو تدريب على منصة أو موقع أو برنامج. فحتى الحاسوبُ والهواتف الذكية أو السيارة أو أي جهاز أو أداة أخرى يكون على ''العامل'' توفيرها من حسابه.
التجارة الإلكترونية وتأنيث العمل الهش
تعرف التجارة الإلكترونية E-commerce في البلدان الرائدة كميدان اقتحمتهُ المرأة بقوة. في فرنسا مثلاً، فإن30 في المئة من سيدات الأعمال ينتمين لهذا المجال، ويمتلكن مواقع مشهورة، خاصة في عالم الموضة، الأزياء، الزينة، وحاجات الأمومة. في الجزائر كذلك، تشتغل في هذا المجال الكثيرُ من النساء، لكنه هنا يمتلك وجهاً آخر، كون الجزائر تفتقد أولاً لتكنولوجيات الدفع الإلكتروني، وكونها خاصة تعيش في ظل نظام سياسي لم يقرر بعد مواجهة القطاع الموازي في الاقتصاد، للتعامل معه وتأطيره وتقنينه وملاحقة العمل غير المصرّح به بشكل فعّال وميداني، وتوفير الشفافية، وتقرير نسبة الجباية من هذه النشاطات التي لا يعلم إلا الله كم تستقطب من يد عاملة، تعيش منها عائلات تقع تحت سقف الهشاشة. والحال هذه، يصبح هذا الميدان الاستغلالي الغامض مشتبهاً به. فمن غير المعروف بشكل دقيق مصدر البضائع المعروضة في المواقع، والتي تقوم نساء بإيصالها للزبائن.. وهذا علاوة على سائر الأشياء التي تشكل خطراً مباشراً على النساء اللواتي اخترن العمل به أو اضطررن لذلك.
التجارة الإلكترونية التي جذبت النساء، والأمهات الشابات على الخصوص، اللائي يعجبهن جانب حرية ساعات العمل، أدت إلى اختصار العمل إلى علاقةٍ فردية تديرها قيود المهمة المنجزة، وعدد المنتجات المباعة عبر صفحة خاصة لبضاعة خاصة أو عبر منصة شركات كبيرة. وتجد المرأة نفسها تلجأ للهاتف وتواجه زبوناً مجهولاً، مما يضطرها لتأمين نفسها في مجتمع "محافظ"، كالتأكد من وجود امرأة في المنزل الذي ينبغي عليها إيصال البضاعة إليه.. علماً أن "العاملة الحرة" تلك لا تملك أي بطاقة مهنية تحميها ولا تنتمي لأية نقابة ولا حتى لجمعية مهنية.
كما أنها تُفاجأ بعمل مرهق، خطير، لا يضمن أي مدخول حتى بحدوده الدنيا. وعملها يشبه فقط في تسميته مهنة الطبيب أو المحامي (باعتبارها "مهناً حرة"). كما أنها تدفع ثمناً باهظاً للحرية المزعومة في العمل بساعات مرنة، فهي إن مرضت أو كانت حاملاً تفقد مدخولها. وحتى في الظروف '"العادية"، فعليها أن تراقب مثلاً ما يصلها من رسائلَ على الصفحة، وترد عليها مهما كانت الساعة متأخرة، وإلا فاتها زبون.
وفي حالة السهر على رعاية أسرة و/أو في بعض الأحيان أحد الوالدين من ذوي الاحتياجات الخاصة، فإن تذبذب مواقيت العمل، والاضطرار لمغادرة البيت في أي وقت لإيصال البضائع للزبائن يزيد الطين بلة. هشاشة في العمل وهشاشة اجتماعية!
مواقع التواصل وتأنيث العمل الهش
هناك نساءٌ لا يعملن تحت راية أية شركة أو مجموعة من المستوردين الكبار، أي أنهن أشبه بسيدات أعمال، يستعملن مواقعهن للتواصل الاجتماعي، فلا يقع نشاطهن تحت التعريف المتداول هنا للتجارة الإلكترونية. ولكن لا يمكن استثناء نشاطهن من الهشاشة.
وجود النساء في هذا النمط من العمل الهش لا يعود لكونهن يقبلن بسهولة بأجور منخفضة، ويخضعن لها، بل لأسباب اجتماعية - سياسية حاكت للمرأة أعمالاً وسيطة، على مقاس الضغوطات والقيود التي تقع على عاتقها، وعلى مقاس اقتصاد مفترس يريد أن يطال ببضائعه ونمطه الاستهلاكي كل الشرائح، دون أي جهد لتنمية الاقتصاد أو لترقية العامل أو العاملة.
فهذا أولاً، وقبل كل شيء عمل غير مصرح به، تمتهنه امرأة لا تملك ضماناً اجتماعياً ولا تساهم في أي صندوق تقاعد. وما يُعرف عن هذه الفئة النسوية أن أغلبيتهن يمارسن مهنة تقليدية تأقلمت فقط مع الإنترنت، وأصبحت تعرض سلعها الموجّهة للنساء عبر صفحات متباينة الشهرة (مجوهرات غير ثمينة، لباس شرقي، ماكياج). وهذا النشاط المنعزل هو وريثُ ما كان يعرف باسم "الترابندو"، (كلمة مشتقة من Contrebande أو التهريب)، وهو عمل كان شائعاً إبّان أيام السوق السوداء، وسلعها المجلوبة من أوروبا في حقائبَ خاصة، والتي ما زالت للآن تُعرض في "أسواق الرجال"، أي تلك الأسواق الأسبوعية أو اليومية الشائعة في الجزائر، سواء في أحياء شعبية أوحول أسواق السيارات المستعملة، وهو ميدان ذكوري بحت. أما في المدن الكبيرة، فتخصص مساحاتٌ معروفة لهذا النشاط الذي يبدأ مع الفجر، والذي لا تنشط فيه النساء إلا كزبوناتٍ عند طلوع النهار، ولكن ليس كبائعات.
تجارة البازار في مدن الجزائر.. وقراها
07-06-2018
تسافر حالياً هذه الفئة من النساء إلى تركيا خاصة والإمارات (وسوريا قبل 2011)، ولا تتعامل عبر صفحاتها للتواصل الاجتماعي إلا مع النساء. وهن تتعرضن بصفة دائمة لخطر تفتيش الجمارك، وربما لدفع الرشاوي في نقاط متعددة من العبور، كونهن يستوردن بصفة غير رسمية، أي من دون سجلات تجارية وحسابات بنكية بالعملتين، المحلية و اليورو. وعلى الرغم من أن بعضهن استطاع كسب ربح معتبر في وقت ما، إلا أن وجود المستوردين الكبار المالكين لمحلات فاخرة في "المولات" أصبح يهدد هذه الشريحة التي لا يمكن أن يُستثنى عملها من التصنيف ضمن العمل الهش... فلنتصور وضعية تلك النساء في بلد لم يفكر في إدماج هذه التجارة ضمن النشاط الاقتصادي.. وضعيتهن في حالة المرض،أو الحادث، أو الإعاقة أو الشيخوخة المرفقة بالعزلة الاجتماعية (مطلقة، أرملة).
تاكسي "أوبر" و تأنيث العمل الهش
في 2018، صرح المسؤول الأول لشركة Ya-technologie في الجزائر، وهي باختصار شركة على منوال الشركات المشهورة، تعرف ب"يسير"، أنه قد تم "تفعيل" حساب حوالي مئة سائقة، متفادياً كلمة "تشغيل" تلك السائقات أو توظيفهن. وحين سُئل عن الوضع المهني للسائقين بصفة عامة، أجاب أن ما يربطه بهم هو عقد شراكة لا يضمن لهم تغطية الضمان الاجتماعي، مؤكداً بأنه على اتصال مع السلطات لتعريف وتأطير هذا الميدان (المعرف ب Vehicle for hire، أو بالفرنسية VTC Véhicule touristique avec chauffeur).
قطاع استعمال مركبة للتأجير غير مقنن في الجزائر. ولكن السؤال يتعلق بالسبب الذي يجعل المهنة العادية لسائق سيارة أجرة أو "تاكسي" تواجه من طرف السلطات شروطاً تكاد تكون تعجيزية. ففي بلد يتميز بقلة وتذبذب وسائل النقل، وإعادة هيكلة شركات النقل الوطنية لدرجة تشبه التفكيك، يثار أمر دور السلطات، وتفاعلها مع ظاهرة ال"أوبرة"uberisation التي تطال جل مجالات الخدمات العمومية.
فماذا عن النساء اللواتي لهن حساب عند ''يسير"؟ وهل هنَّ مثل الرجال، من المتقاعدات، أم من البطّالات أم ممن يتصلن بشبكة "يسير" في أوقات الفراغ، أو بالضبط حين تكن بحاجة ماسة لبعض المال؟ حين يؤكد أغلب السائقين أن الأوقات الليلية التي لا منافس فيها (لا حافلات ولا ترامواي ولا سيارات أجرة)، والتي ترتفع فيها الأسعار، هي الأفضل للكسب، فهل نتصور في مجتمعاتنا نساءً سائقات في الليل، ودون أي غطاء قانوني أو تنظيم نقابي؟
ماذا تبقى من اليسار في الجزائر؟
27-11-2018
في السياق نفسه يفتخر مالكو شركات تاكسيات "أوبر" في الجزائر بنسبة زبائنهم من النساء اللواتي يفضلن هذا النوع للتنقل، حسب مسؤولي الشركة، لما يوفره من أمن. ونحن نعلم من واقع ونوع التعاقد مع السائقين أن الأمر غير ذلك. فصيانة المركبات مثلاً، وهي ركن من أركان الأمن، تقع على عاتق السائق/ة وحده/ا، وكذلك في حالة وقوع حادث ما، وفي حالات التحرش. فشركة uber ليست لا ضامنة ولا طرفاَ!
وقد تكون النسبة المرتفعة من النساء المستعملات لتكسيات "أوبر" هي ما حث في بداية سنة 2019 شركة أخرى على شاكلتها على إلاعلان عن توظيف المرأة عبر المنصات الرقمية. فهي تقدم "خدمة أفضل للمرأة بواسطة امرأة أخرى". والوسيلة المنتهَجة في ذلك هي قراءة محرّفة ومنحرِفة لمفاهيم "عادات وتقاليد المنطقة"، متجاهلة في الوقت نفسه تأثير التناقض بين تلك المرأة التي تدفع للتنقل "بأمان" وتلك المرأة المضطرة للعمل دون أي ضمانٍ أو أمان.
هل من مفر من ال"أوبرة"؟
تقلُّص فرص العمل، والوضع السياسي والاقتصادي المفلس والخانق، الذي يتسبب بأزمات حادة في المجتمع، كلها عوامل ترمي بكل الفئات في شبكة العمل الهش، خاصة وأن الجزائر بصدد تسليم جل الخدمات العمومية للقطاع الخاص، الناتج في أغلبيته عن منظومة الفساد والكسب السريع وتهريب الأموال عبر شركات متعددة الجنسيات، يقف وراءها جزائريون ذوو نفوذ.
هذه الوضعية تحفز انتشار مواقع ومنصات ال"ويب" لتحل محل آليات الدولة في التشغيل، وتوفير فرص العمل. وهي تشمل كل القطاعات والميادين دون استثناء، من الصحة إلى التعليم إلى النقل وإلى السياحة. فقد ظهرت منذ سنتين مواقع مثل "نِباتو-ديزاد" أو "أستاذي–ديزاد" أو "صحتي–ديزاد" تقترح، مثلها مثل ما هو معروف في البلدان الأوروبية، ''حلولاً" للتنقل، للمبيت، للعلاج، للدراسة أو لتحضير الشهادات... الخ.
حين يُلاحظ في ميدان "التجارة المباشرة" أنه لا يُرى فيها إلا البائعات صغيرات السن اللواتي يعملن دون غطاء اجتماعي، ودون احترام لأدنى شروط قوانين العمل، متقاضيات أجوراً بخسة، نتساءل : هل ستكون النساء أيضا القاعدة القوية للعمل الهش في الميدان المعتمد على تقنيات الإنترنت؟
وهناك خاصية تلاحظ في الجزائر منذ عشر سنوات على الأقل، وهي تتعلق بنسبة الإناث الحائزات على البكالوريا والشهادات الجامعية، والتي تفوق بشكل ملفت نسبة الذكور، ما عدا في الميادين الرائدة كالطب والإعلام الآلي والتكنولوجيات.
وبما أن القطاع الذي نتناوله في هذا البحث موجودٌ في المدن خاصة، ويحتاج إلى حاملي الشهادات. فمن الطبيعي، ولو من الجانب الإحصائي البحت، أن يطغى العنصر النسوي على هذه الأعمال الهشة. 56.5 في المئة من حاملات الشهادات الجامعية بطّالات حسب ٱخر دراسة ل"مركز البحث الاقتصادي التطبيقي للتنمية" (CREAD ).
ولو التحقَ بميدان الرقمنة المتفوقون من الذكور، بل وحتى الحائزون منهم على شهادات في اختصاصات غير رائدة تُعرّض حاملها أكثر للبطالة، فهم ينالون مناصبَ أقل هشاشة بشكل أسرع من الإناث. علماً أنه ومنذ 2008، فإن عدد المتفوقات في شهادة الباكالوريا بالجزائر في ارتفاع ووصل حسب الوزارة الوصيّة الى 65.29 في المئة من الطلاب، ونجد أن نسبة الطالبات حسب وزارة التعليم العالي تصل إلى 60 في المئة من مجمل الطلاب.
أما عن تألق الذكور أو سرعة مسارهم المهني، سواء في عالم التوظيف أو في مجال الاقتصاد الموازي أو في عالم الأعمال، فالديوان الوطني للإحصائيات مثلاً، يؤكد أن نسبة النساء المقاولات في 2018 لا تتجاوز 18 في المئة من أبناء المهنة. والأمر لا يختلف في كل مجالات التسيير، وما يسمى بالمناصب العالية.
وجود النساء في هذا النمط من العمل الهش لا يعود لكونهن يقبلن بسهولة بأجور منخفضة، ويخضعن لها، بل هناك أسبابٌ اجتماعية-سياسية حاكت للمرأة أعمالاً وسيطة، على مقاس الضغوطات والقيود التي تقع على عاتقها وعلى مقاس اقتصاد مفترس، يريد أن يطال ببضائعه ونمطه الاستهلاكي كل الشرائح دون أي جهد لتنمية الاقتصاد أو لترقية العامل/ة. وهو الحال حين لا تتمكن من الحصول على وظيفة في القطاع العمومي، القطاعُ الوحيد الذي يوفر عملاً مستقراً، ولا يرمي بالنساء في حقل الأعمال الهشّة، على الرغم من ضعف الأجور فيه.
وأخيراً نتساءل إن كانت ال"أوبرة" ستطال حتى صانعة الحلويات في مطبخها التي تقتات من بيع منتوجها، فتفرض عليها اقتناء هاتف ذكي، وحاسوبٍ للاتصال بالزبائن..
محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.