الجزائر: ماذا بعد شهر من رئاسة عبد المجيد تبون؟

حراكُ الجزائر يواصل الضغط، والسلطة ترفض الإصغاء للتغيير: فكيف يمكن قراءة المشهد الجزائري اليوم؟ وما هي أوراق السلطة وخططها؟ وما هي تحديات الحراك الشعبي؟ وما هو مستقبل الجزائر كدولة في منطقة مضطربة؟
2020-01-13

رضوان بوجمعة

كاتب صحافي وأكاديمي من الجزائر


شارك
في وسط العاصمة الجزائرية في حزيران/ يونيو 2019

مرّ أكثر من أربعة أسابيع على اقتراع رئاسي فُرض فرضاً ورفضته غالبية الشعب الجزائري. وبعد تنصيبها لعبد المجيد تبون رئيساً للجمهورية، تواصل السلطة في الجزائر العمل على "إدارة" الحراك الشعبي على أمل إضعافه وتشتيته، عبر مواجهته بالمناورات تارة، و تارة أخرى عبر الدفع بجزء ممن يصورهم الإعلام الجزائري على أنهم من الحراك، إلى عقد صفقات، أو إطلاق مبادرات قد تسير نحو تجديد الواجهات المختلفة لمنظومة الحكم دون أي تغيير عميق في طبيعة النظام أو مسارات صناعة القرار.

فكيف يمكن قراءة المشهد الجزائري اليوم؟ وما هي أوراق السلطة وخطتها؟ وما هي تحديات الحراك الشعبي؟ وما هو مستقبل الجزائر كدولة في منطقة مضطربة من ليبيا إلى دول الساحل الإفريقي؟

غياب الرؤية والإصرار على تجديد المنظومة

كشف خطاب التنصيب الذي ألقاه عبد المجيد تبون يوم 19 كانون الأول/ ديسمبر الماضي عن غياب واضح للرؤية لدى أصحاب القرار في الجزائر. فهذا الخطاب لم يكشف عن أي تصور حول جزائر ما بعد شباط/ فبرابر 2019 (حين انطلقت حركة المطالبة والاحتجاج)، أو ورقة الطريق التي تؤدي إلى تلبية مطالب ملايين الجزائريين والجزائريات الذين يقولون إنه لا سبيل لحل مشاكل البلد إلا بتغيير شامل لمنظومة الحكم.

خطاب الرئيس الذي استغرق 40 دقيقة، كان أقرب ما يكون إلى ما يُدْلَى به في حملة انتخابية، منه إلى خطاب رئيس دولة يستعد لتدشين بداية عهد جديد وبرنامج رئاسي. لذلك كان التسويف سيد الموقف، فكلمة "سوف" تكررت 13مرة، وهو "تسويفٌ" لم يخرج عن وعود الرجل الانتخابية، وقد وصل الأمر للحديث عن بعض هذه الوعود الانتخابية المرتبطة بالموتى: "وأكرر التزامي، بأن تأخذ الدولة على عاتقها آليات تسريع نقل جثامين الجزائريين المتوفين في الخارج"!

تسريع نقل جثامين الموتى التي تحولت إلى أولوية سياسية حتى في خطاب تنصيبٍ رئاسي، هي مهمة تنفيذية قد تتكفل بها إجرائياً الحكومة عبر مصالح وزارة الشؤون الخارجية وسفاراتها في الخارج، على الرغم من أن مهمة الخارجية هي التكفل بجالية جزائرية "على قيد الحياة" يقدر عددها بأكثرَ من سبعة ملايين نسمة، وهي تنظم حراكها الرافض لاستمرارية منظومة الحكم في كل القارات. كما أن لوزير الخارجية مهام ثقيلة مع العنف المنتشر في المحيط الإقليمي المباشر للجزائر، وهو مدعو لعمل دبلوماسي مكثف لتفادي الآثار السلبية لكل ما يحدث في ليبيا ودول الساحل الإفريقي، التي تهدد كل الحدود الجزائرية على اتساعها. فالحدود مع ليبيا تمتد على 982كلم، وهي 1376 كلم مع دولة مالي، و956 كلم مع النيجر، و965كلم مع تونس، و1559كلم مع المغرب، بالإضافة إلى الحدود مع موريتانيا وهي 463 كلم، وهناك42 كلم مع الصحراء الغربية.

فهل يمكن لرئيس ضعيف فُرِضَ في قصر المرادية أن يواجه كل هذه التحديات؟ وهل يمكن لحكومته الأولى التي أعلن عنها في بداية السنة الجارية أن تقنع الجزائريين والجزائريات بميلاد ما يسميه الرئيس تبون "الجمهورية الجديدة"؟

حكومة بوزراء من شبكات الولاء

إعلان تشكيل حكومة تبون الأولى، صدم حتى أشد المتفائلين والمؤيدين للسلطة الحالية والمصفقين لها. وزادت في قناعات شرائح واسعة من الحراك بأن السلطة لا تريد إلا استمرارية المنظومة وإعادة إنتاجها، فهذه الحكومة وزيرها الأول كان أميناً عاماً في رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس السابق اليمين زروال، كما أنه كان من مؤيدي بوتفليقة في العهدة الرابعة، فيما تولى حقائب الوزارات السياسية السيادية وزراء لهم علاقة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة أو بشقيقه، وهو حال حقائب مثل: الخارجية والداخلية والطاقة والمالية والمجاهدين. هذا الوزير الأخير،الذي يسيّر الوزارة منذ أيار/ مايو 2014،عرفه الجزائريون والجزائريات بتصريح مستفز حول شخص الرئيس بوتفليقة، حين قال في لقاء تلفزيوني "إن الله بعث محمداً رحمة للعالمين، وبعث بوتفليقة رحمة للجزائريين".

لوزير الخارجية الجزائري مهام ثقيلة مع العنف المنتشر في المحيط الإقليمي المباشر للجزائر، وهو مدعو لعمل دبلوماسي مكثف، لتفادي الآثار السلبية لما يحدث في ليبيا ودول الساحل الإفريقي، والتي تهدد كل الحدود الجزائرية على اتساعها. فهل يمكن لرئيس ضعيف فُرِضَ في قصر "المرادية" أن يواجه كل هذه التحديات؟

أما فيما يخصُّ الوجوه الوافدة، فماعدا ثلاثة وزراء من الذين يمكن القول بأنهم يملكون كفاءة في مجالات اختصاصاتهم العلمية، فإن باقي الوزراء لا يملكون لا كفاءة ولا إضافة ولا مساراً سياسياً، وهو ما كذّب خطاب السلطة عن تشكيل حكومة كفاءات. حكومة وصفها بعض الملاحظين بحكومة المكافآت والولاء للشبكات التي تشكل عصب السلطة.

كما أن أهم غائب في هذه الحكومة هو منصب نائب وزير الدفاع، الذي كان يحتله الفريق أحمد قايد صالح المتوفي في نهاية كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وخلفه بشكل مؤقت اللواء سعيد شنقريحة. فعلى من سيتوافق عصب السلطة؟ وهل سيحتفظ الرئيس تبون بمنصب وزير الدفاع كما فعل بوتفليقة منذ سنة 1999؟ ومن سيكون قائد أركان الجيش في المرحلة المقبلة، خاصة وأن ذلك يكتسي أهمية مزدوجة، على علاقة بمستقبل المنظومة السياسية، والإدارة الأمنية للحدود الجزائرية الواسعة والملتهبة؟

أساليب تلميع واجهة المنظومة

في انتظار توافق شبكات السلطة على قائد الأركان القادم، طرح الرئيس عبد المجيد تبون في أول اجتماع لمجلس الوزراء الخطوط الأولى لرزنامة السلطة لهذه السنة، من أجل ضمان تجديد منظومة الحكم لنفسها، حيث قال على وجه الخصوص: "يستلزم بناء الجزائر التي يطمح إليها المواطنون والمواطنات إعادة النظر في منظومة الحكم من خلال إجراء تعديل عميق على الدستور، الذي يعتبر حجر الزاوية لبناء الجمهورية الجديدة، وعلى بعض النصوص القانونية الهامة مثل القانون العضوي المتعلق بالانتخابات"، وهو كلام يلخص خطاب بناء الجمهورية الجديدة الذي بدأه قائد الأركان الراحل وتبناه، كخطاب على الأقل، الرئيس تبون...وهذا ما قام به كل من سبقه إلى قصر المرادية، من زروال إلى بوتفليقة. فكلاهما عملا على صياغة دستور، وعلى الذهاب إلى انتخابات تشريعية ومحلية لبناء أغلبية برلمانية تمكّنهما من ممارسة السلطة.

السلطة لا تريد إلا استمرارية المنظومة وإعادة إنتاجها. فرئيس الوزراء كان أميناً عاماً في رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس السابق اليمين زروال، كما كان من مؤيدي بوتفليقة في العهدة الرابعة، فيما تولى حقائب الوزارات السياسية السيادية وزراءُ لهم علاقة بالرئيس بوتفليقة أو بشقيقه: في الخارجية والداخلية والطاقة والمالية والمجاهدين..

ومن المتوقع أن يعرض عبد المجيد تبون مشروع دستوره بشكل يوحي بأنه ملخّصٌ لمشاورات وحوار مع الطبقة السياسية، ومع جزء ممن ينسبهم الإعلام إلى الحراك، حتى يعطي الانطباعَ بأن الدستور هو نتاج توافق. وقد بدأت تظهر بعض مؤشرات هذا الاتجاه، خاصة وأن حفل تنصيبه حضرته وجوه سياسية لها علاقة بكل شبكات وعصب منظومة الحكم.

كما أنه من المحتمل أن يُعرض هذا المشروع الدستوري على الاستفتاء الشعبي في نهاية الربيع القادم، إن سارت الأمور كما يُخطَط لها، حيث سيتم استخدام هذا الاستفتاء لبناء الشرعية لشخص الرئيس الذي فُرض في القصر بعد اقتراع قاطعته غالبية الشعب الجزائري، تماماً مثلما استخدم عبد العزيز بوتفليقة في 16 أيلول/ سبتمبر 1999الاستفتاء حول "الوئام المدني" في الدعاية لشخصه، بعد أن تم فرضه في الرئاسة من قبل العسكر في نيسان/ إبريل من السنة ذاتها، وبعد انسحاب كلِّ منافسيه الستة الذين اتهموا السلطة بتزوير شامل للانتخابات عشية إجرائها.

وتشير العديد من المعطيات إلى أن السلطة ستحاول إغراق النقاش حول الدستور في المسائل التقنية حتى لا تطرح إشكالية طبيعة منظومة الحكم، والعلاقة بين مختلف السلطات، وحقيقة صنع القرار من خارج المؤسسات. ولذلك بدأ الحديث عن تقليص صلاحيات الرئيس، دون طرح لإشكالية كيف يُعيّن الرئيس، ومسألة إعطاء صلاحيات أخرى لغرفتي البرلمان، دون الحديث عن آليات الرقابة البرلمانية على كل الأجهزة التنفيذية دون استثناء.. وغيرها من المسائل. كما أنه من المتوقع جداً أن يُستخدم هذا النقاش لتكسير الحراك، بين مساند ومتحفظ ورافض للتعديلات الدستورية كمرحلة أولى. وعلى ضوء ذلك ستسير السلطة نحو الدفع بجزء من الوجوه التي صنعها الإعلام، والمحسوبة على الحراك، لتأسيس حركات سياسية تضمن عبرها مشاركتها في الانتخابات البرلمانية المسبقة، التي قد تُنّظم في بداية الصيف أو الخريف القادم على أقصى تقدير. وسيتم كل هذا تحت ضغط الوضع في ليبيا، والذي يبدو أن السلطة تستخدمه للضغط على كل الأطراف السياسية والرأي العام، في استراتيجية تخويف بهدف القبول بالأمر الواقع.

من المتوقع أن يُعرض المشروع الدستوري على الاستفتاء الشعبي في نهاية الربيع القادم، ليُستخدم هذا الاستفتاء في بناء الشرعية لشخص الرئيس الذي فُرض في القصر بعد اقتراع قاطعته غالبية الشعب الجزائري، تماماً مثلما استخدم بوتفليقة الاستفتاء حول "الوئام المدني" في 1999 للدعاية لشخصه، بعد أن تمّ فرضه في الرئاسة من قبل العسكر في السنة ذاتها.

والقصد من كل هذا هو إبقاء الممارسة السياسية بالآليات وقواعد التعيين نفسها، والإبقاء على سطوة الشرطة السياسية على المجال العام من خلال توجيه الإعلام واختراق الأحزاب والجمعيات، مع تجديدٍ للواجهات المدنية والسياسية للسلطة لإعطاء انطباع بوجود تغيير. وكل هذا استمرارية لإعادة إنتاج منظومة حوّلت التعددية الحزبية إلى عددية حزبية، والتعددية الإعلامية إلى عددية إعلامية.

الحراك الشعبي أمام المؤامرات

محاولات السلطة لفرض تجديد المنظومة تواجهها استمرارية الحراك الشعبي الذي نجح في تنظيم مسيراتٍ حاشدة طعنت في شرعية الرئيس، بشعارات "رئيس مزور جابوه العسكر".لذلك من المتوقع أن يستمر الشارع في رفض كل المبادرات التي يرى أن هدفها الأساسي هو الالتفاف على الحراك، وعلى مطالبته بالتغيير الشامل لمنظومة الحكم.

ولهذا تعمل السلطة من خلال امتداداتها السياسية على الاستمرار في اختراق الحراك، وفي الاقتراب من نشطائه بواسطة وجوه سياسية أو دينية أو إعلامية، للذهاب إلى حوار يكون هدفه النقاش حول ورشات الإصلاح التي تسعى السلطة لفتحها، وعلى رأسها ورشة تعديل الدستور وحل البرلمان وتنظيم انتخابات تشريعية تؤدي لتشكيل حكومة قد تضم بعض وجوه الحراك.

ستحاول السلطة إغراق النقاش حول الدستور في المسائل التقنية حتى لا تُطرح إشكالية طبيعة منظومة الحكم، والعلاقة بين مختلف السلطات، وحقيقة صنع القرار من خارج المؤسسات.

ومن جانب آخر، فإن الحراك الشعبي بقي 11 شهراً موحداً وسلمياً. ولكن السلطة تواصل، وبكل الطرق،العمل على تفتيت من يرفض هذا المسار، ولذلك تتحالف آلة الدعاية مع العديد من الوجوه السياسية المستفيدة من استمرارية النظام، من أجل تقزيم الحراك والتشكيك في وطنية مطالبه وشرعيتها. كما قد يُدْفع بعضه نحو العنف، لتبرير الإدارة الأمنية له، وهي الكفاءة الوحيدة التي تتحكم فيها منظومة الحكم، بالإضافة لكفاءة شراء الذمم.

وستتعاظم الحرب النفسية في الأيام والأسابيع القادمة. وحتى لا يفقد الحراك البوصلة ولا تدخله أمراض الشخصنة والتموقع والمتاجرة... فإن الضامن الوحيد هو ألاّ يخرج عن مطلبه الأساسي الواضح، وهو تغييرٌ شامل لمنظومة الحكم التي أنتجت العنف والإقصاء والكراهية. ولن يتم ذلك إلا بتمسكه برفض أية مشاركة سياسية في غياب تغيير للقواعد السياسية التي حولت الأحزاب إلى كيانات تسيرها الأجهزة الإدارية والأمنية وشبكات السلطة، التي تغامر اليوم حتى بوحدة النسيج الاجتماعي لتضمن إعادة إنتاج منظومة التعيين، التي لا تريد بناء جزائرَ المجتمع المفتوح ولا دولة القانون والمؤسسات. ذلك أنها منظومة لا تؤمن بالمؤسسات، وهي قائمة على صناعة القرار السياسي خارج إطار المؤسسات.

مقالات من الجزائر