تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
من رحاب الوادي بمحاذاة النهر، هرباً من الضرائب الباهظة التي فرضها الاحتلال الانجليزي على الأرض الزراعية منتصف القرن التاسع عشر، نزحت آلاف الأسر القادمة من صعيد مصر إلى أطراف القاهرة، حيث هضاب "المقطم" والأرض الشاغرة، وإمكانية الحلم.
اليوم، ومن معارج الزقاق الضيق، تصعد "أم عبد الرحمن" كل صباح لأعلى، بإتجاه الجبل، لا لكي تدرك قمته أو ترى - هي وأخريات - الشمس، ولكن لكي يصلن لمقر عملهن في الورش المتفرقة هنا وهناك، في قلب الحواري والشوارع الضيقة التي تكونت عبر الزمن.
منشأة ناصر: هنا الحياة صعبة
الإسم حي "منشأة ناصر"، عدد السكان الرسمي لا يقل عن 300 ألف نسمة وتصل تقديرات أخرى إلى ضعف ذلك مباشرة، لتحتل تلك المنطقة مركزاً متقدماً في ترتيب "المناطق اللارسمية" الأكثر كثافة سكانية على مستوى القارة الأفريقية، وفق تقرير صادر عام 2013 عن منظمة العمل الدولية، بعنوان: "النساء والرجال والاقتصاد غير الرسمي".
تكٌوًن داخل هذه المنطقة الصاخبة، منذ بدء النزوح، مجتمع ذو ملامح اقتصادية وثقافية واجتماعية خاصة به، تحاصره عادات الصعيد المتزمتة من ناحية وتداعيات الفقر القاهري من ناحية أخرى.
لم تضع الدولة يدها بهدف التخطيط والتطوير إلا بداية التسعينات الفائتة، وعلى الرغم من هذا، لا زالت المشكلات في البنية التحتية والخدمات ممتدة ويعالجها الأهالي - بشكل رئيسي السيدات - بالحيلة والتحمل، كالتناوب لملأ المياه من الحنفيات العمومية. أما الصرف الصحي، فعلى الرغم من كل المحاولات التنموية المحلية والدولية، لا زالت 80 في المئة من منازل المنطقة تعتمد على الخزانات الأرضية ("ترنشات") وإفراغها بسيارات الكسح أو العربات الكارو تجرها الحمير.
امتداد السنوات أدى بكل تأكيد لخلق التباين داخل الحي الكبير الذي اصبح يضم ما لا يقل عن 8 مناطق سكنية، بعضها يشمل البنايات الضخمة، والآخر عبارة عن شقق بغرف ضيقة تضم عدداً من الأسر تتشارك في حمام واحد.
وقد جاءت الحالة الصحية بدورها ترجمة للأوضاع المعيشية الصعبة. فوفق الأرقام المعلنة ل"الحملة القومية لصحة حديثي الولادة"، تصل نسبة الوفيات بين الأطفال في منشأة ناصر إلى 240 بالألف في العام الأول من العمر، بينما لا تزيد في مناطق عشوائية أخرى عن 80 بالألف، إضافة إلى ارتفاع نسب الإصابة بأمراض الصدر والكلى نتيجة التعرض لعوادم مختلفة ولقلة المياه النظيفة.
عمل النساء... حصاد التداعيات
تأتي بالطبع أوضاع النساء لتكون حصاداً كاشفاً لكل ما يدور فوق هذا الامتداد من كل جانب. فمن ارتفاع متصاعد بنسبة المرأة المعيلة داخل المجتمع المصري، لتصل إلى ما لا يقل عن 30 في المئة من الأسر، وفق تقديرات المجلس القومي لحقوق الطفل والمرأة، ترتفع النسبة الى 45 في المئة داخل الحي الكبير المصنف ضمن المناطق الـ 20 الأكثر عشوائية واحتياجاً على مستوى جمهورية مصر العربية.
هؤلاء هن المقيدات رسمياً كأرملة أو مطلقة أو زوجة عاجز، بينما عدد أكبر ـ يعرف الجميع وجوههن ـ يحملن المسئولية دون أوراق ثبوتية أو إعانات رسمية: هن من هجرهن الزوج أو يعيش بالبيت دون عمل، سواء للمرض أو للنزق، أو أنه يعمل في أعمال حرفية موسمية. وهناك الفتيات ممن أصبح شرط من شروط تأهل إحداهن للزواج قدرتها على تحمل مصاريف التجهيزات دون أن يتحمل والدها ذلك عنها.
تذهب من لها بعض السند الأسري إلى الأعمال الأخف وطأة، بورش الملابس والبلاستيكيات، بمقابل يومي يصل الى 30 ـ 40 جنياً، بينما تذهب من ثقلت أحمالها الى "أعمال الرجال" الصعبة مقابل أجر يومي يتراوح ما بين 60 ـ 90 جنيه، بينما يصل المقابل الذي يحصل عليه الرجل للعمل نفسه إلى 100ـ 120 جنيهاً.
يحدث هذا في ظل مناخ تعليمي متهاوٍ. فأغلب السيدات يعرفن بالكاد القراءة والكتابة، أو لا يعرفن، والفتيات يحصلن على التعليم الأساسي أو المتوسط الفني في أفضل الأحوال. تشير أوراق مسح ميداني حديث لمركز البحوث الاجتماعية والجنائية المصري إلى أن 62 في المئة من النساء في هذه المنطقة لم يذهبن للمدرسة بينما لا تزيد نسبة الحاصلات على تعليم فوق المتوسط عن 3.2 في المئة من النساء.
هكذا يصبح الإختيار الأمثل للعمل لديهن هو هذا الكم الكبير من الورش الصناعية غير المرخصة على امتداد الحي، ما بين صناعة الملابس والبلاستيك إلى الألمونيوم والستانليس والخشب والحديد.
قصص الأجر
تذهب من لها شريك أو بعض السند الأسري إلى الأعمال الأخف وطأة، بورش الملابس والبلاستيكيات، بمقابل يومي يصل الى 30 ـ 40 جنيه، بينما من ثقلت أحمالها وتسعى لقليل من الزيادة بالدخل، فتذهب لأعمال الرجال، تشاركهم المهام الصعبة مقابل أجر يومي يتراوح ما بين 60 ـ 90 جنيه، بينما يصل المقابل الذي يحصل عليه الرجل للعمل نفسه إلى 100 ـ 120 جنيهاً.
تنضم "أم عبد الرحمن" في حوالي التاسعة صباحاً إلى جيش محدود من النساء داخل "مَغلق الخشب" الكبير، هن العاملات على "سنفرة الكراسي". حجم الانتاج معروف مسبقاً، وهو لا يقل عن 40 مقعداً لكل منهن، تترك جميعها أثرها على ملابسها ووجهها وصوتها بسبب "نشارة الخشب" التي تغمر خلايا الرئتين على مدار تسع ساعات، تلتهم النهار والساعات الأولى من الليل.
وفي الطريق كثيرات أخريات، منهن الطفلة "رانيا" إبنة الـ 15 عاماً، لكنها لا ترى نفسها صغيرة بل هي في طريقها قريباً للزواج. هذا الحلم يحتاج بدوره إلى استعدادات مادية كبيرة. لذا لم يكن هناك مفر من قرار والدتها - التي تراه صائباً - بأن ترسلها بعدما أنهت تعليمها الأساسي (المرحلة الإعدادية)، إلى هذا العمل الشاق على "المكبس"، داخل ورشة صناعة "السخانات الستنالس" التي تضم 7 من الرجال والفتيات يتراصون جميعاً خلف هذه الآلة التي تقوم بوضع الخام في قالب وضغطه حتى يخرج بالشكل المطلوب. لم تعد "رانيا" تخاف من ضخامة الآلة ولا من قوة الصوت، لكنها بالوقت نفسه تقلق إذا لم تستطع اقتطاع جزءمن الراتب يكفي لشراء مرطبات اليد والوجه، علًها تصلح هذه الآثار السوداء الخشنة، المعروفة بـ "الهبو".
مناخ الخطر.. دوافع الانتاج
لا يوجد حصر لعدد الورش، لكنها كانت هي الأصل في المنطقة. فقد امتهن سكانها النازحين حرف تدوير المواد الصلبة وإنتاج مواد البناء الرخيصة. ومع التوسع في المنطقة، ودخول الخدمات الحكومية إليها، تمّ نقل عدد من الورش الخطرة من قلب القاهرة إلى هنا، مثل ورش الألمونيوم والبلاستيك. يحتل العمل بتلك الحرف الرئيسية ما يقارب الـ 65 في المئة من النشاط الاقتصادي بالمنطقة، وقد أصبح مشهد سائداً أن يكون الدور الأول في أغلب البيوت الرئيسية هو ورشة صغيرة أو ملحق لورشة كبيرة ..
يقول إحصاء "مركز البحوث الاجتماعية" التابع للدولة حول اتجاهات العمل بمنشأة ناصر، أن الأعمال الحرفية تحتل المرتبة الاولى بنسبة 33.6 في المئة منها، أما الأعمال الحرة فتصل إلي 20.5 في المئة منها، وبلغت نسبة من يعملون لحسابهم الخاص 39.4 في المئة، أما من يعملون لدي الغير فبلغت نسبتهم 47.8 في المئة.
جيش محدود من النساء داخل "مَغلق الخشب" الكبير، يعملن على "سنفرة الكراسي". لا يقل حجم الإنتاج المحدد سلفاً عن 40 مقعداً لكل منهن، تترك جميعها أثرها على ملابسها ووجهها وصوتها، بسبب "نشارة الخشب" التي تغمر خلايا الرئتين على مدار تسع ساعات، تلتهم النهار والساعات الأولى من الليل.
قبل خمس سنوات، أنشأ أهالي المنطقة "رابطة أصحاب ورش منشأة ناصر"، في مبادرة منهم لتقنين أوضاعهم. وقد تقدموا بالفعل بأوراقهم إلى وزارة الصناعة والتجارة من أجل استصدار سجلات تجارية لهم، والسماح بالتنظيم القانوني للعاملين، والرقابة الحكومية. لكن لم يخرج الأمر إلى الآن عن اجتماعات متتالية، وتحصيل دوري للضرائب، مع وعدٍ بدراسة كل حالة على حدا بهدف التقنين أو النقل إلى خارج المنطقة السكنية. وهو ما أكده لنا ياسر أبو العلا رئيس تلك الرابطة.
غير أن أحد أهم نتائج هذا العمل الأهلي هو إنجاز حصر أولى لعدد الورش والعاملين فيها. فوفقاً له وصل عدد الورش العاملة إلى 1200 ورشة أسفل الجبل (إضافة إلى عدد كبير آخر يمتهن التدوير وجمع القمامة أعلى الجبل). يتراوح عدد العمال في الورشة الواحدة من 10 ـ 40 عاملاً وعاملة، ووفق تقديرات رئيس الرابطة، فإن حجم عمالة المرأة بمنشية ناصر لا يقل عن ألفي سيدة .
هذه النوعية من الورش، وعلى الرغم من قيامها على حرف تتطلب بالتأكيد نوعاً خاصاً من المهارة والخبرة، سواء لدى الرجال أو النساء، إلا أنه ما زال يغلب عليها طابع "العمالة اليومية". فلا حضور هناك لقانون العمل ولا تطبيق لنظم التأمين الاجتماعي والصحي على العاملين.. وهناك غياب كامل لكل معايير السلامة المهنية. أما تجارب التعرض للإصابة أو المرض فتخضع للتقييمات العرفية كنوع من التعويض التضامني.
قصص الجهد
لم تكن "ام عبد الرحمن" جاهلة بما يعنيه سعالها المستمر طوال جلستنا القصيرة معها، لكنها تفضل استخدام السياق الدائم "الحمد لله على كل حال". هذا الحال يشمل كل المخاطر الصحية للتعرض الدائم للهواء المحمل بحبيبات الخشب الصغيرة.
فوفق المذكرة الإرشادية التي أصدرها البنك الدولي حول شروط الأمان والسلامة المهنية بالصناعات الصغيرة، فإن العمل في ورش الاثاث والمنتجات الخشبية يجب الإلتزام خلاله بتغطيه الوجه والكفين وعدم التعرض المباشر للحبيبات المتناثرة عبر البرد اليدوي للاثاث، ولكن الاعتماد على الميكنة. وهو ما يعني أن تفقد "ام عبد الرحمن" عملها على الفور.. أو تستمر به بدلاً من الآلة المنتظرة ويستمر معه سعالها.
تقول: "لدي زوج مريض بالمنزل، أصيب بمياه في الرئة بسبب العمل بالألمونيوم، ولم نحصل على أى تعويض غير السماح لي بالعمل في مصنع كبير للخشب. تزوج إبني ويعيش معي لأنه لا يجد عملاً ثابتاً. لذا فأنا اشرب بعض الأعشاب المغلية يومياً قبل النوم وأشعر بارتياح بعدها وكذلك تتحسن حالتي بيوم الراحة الإسبوعية".
"رانيا" إبنة 15 عاماً، في طريقها للزواج قريباً. وللوفاء بكلفته، ذهبت إلى هذا العمل الشاق على "المكبس"، داخل ورشة صناعة "السخانات الستنالس" التي تضم 7 من الرجال والفتيات يتراصون جميعاً خلف هذه الآلة التي تقوم بوضع الخام في قالب وضغطه حتى يخرج بالشكل المطلوب.
ما تحكيه السيدة بهذه البساطة يخفي كوارث صحية أكثر شدة. فكما في حالة زوجها، تتعرض سيدات أخريات لخطر "مكابس" الألومنيوم وإعادة تدوير الصلب، والتي تعني تعرضهن وكل العاملين بتلك الورش لغازات خطرة منبعثة نتيجة لتكسير المواد البترولية مثل غاز البروبان والميثان والايثان التي تؤثر على الرئة وترفع درجة السموم بالدم، كما تعرض العاملين لخطر التعرض للاحتراق إذا ما وقع اشتعال صغير غير مقصود داخل هذه الأماكن المعبأة بالغازات والمحاطة بالمنازل من كل جانب، إذ تفتقد تلك المصانع لأبسط قواعد السلامة وهي أجهزة الإنذار المبكر ضد الحريق.
ووفق تقارير صحية، فإن صناعات كالألومنيوم والبلاستيك والخشب تؤثر في المدى المتوسط على سلامة الأغشية داخل الرئة والجهاز التنفسي، وهو ما دفع الكثير من الدول، من بينها مصر، إلتزاماً بمواثيق العمل الدولية، إلى حظر عمل النساء والأحداث في كثير منها... حظر على الورق، وصعاب جاثمة على الجسد، اعتادتها تلك السيدات إلى حد استقبال أغلبهن لحديثنا بالضحك، وتبادل النظرات. لكن "أم عبد الرحمن" بكت وهي في طريقها إلى الباب بعد لقائنا: "الحياة شقى، وكل الشقى بيوجع، مش ها يفرق بقى ألومنيوم ولا خشب ولا نحاس".
محاولات مد يد التغيير
في مقابلة خاصة، قدمت لنا "منى الجمّال" المديرة التنفيذية ل"جمعية رعاية الشباب والمرأة" مقاربة هامة، فحكت عن سيدة أربعينية عملت لسنوات كعاملة نظافة بالجمعية، ولكنها مع التعرض المتزايد للعنف على يد زوجها، حصلت على الطلاق، ومعه تحملت المسئولية الكاملة عن أولادها الثلاثة. فقد تركهم زوجها كنوعٍ من الانتقام أو الفشل في تحمل المسئولية. عندها قررت أن تبحث عن "فرصة عمل" شاقة في إحدى ورش الرجال كما يطلقون عليها. تحصل الآن من وقفتها اليومية على "المكبس" (آلة ضغط الخام في قالب محدد) على 350 جنيه إسبوعياً، ولديها يوم واحد للراحة. تتدهور حالتها الصحية وترفض الاعتراف بذلك، بينما يشْغلها الخوف من تسرّب أولادها من التعليم بسبب تغيّبها لساعات طويلة خارج البيت.
ربطت "الجمال" بين هذه القصة وغيرها من التداعيات التي تنتج عن العمل غير المنظم للمرأة في منطقة خارج الخطط الرسمية التنمية، فأشارت على سبيل المثال إلى استخدام "خروج الفتاة للعمل"كمبرر عائلي قوي لاستمرار عادة "الختان" للصغيرات باعتبارهن "عاملات المستقبل"، لضمان "استقامتهن الأخلاقية".
لم تستطع الجمعية أن تقدم يد العون للنساء، كما لم تستطع استكمال الدور الذي تمنى المؤسسون تنفيذه بالحي الفقير قبل عشر سنوات. فقد شهدت "منشأة ناصر" كماً كبيراً من المشروعات التنموية المدعومة من جهات مانحة دولية أو غير حكومية، كتلك التي شهدتها المنطقة بشكل مكثف خلال فترة التسعينات الفائتة، ومنها مشروعات "الوكالة الألمانية للتنمية" و"الصندوق السويسري المصري للتنمية". وهي المشروعات التي ركزت على أعمال توصيل المياه النظيفة والصرف الصحي المغطى وإنارة الشوارع وبناء وحدات صحية ومدارس إبتدائية.
غير أن التغيرات السياسية والمجتمعية على مدار ما يقارب العشرين عاماً الاخيرة قد تركت آثاراً سيئة. فوفق تصريحات للنائب البرلماني عن الدائرة الانتخابية بمنشأة ناصر "منى جاب الله"، فإن عدد الجمعيات الأهلية العاملة التي تم إدماجها في المبادرة المجتمعية القومية "حياة كريمة" هو 30 جمعية تتركز نشاطاتها على تقديم دعم عيني وتوفير العلاج والمنح الدراسية للأطفال. لكن هذا النوع من النشاط لا يتشابه مع ما سبقه في فترة التسعينات التي ازدهر بها عمل المنظمات غير الحكومية، ولا يلبي بشكل حقيقي احتياجات المنطقة.
تتعرض النساء (والرجال) لخطر "مكابس" الألومنيوم وإعادة تدوير الصلب، وهي الغازات الخطرة المنبعثة نتيجة تكسير المواد البترولية مثل غاز البروبان والميثان والايثان التي تؤثر على الرئة وترفع درجة السموم بالدم، كما تعرض العاملين لخطر التعرض للاحتراق، إذ تفتقر المصانع لأبسط قواعد السلامة، وأجهزة الإنذار المبكر ضد الحريق.
فقد أدت التعديلات بالسنوات الأخيرة على قانون الجمعيات الأهلية الى حصر السلطات لتعاون الجهات الدولية المانحة بالمؤسسات الحكومية مباشرة، مما عرقل الكثير من الأدوار التنموية التي نجحت بعض الجمعيات بالمنطقة في تحقيقها في السنوات الأخيرة. ومن ناحية أخرى، فإن انهيار صخرة الدويقة (حادثة مروعة وقعت داخل حي منشأة ناصر عام 2009 وأودت بحياة خمسمئة انسان) دفع الكثير من المؤسسات الدولية لرفع يدها ووقف التمويل، حيث كشف الانهيار عن عدم الجدية والتلاعب في إدارة ملفات إعادة التسكين والتوزيع العادل للفرص.
تقول الجمّال: "تاتي إلينا أغلب السيدات بطلب واحد مكرر وهو الحصول على قرض ميسر بهدف المساعدة في انشاء مشروع صغير، كشراء وبيع الملابس، أو منتجات الالبان. لكن أغلب الجمعيات لم تعد تجد التمويل الكافي الذي يسمح لها بدعم نشاطات التدريب المهني أو القروض، كما أن التزايد الدائم في التضخم النقدي ترك اثره الكبير على الأسواق بما لم يعد يسمح لمثل تلك المشروعات الصغيرة بأن تأتي بالنتائج المرجوة منها، وجعل شبح الإدانة الجنائية يلاحق كل سيدة تفكر في الاقتراض أو إقامة مشروع خاص. ولذا يفضلن البحث عن فرصة عمل في إحدى الورش باعتباره عصفور في اليد، وهو الحل الأفضل حتى لو كان عصفوراً مجهداً.
العمل الهش يحصد الأطراف
يُدرك قتامة الصورة من يلتقطها من الخارج، أكثر من هؤلاء الذين يعيشون داخل اطارها. خاصة حين يربط بين أوضاع منطقة سكنية اعتاد أهلها المعاناة وبين أوضاع عامة تتداخل خطوطها عبر الأماكن والزمن. فالعمل الهش، واعتماده بشكل رئيسي على النساء، أصبح عنواناً ثابتاً في مصر.
آلاف السيدات على امتداد الدلتا يعملن بأيديهن داخل الأراضي الزراعية، مروراً بافتراش أسواق المدينة وعنابر مصانع الملابس والتعبئة، ووصولاً لحمل الطوب ومواد البناء والعمل على الآلات في ورش اعادة تدوير الصلب والمواد الخام.
يرصد تقرير حديث لمنظمة العمل الدولية بعنوان "الفجوة بين الجنسين في العمل. ما العوائق التي تعرقل النساء؟"، أن نسبة الرجال من القوى العاملة في مصر هي 76 في المئة بينما لا تزيد نسبة مشاركة النساء عن 23 في المئة. إلا أن المشكلة الكبرى لا تتعلق فقط بضعف المشاركة العامة، ولكن، وكما جاء في التقرير، أن النسبة الأكبر من تلك المشاركة النسائية هي بالأعمال الهشة وغير الثابتة ودون حقوق تأمينية ومالية عادلة. وأِشار إلى أن 66 في المئة من هؤلاء النساء لا يحصلن على حماية أمومية في حالات الحمل والولادة، وأن العمل الهش لا يشتمل فقط على الأجر غير المنتظم وغير العادل، ولكن أيضاً على العمل المجاني او شبه المجاني في مشروعات الأسرة ولدى الأقارب. وقد أوصى التقرير بضرورة سن القوانين وتفعيل الرقابة التي تحفظ المساواة في الأجر والتصدي للتمييز المهني بين الرجال والنساء.
محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.
يفتتح هذا النص ملفاً أعده "السفير العربي" بدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ عن "تأنيث العمل الهش". ويضم الملف دراسات ميدانية وخلاصات تحليلية قامت بها 9 باحثات من 5 بلدان هي مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب.