مواضيع

الاقتصاد غير الرسمي في مصر: مشكلة حكم أم أزمة اقتصادية؟

ديناميات التداخل والتشابك والتفاعل بين الاقتصاد الموازي والبنية العامة للاقتصاد، وبالتالي طبيعة الاقتصاد السياسي السائد، بما يتجاوز كثيراً الاقتصاد الإجرامي كقطاع المخدرات والسلاح والتهريب..

علي الرجّال | 12 نيسان/ إبريل 2018 | من دفتر الاقتصاد الموازي: ما الذي تنتجه هذه المنظومة؟ | en
اللوحتان لـ: همام السيد - سوريا

تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

يعد الاقتصاد غير الرسمي أحد أكثر المشكلات جذباً للنقاش العام والأكاديمي والسياسي في مصر. فهو يتشعب ليحتك بكافة مناحي الحياة. كما أنه موضوع شيق لليمين واليسار، يستطيع كل منهما اجتذاب المشكلة والحل الى ناحيته. وهو تحول بعد الثورة إلى سؤال مركزي للنسوية في مصر، بالأخص بعد ربطه بالتهديدات الأمنية التي نجمت عنه والعنف الذي وقع على النساء من خلاله، وارتفاع معدلات التحرش الجنسي. وبالطبع هو سؤال قديم من ناحية أهميته للفكر النسوي حيث ارتبط منذ نشأته بتهميش دور المرأة أو وضع كافة العبء على كاهلها. ولو كانت المرأة بلا ضمانات حقوقية في المجال العام في مصر، فهي محرومة تماماً في القطاع غير الرسمي إلا من بعض ما تقضيه بعض الوجاهات الذكورية التي قد تدفع أحياناً باتجاه الشهامة و"حفظ العرض".

الاقتصاد غير الرسمي سيدخل في معادلة معقدة في مصر، فهو نتاج الانهيار في بنية الاقتصاد والعمران، ولكنه سيكون أيضاً أحد أدوات إعادة إنتاج هذا الانهيار: سيتحول لمشكلة ولسبب في خلق المشكلة.

لا بد من إضافة عناصر إلى التعريف الشائع للاقتصاد الموازي، والذي يعتبر أنه كل نشاط اقتصادي غير مسجل قانونياً لدى الدولة وخارج عن سجلات الضرائب وقوانين العمل. هناك مساحات أخرى مثل النشاط العقاري غير المسجل، و"الغفرة" (الاتاوة مقابل خدمات أو حماية) واستغلال النفوذ في عمليات السمسرة، علاوة على التداخل بين الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي في علاقات العمل. فكل من يعمل في أي نشاط من أنشطة القطاع الخاص الرسمي والمقونن، ولكن بدون تأمينات وتسجيل لعمله لدى السلطات بعقود واضحة وضمانات اجتماعية ووظيفية وصحية، سيندرج هو الآخر في هذا النوع من الاقتصاد الموازي.

لماذا كل هذه الأهمية؟

للإجابة على هذا السؤال يجب الالتفات أولاً لجملة من الاحصائيات. فالاقتصاد غير الرسمي يمثل حوالي 40 في المئة من العملية الاقتصادية في مصر. ويقدر نصيب المعاملات الاقتصادية غير الرسمية من إجمالي الاقتصاد المصري بما يتراوح بين 50 إلى 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي طبقا لتقديرات فريدريك شنايدر (1)، وأن أكثر من 60 في المئة من الوظائف التي تم خلقها في الفترة ما بين 2006 و2010 كانت ضمن أنشطة الاقتصاد غير الرسمي طبقا لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول مصر (2012). ويشير عمرو إسماعيل الباحث في الاقتصاد السياسي بمعهد كارنيجي، أن الاقتصاد غير الرسمي لا يمكن اعتباره استثناء أو إعوجاجا للمنظومة الاقتصادية في مصر بل أنه الأصل في ممارسة القطاع الخاص. ويعد حجم دورة رأسماله السنوية في مصر بحوالي 288 مليار دولار. وهذا الرقم مستقى من دراسة حديثة لـ"اتحاد الصناعات المصرية"، تدرِج سوق العقارات غير المسجلة في هذا الاقتصاد، وهو جانب هام في مصر حيث أن أغلب إمكانيات تعظيم الثروة تكمن في الاستثمار والمضاربة أو وضع الأموال في عقار بدلاً من البنوك أو الاستثمار في عملية انتاجية، لما يوفره من عائد جيد وأمان وعدم مخاطرة. ففي المساكن مثلاً، هناك مليونا مسكن مسجل في "الشهر العقاري" من أصل 25 مليوناً مخصص للتأجير (أي 8 في المئة)، أمّا الباقي فيتم التعامل فيه بعقود عرفية. وتضيف الدراسة أن هناك 45 ألف مصنع خارج إطار الشرعية، و1200 سوق منتشرة في أنحاء مصر كافة، يعمل فيها نحو 8 ملايين مواطن لا تنطبق عليهم شروط العمالة، من تأمين وسواه.

طبقاً لهذه الاحصائيات ولبعض المسح الانثربولوجي، يظهر أن الاقتصاد الموازي موجود في كافة مناحي الحياة. فأي تعامل في مصر ولو عابر سيصادف هذا الاقتصاد أمامه: عند محطات المترو، في أغلب الأسواق الشعبية، في المنطاق العشوائية التي تقوم بالأساس على هذا الاقتصاد، في نقاط التماس بين المناطق العشوائية والاخرى الشعبية والمترفة، في الخدمات بكافة أشكالها من نقل الى عاملات التنظيف إلى خدمات الطعام والقهوة والشاي، في السوق العقاري، في التعامل مع الأراضي، وداخل المدن وفي الاقاليم المختلفة، سواء ذات الطابع الزراعي أو الصحرواي.

الجذور التاريخية

لم يظهر هذا المصطلح في الادبيات المتعلقة بالعلوم الاجتماعية والسياسية قبل نهاية السبعينات من القرن الماضي، ولم يتم التعامل معه كذلك في مصر قبل هذه الفترة، وتمّ ربطه بالانفتاح الاقتصادي (السياسة التي اتبعها السادات منذ 1976). ثم لاحقاً، في مراحل نهاية التسعينات وبدء الألفية الجديدة، برز المصطلح بقوة بالتزامن مع عدة عناصر: ظهور المناطق العشوائية بكثافة، في القاهرة تحديداً وفي عموم الجمهورية بشكل عام، توحش النيوليبرالية وسياسات الخصخصة، زيادة النمو السكاني وإنسحاب الدولة من عمليات الانتاج والتخطيط العمراني.. إلا أن جذوره تعود لمراحل قديمة، يمكن رصدها قبل الاستعمار الانكليزي كما بعده. ولكنها لن تظهر في الأدبيات الاقتصادية ولا كمصطلح سياسي. ترد هذه "الفئات" في سجلات الجريمة، أو مصادفة في الكتب التي تتناول الجريمة أو حقبات زمنية معينة، أو بعض الأعمال الفنية مثل رائعة يوسف شاهين "باب الحديد"، العمال الزراعيين غير المنتظمين في علاقة ثابتة بالأرض، وعمال الهدم والفواعلية، وبائعي البضائع المتجولين. ونستثني منها الأنشطة الاجرامية مثل البلطجة والتجارة بالمخدرات أو بالسلاح أو بتهريب البشر..، وذلك بغاية تبيان أن الاقتصاد الموازي لا يرتكز عليها بحسب ما قد يُظنّ ــ على الرغم من اندراجها فيه ــ بل هناك تداخل عضوي لهذا الاقتصاد غير الرسمي بذاك الرسمي، وليس ــ كما يُظنّ كذلك ــ أنهما متضادان.

ثمة عامل مشترك بين الحقبتين (الاستعمار الانجليزي وما تلاه) وهو التراكم البدائي للثروة والرؤية الاستعمارية للسكان. كان مشروع الحكم لا يستهدف تعظيم الثروة عبر تراكم رأسمالي إنتاجي يسعى لإدماج قطاع كبير من السكان في عمليات التصنيع والخدمات الحديثة ثم إستغلالهم، بل أمام نظام يسعى لتراكم بدائي للثروة قائم على النهب أو تصدير المواد الخام، أو عمليات محدودة من الانتاج، وهنا تصبح المشكلة أننا امام نظام رأسمالي قائم على التهميش وليس الاستغلال (2).

إذا.. وتلخيصاً

- الاقتصاد الموازي موجود في كافة مناحي الحياة في مصر. فأي تعامل ولو عابر سيصادفه أمامه: عند محطات المترو، في أغلب الأسواق الشعبية، في المنطاق العشوائية التي تقوم بالأساس على هذا الاقتصاد، في نقاط التماس بين المناطق العشوائية والاخرى الشعبية والمترفة، في الخدمات بكافة أشكالها من نقل الى عاملات التنظيف إلى خدمات الطعام والقهوة والشاي، في السوق العقاري، في التعامل بالأراضي، داخل المدن وفي الاقاليم المختلفة...

- ظهور ونمو الاقتصاد الموازي لا يرتبط بالضرورة فقط بغياب التنمية ومعدلات النمو، ولكن يرتبط أيضاً بشكل هذه التنمية وطبعيتها وقدرتها على إنتاج وظائف رسمية وإدماج السكان في العملية التنموية. وهو ما لم يحدث في واحدة من أكثر المناطق إزدهاراً من الناحية الرأسمالية: غرب إسكندرية، أحد أهم المناطق الصناعية بمصر كلها، وربما تتركز فيها 80 في المئة من الصناعة بمصر، وفيها أيضاً ميناء الدخيلة.

- الشكل الوحيد لحضور الدولة في هذه العلاقات سيكون ذاك الأمني، أي الإدارة البوليسية لتنظيم الحياة بشقيها الرسمي وغير الرسمي، ما يخلق وضعاً غير قانوني للجميع، يخضع الكل لمنطقه، ويصبح الأصل هو المساومة والمواءمة وليس القانون والتنظيم.

- للدولة المصرية تاريخ طويل في خلق وضع لا قانوني وتركه حتى يكون هذا الوضع هو نفسه، ومعه الترتيب الاجتماعي والسياسي القائم، عرضة دائمة للمساومة والتفاوض، أو فرصة دائمة للإشتباه والتنكيل والقدرة على القمع الشُرطي أو القانوني.

- طبيعة التنمية، وكيف أثّرت على حياة الناس في الساحل الشمالي الغربي الذي يمتد من الكيلو 21 شمال غرب مدينة الإسكندرية إلى حدود ليبيا، وما هو جدواها الحقيقي. نحن أمام أكثر من 400 كيلومتر ممتدة على الساحل تم تحويلها لمدن أشباح.. باستثناء ثلاثة أشهر في الصيف. في قلب هذه العملية تأتي "العفرة" وهي اتاوة تُفرض على أصحاب القرى السياحية والممتلكات العقارية والاراضي مقابل الحماية، وتتضمن أن يقوم أبناء المنطقة بجلب مواد البناء والمؤن.

- إعتقد البعض أن التحول النيوليبرالي كان من شأنه تفكيك أو تقليص هيمنة الدولة البوليسية لصالح السوق كنتيجة لرفع يد الدولة عن الاقتصاد والتوظيف وعن تدخلها المباشر في حياة الناس. إلا أن ما حدث هو العكس تماماً. فالسوق أصبح مشكلة تنتج الكثير من الاوضاع المضطربة التي تدفع لمزيد من تعزيز البوليس.

أمثلة في مجالات الاقتصاد الموازي

الإسكندرية

لنقفز إلى عالم تسعينات القرن العشرين والنيوليبرالية، لنلتقط المركز لا الهامش. يعد غرب إسكندرية أحد أهم المناطق الصناعية بمصر كلها. ويقدر أنه تتركز فيه 80 في المئة من الصناعة في البلاد. وفيه أيضاً ميناء الدخيلة.

ولكن ماذا يحدث هناك؟ إن أغلب سكان هذه المنطقة يقعون في خانة العمالة غير الرسمية، ويمكن تقسيم عملهم إلى الأنشطة الآتية: 1- التخديم في المصانع، 2- التقاط أي مصالح قادمة من الميناء وتقديم بعض الخدمات سواء الجمركية، أو تهريب بعض البضائع (وهنا يختلط الرسمي وغير الرسمي) 3- "الغفرة" (فرض اتاواة لتقديم خدمات أمنية للشركات والعاملين بها)، 4- العمل المتقطع بمجال الصيد، وهذا يتراوح بين المسجل وغير المسجل 5- السمسرة وتوفير الخدمات المؤنية 6- تقديم خدمات اللهو والسياحة الموسمية في أشهر الصيف..

تعاني هذه المنطقة من تدهور حاد في بنيتها التحتية، وتلوث ضخم بسبب شركات الغاز والبترول والأسمنت، وذلك على الرغم من وجود هذا الكم الهائل من رأس المال والتنمية. أهم ملمح من هذه المنطقة هو أن ظهور ونمو الاقتصاد الموازي لا يرتبط بالضرورة فقط بغياب التنمية ومعدلات النمو، ولكن يرتبط أيضاً بشكل هذه التنمية وطبعيتها وقدرتها على إنتاج وظائف رسمية وإدماج السكان في العملية التنموية. وهو ما لم يحدث في واحدة من أكثر المناطق إزدهاراً من الناحية الرأسمالية، ما سينتج عنه نزاعات مكثفة بين أهالي المنطقة على الاراضي والعقارات، وانتشار لظاهرة الاستيلاء على الأراضي أو ما يعرف عرفاً وقانوناً ب"وضع اليد".

وهنا يتداخل مع توحش هذا الاقتصاد المزيد من التعقيد بين الرسمي وغير الرسمي، وكذلك بالعلاقة مع الدولة وفساد أجهزتها والطبيعة البوليسية. فأصحاب المصانع والشركات يقبلون بالعرف القائم على "الغفرة"، وهو شكل من الريع المعتمد على استخدام النفوذ والقوة وسطوة بعض العائلات في هذه المناطق لارغام أصحاب رؤس الأموال على الدفع لهم، وذلك لتغطية احتياجات أبناء العائلة أو أصحاب السطوة وتعظيم الموارد. كما يتشابك الفساد البوليسي في عمليات وضع اليد وغض الطرف عن بعض الأنشطة الإجرامية أحياناً وغير الرسمية لصالح مد النفوذ الشرطي والسيطرة عبر هذه الشبكات. ويعزز الوجهاء وكبار العائلات من سطوتهم عبر الانخراط في هذه الشبكات وتعظيم مكاسب ضخمة عبر الاستثمار في الاراضي غير المسجلة أو السمسرة المباشرة في الاراضي المسجلة.. وهى كلها أنشطة تغيب عن أعين الرقابة الادراية للدولة وليست عرضة للضرائب وقانون العمل، وبالطبع تغيب عنها التأمينات الصحية والوظيفية، لأنها في الأخير تعتبر عملاً خاصاً داخل العائلة أو عملاً فردياً لبعض أصحاب السطوة والقوة. فالشكل الوحيد لحضور الدولة في هذه العلاقات هو الشكل الأمني والإدارة البوليسية لتنظيم الحياة بشقيها الرسمي وغير الرسمي. وهو ما يخلق وضعاً غير قانوني للجميع، ويخضع الكل لمنطقه، ويصبح الأصل هو المساومة والمواءمة وليس القانون والتنظيم ومحاولة توفير التراكم المالي وتعظيمه ليتسع لقدر أكبر من السكان وليقوم بتطوير نفسه ومهارات العاملين به. إذ أن هذا النمط من العلاقات الاجتماعية ــ الاقتصادية لا يتطلب المهارات المعهودة في سوق العمل الرسمي.

أبناء الساحل ليسوا بلطجية بالضرورة، لأن "الغفرة" كانت شرطاً عرفياً بين الدولة والمستثمرين، والجميع تغاضى عنها، حيث لا توجد وسائل أخرى للدخل والاقتصاد بعدما تمت إزاحة السكان من أراضيهم ودفعهم إلى ما خلف الطريق، أي بعيداً عن الشاطئ، وهم لم يكونوا شركاء في مسار العملية التنموية.. والبوليس جزء ضليع في هذه المعادلة.

ويمكن أن نرى تداخل الرسمي وغير الرسمي في مساحة أخرى داخل الإسكندرية، وتحديداً في قطاع الملاحة والتخليص الجمركي. فهناك خطوط الملاحة الكبرى وهي منظمة طبقاً للقانون الدولي والمصري في الوقت نفسه، وهناك الميناء وهو الآخر مساحة منظمة، وبالطبع يعتري كل من القطاعين الكثير من الفساد.. ثم تأتي مكاتب التخليص الجمركي والخدمات الملاحية التي تتوسط بين المُصدِّر أو المستورد وبين الشركات الملاحية والميناء. يتسم هذا القطاع الثاني بالكثير من العشوائية، فمستوى إنضباطه القانوني ضعيف جداً وكثيراً ما يتم التحايل على بعض اللوائح والقوانين المنظِّمة له، كما أن أغلب العاملين به غير مسجلين وعمالة مؤقتة لا تخضع للتأمينات والمعاشات بأي شكل من الأشكال، ولا حتى التأمين الصحي من بينها. فأغلب أصحاب هذه الشركات الخاصة الصغيرة يعتمد على وجود فائض كبير من العمالة يحتاج لأي شكل من الوظائف، ولكنهم ليسوا مستعدين للاستثمار فيهم أو تسجيلهم بشكل رسمي، لأنه طبقاً لهم لا حاجة لذلك. فقط أعداد قليلة من هذه العمالة، وبعد سنوات طويلة، ولارتباطها بأصحاب هذه المكاتب ستيم تسجيلهم وضمهم بشكل رسمي. الجميع يعرف ذلك، ولكن يتناغم القطاعان بكل تناقضاتهما داخل هذه العملية الموسعة ويتلزم بما يعرف بـ"البوليصة" وهي العقد الدولي بين المصدر أو المستورد. من هنا تأتي أهمية اعتبار العمالة غير المسجلة في قطاع رسمي وتعمل في الاقتصاد الموازي، لأنها تمثل شريحة كبيرة من عالم الاقتصاد الخاص والحر في مصر منذ نهاية السبعينات إلى الآن.

الأقاليم المهمّشة

حينما نتحدث عن الاقتصاد غير الرسمي، نحن إذاً لا نتحدث فقط عن اقتصاد ينمو لوحده في غياب أي شكل من التنمية أو النمو الرأسمالي. بل هو حالياً في العمق من تلك العملية. ويشكل الاقتصاد الموازي ملمحاً أساسياً لبعض الاقاليم في مصر ومصدر الحياة لسكانها، أي أنه مرتبط أيضاً بإعادة تشكيل الجغرافيا وطبيعة العلاقات فيها. الساحل الشمالي والغربي في مصر مثال بارز على هذه الحالة وهو يمتد من الكيلو 21 شمال غرب مدينة الإسكندرية إلى حدود ليبيا. وأما انتزاع الاقتصاد المجرم من التحليل، على الرغم من أهميته، فيتم لغرض منهجي هو فهم ديناميات التفاعل وطبيعة الاقتصاد السياسي لهذا الاقليم.

يعيش الساحل على "الغفرة" (اتاوة تفرض على اصحاب القرى السياحية والممتلكات العقارية والاراضي مقابل الحماية، وتتضمن الغفرة أيضاً أن يقوم أبناء المنطقة بجلب مواد البناء والمؤن)، والتخديم على القرى السياحية في الصيف. هنا نتحدث عن اقتصاد ريعي قائم على تهميش الدولة وسحقها لإدماج السكان المحليين في عملية تنموية واسعة. ومن الغريب أن رجال المال في مصر يتباهون بتجربة الساحل الشمالي العقارية، حيث يجادلون أن بناء القرى السياحية نجح في تدوير فائض القيمة المالية المتوفر لدى ابناء الطبقة الوسطى العليا والطبقات العليا في نهايات الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت في استثمارات عقارية ترفيهية، وأن هذا الأمر ساعد في تعمير المنطقة التي كانت بنظرهم محض صحراء وساحل بحري فقط، والطابع السياحي والترفيهي هنا ذو طابع محلي فقط، أي لا يجتذب الأجانب للسياحة الشاطئية. يغيب عن هذا المنطق عدة أسئلة: ما هى طبيعة التنمية، وكيف أثرت على حياة الناس هناك، وما هو جدواها الحقيقي. فنحن أمام أكثر من 400 كيلومتر ممتدة على الساحل تم تحويلها لمدن أشباح باستثناء ثلاثة أشهر في الصيف. في قلب هذه العملية تأتي العفرة والخدمات المتنوعة لهذه القرى كأهم مكونات الاقتصاد السياسي للمنطقة، مع القليل من زراعات التين البرشومي. ولا يوجد أي مصادر أخرى للدخل، ولا عملية انتاجية قائمة بسبب استراتيجية الدولة و"البرجوازية" التنموية هناك، وهو ما أدى إلى غياب أي فرصة لاستعياب اعداد كبيرة من الناس.

هل تريد الداخلية منع تجارة الحشيش هناك؟ بالقطع لا. السبب الأهم الذي يعرفه الجميع ولا يتحدث عنه أحد صراحة، أن غياب هذه التجارة سيعني موت الاقليم في ظل هذه البنية الاقتصادية وعلاقات الانتاج وأنماطه القائمة هنا. إذاً المطلوب إدارة المنطقة وإخضاعها. فلو تُرك الأمر بالكامل ستتحرر المنطقة من سطوة الدولة، وإذا غلق بالكامل ستموت، وهو ما يعني احتمال وقوع تمرد.

كما ان هناك غياب لأي رؤية مركبة لسكان الساحل. فعلى الرغم من الاحتكاك الدائم بين الساحل ومدينة الإسكندرية، تسود صورة نمطية عن سكان الساحل بأنهم "عرب لا أمان لهم"، يمارسون البلطجة والسطو على الأراضي وهم مجرد تجار حشيش. جزء من هذه الصورة حقيقي، ولكنها ليست الصورة كاملة. فأبناء الساحل ليسوا بلطجية بالضرورة، لأن الغفرة كانت شرطاً عرفياً بين الدولة والمستثمرين، والجميع تغاضى عنها، حيث لا توجد وسائل أخرى للدخل والاقتصاد بعدما تمت إزاحة السكان من أراضيهم ودفعهم إلى ما خلف الطريق، أي بعيداً عن الشاطئ، وهم لم يكونوا شركاء في مسار العملية التنموية. والبوليس جزء ضليع في هذه المعادلة. أولاً، بسبب ترسيخ صورة ذهنية قديمة عن العرب (البدو بالاصل) تصفهم بالتمرد والخروج على الدولة ومعاداة القانون وأنهم غير مصريين، ولاحقاً انهم تجار حشيش، وأنهم لا عهد لهم.. تتسرب هذه الرؤية عند ضباط البوليس جيلاً بعد آخر وتولد مستوى من العنف الشرطي والاشتباه الدائم لأهالي المنطقة. وبالفعل فطريق الساحل، وبالأخص كمين الضبعة، يشتهر بالتضييق البوليسي. ولكن وطأة هذا الاشتباه على أبناء المنطقة ليست مثل وطأته على من هم من خارجها. فالبدوي هناك، ما لم يكن شيخ قبيلة أو ينحدر من مستوى عائلي قوي، هو عرضة للتفتيش الدائم والتضييق وأحياناً التنكيل. ولكن هل تريد الداخلية منع تجارة الحشيش هناك؟ بالقطع لا. السبب الأهم الذي يعرفه الجميع ولا يتحدث عنه أحد صراحة، أن غياب هذه التجارة سيعني موت الاقليم في ظل هذه البنية الاقتصادية وعلاقات الانتاج وأنماطه القائمة هنا. إذاً المطلوب إدارة المنطقة وإخضاعها. فلو ترك الأمر بالكامل ستتحرر المنطقة من سطوة الدولة، وإذا أغلق بالكامل ستموت وهو ما يعني احتمالية التمرد. والدولة المصرية لها تاريخ طويل في خلق وضع لا قانوني وتركه حتى يكون هذا الوضع هو نفسه، ومعه الترتيب الاجتماعي والسياسي القائم، عرضة دائمة للمساومة والتفاوض، أو فرصة دائمة للإشتباه والتنكيل والقدرة على القمع الشُرطي أو القانوني.

ولأن الأرض هى الأخرى أهم مصدر للدخل وليس لأي عملية انتاجية، فأغلب الأراضي هناك التي يمتلكها البدو أباً عن جدٍ ليست موثقة، ولكنها معروفة عبر التاريخ والعرف المتداول في هذه المنطقة. وهو ما يولد المزيد من النزاعات بين السكان المحليين ومع المستثمرين ومع الدولة. وتلعب السمسرة في الاراضي مصدراً مهماً لتعظيم الثروة، وهي مرتبطة بشكل عضوي بقوة ونفوذ بعض الوجهاء وكبار العائلات في القدرة على معرفة الاراضي غير المسجلة و"تأمينها" (أي حمايتها من خلال السطوة والهيبة). أغلب هذه الأنشطة غير مسجل، وقائم أيضاً على تقاليد عائلية وقبلية تستند إلى العزوة والنفوذ. ولا يختلف الأمر كثيراً في هذه المساحة عما قيل اعلاه. فمرة أخرى سيكون الجميع عرضة لوضع قانوني هش وغير مستقر، وستلعب المساوامات والمواءمات الدور الأكبر في استقرار المنطقة واقتصادياتها غير الرسمية، مع تزاوج بين الفساد البوليسي والرقابي لأجهزة الدولة. ولكن هنا أيضاً فلا مجال لمحاولة فرض القانون بشكل منضبط ودائم، وإلا تعرض الإقليم لحالة مدقعة من الفقر ولأصبح عرضة إما للتمرد أو للاجرام الخارج عن السيطرة. وهنا تدخل الدولة البوليسية لإدارة العملية برمتها وضبط الإيقاع.

التوك توك

يمكن أن يمثل التوك توك (عربات نقل ركاب خفيفة) أفضل تعبير عن علاقة الاقتصاد غير الرسمي بالاقتصاد الرسمي. فالتوك توك منتج غير مصنع محلياً، أي يتم إستيراده من الخارج، وهو ما يتطلب مورِّدين لهم شركات مسجلة ومعتمدة ضريبياً، ولها مواصفات محددة وإطار وهيكل قانوني وسجلات وفواتير وتأمينات.. أي أن المورِّدين تنطبق عليهم كافة الشروط اللازمة في معايير الاقتصاد الرسمي. إلا أن الانتقال من المورد لأصحاب التكاتك ثم للسائقين والمستهلكين لخدمة النقل، يدخلنا بالكلية لعالم غير الرسمية. فالتكاتك غير مصرح بتسجيلها لدى دائرة المرور، كما أن القائمين على إدارة عدد معين من التكاتك لا يقومون بالتصريح عنها، وبالضرورة لا يتم تسجيل السائقين القائمين على قيادتها. أي أن كل ما يتعلق بالتوك توك ينتمي إلى عالم الاقتصاد غير الرسمي.

ما الذي يمنع التوك توك من أن يعكر صفو سكان تجمع سكني مسوَّر أو "كومباوند" ما؟ ما الذي يجعله لا يرتطم بكتفك أو ربما يدهس قدمك في إحدى مناوراته العنيفة؟ إنها الصحراء والأسوار، هي فقط ما يحول بينك وبين أن يقتحم التوك توك حياتك اليومية..

ثلاثة أسباب رئيسية لتفشي ظاهرة التوك توك: 1- إنهيار مرفق النقل العام 2- التوسع العمراني العشوائي أو غير الرسمي وغياب التخطيط الحضري والعمراني 3- كفاءة النقل والاحتياج إلى الخدمة. وأغلب سائقي التوك توك هم من الأطفال أو الشباب المراهقين وبعض من المتقاعدين من أصحاب المعاشات التقاعدية لكسب مزيد من الرزق لمكافحة غلاء الحياة. هذه كلها شرائح خارج العمل الرسمي. والأهم أن التوك توك نفسه غير رسمي، وهو بالضرورة خارج المنظومة كلها. ولكن هذا لم يمنع من قدرٍ من تنظيم "اللارسمية" والعشوائية. فمناطق كثيرة بدأت تشهد روابط لسائقي التاكسي يديرها "شيخ" لهم. وهو مسؤول عن عدة أمور أهمها ضبط علاقتهم بالبوليس وإدارة النزاعات والخلافات بينهم. وأحياناً يكون هذا "الشيخ" أحد البلطجية الكبار، يفرض على سائقي التكاتك وأصحابها مبلغا من الاتاوة مقابل الحماية وإدارة النزاعات بينهم. وهنا نرى تداخل وتشابك أكثر من نمط من اللارسمية تسبقها حالة رسمية وهي الاستيراد نفسه.. ومؤشره سؤال لماذا أجيز استيرادها، إذا كان ممنوعاً استخدام هذه البضاعة المستوردة بكل شرعية؟

المثير في الأمر أن التوك توك توسّع ليتخطى المناطق العمرانية ذات الطابع العشوائي وغير المخطط إلى تلك الجديدة مثل "6 اكتوبر" بالقاهرة أو "سموحة" وتحديداً الجزء القائم خلف ترعة المحمودية والمتاخم لقرى أبيس.

ما الذي يمنع التوك توك من أن يعكر صفو سكان تجمع سكني مسوّر أو "كومباوند" ما؟ ما الذي يجعله لا يرتطم بكتفك أو ربما يدهس قدمك في إحدى مناوراته العنيفة؟ إنها الصحراء والأسوار. هي فقط ما يحول بينك وبين أن يقتحم التوك توك حياتك اليومية، وهو الذي اجتاح مصر من الريف إلى المدينة. تجده في أقاصي الصعيد، حتى صار أحد سمات الاجتماع هناك، إلا أنه ظاهرة مدينية بالأساس، تخلقه المدينة وتحاربه كذلك. التوك توك ابن المدينة التي لا تود الاعتراف به. ويعمل حراس المدينة على ملاحقته وحجبه عن شوارعها الرئيسية، حيث يتقاسمون قوت اليوم، وهو يحارب شبكة المراقبة البوليسية وينخرط فيها في الآن نفسه.. ينقل سكان المدينة ويعكر صفوهم.. يقوده الأطفال ويدهس أطفالًا.. لن تنجو منه الطبقة الوسطى ولا حتى الاثرياء بغير أسوار وحراس وصحراء تمتد في الأفق، لا يقوى عليها ذلك الشيء الحديدي.

ليس فقط التوك توك ما سيحتاج إلى الأسوار. فهو مجرد تجسيد لشيء أكبر منه وأوسع. وليس مصادفة أن تزداد ظاهرة التوسع العمراني العشوائي مع توسع المجتمعات المسيجة، ومع تفشي وتوسع الاقتصاد غير الرسمي. وتربط بينها جميعاً ترتيبات أمنية وعسكرية معقدة لمحاولة محاصرة العشوائية وضبطها وخلق طرق ومسالك جديدة تقوم بالفصل بين هذه العوالم. والغرض ليس منع العشوائية ولا محاولة ضبطها من الداخل، وإنما منعها من أن تجتاز حدوداً معينة. فلن تقوم الدولة بشكل جاد بمحاربة التوك توك مثلاً، ولكنها ستقوم بإذلاله وإخضاعه للهيمنة البوليسية وترسيم حدود جغرافية له لا يمكنه أن يجتازها.

السؤال النسوي

يتداخل السؤال النسوي في جوانب عدة منه مع الاقتصاد غير الرسمي: تلعب المرأة دوراً كبيراً في الاقتصاد الموازي، سواء عبر الخدمات المنزلية، أو تربية الدواجن والطيور وبيعها في المدينة أو لأبناء الطبقة الوسطى والمترفه، وبيع المنتجات المختلفة في الشوارع والميادين، أو في العمل بدون عقود في المحلات التجارية المختلفة أو داخل الشركات. والسمة الرئيسية هنا هي غياب أي شكل من أشكال التأمين الاجتماعي، سواء الوظيفي أو الصحي أو الجسدي. وهنا المرأة عرضة للاستباحة الاقتصادية أو لأوضاع العمالة الرثة، أو للانتهاكات الجسدية. كما أنها مطالبة بتوفير الإعالة لجانب كبير من حياة الأسرة. وفي سياق مثل هذا تكون الصحة الانجابية والصحة الجسدية للمرأة في أسوأ مستوياتهما، أولاً باعتبار ظروف العمل، وثانياً لغياب أي شكل من الضمانات والحقوق، وثالثاً لغياب أي شكل من أشكال التأمين الصحي لصالحها. كما أن هذه الظروف تجعلها عرضة للابتزاز الدائم والمساومات المهينة. فهي إما عرضة لبلطجة الشارع أو المستهلك أو رب العمل.

مأزق النساء في مصر حقيقي. فبدون الاقتصاد الموازي تنتهي فرص كبيرة للحياة وتوفير الدخل، وبداخله تعاني المرأة من كافة أشكال التمييز والتهميش، وفي التعامل معه تكون عرضة للتحرش.

ويشكل الاقتصاد غير الرسمي مأساة أيضاً للنساء اللواتي لا يعملن بشكل مباشر فيه، سواء في وسائل المواصلات مثل التوك توك، أو مع توحش الباعة الجائلين والأسواق غير الرسمية وإشتداد موجات التحرش الجسدي واللفظي. فمثلاً كان وسط البلد جحيماً حقيقياً لكثير من النساء بعد استيلاء الباعة المتجوّلين عليه، أو بعض المناطق بالعتبة ورمسيس وأماكن أخرى.

وهذا مأزق حقيقي للنساء في البلاد. فبدون الاقتصاد غير الرسمي تنتهي فرص كبيرة للحياة وتوفير الدخل، وبداخله تعاني المرأة من كافة أشكال التمييز والتهميش، وفي التعامل معه فهي عرضة للتحرش. وحتى في هذه المساحة التي يتداخل فيها الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي، مثل العمل في الشركات والمحلات التجارية، فالنساء عرضة لاشكال عنيفة من الابتزاز. والعوز هو بطل القصة الرئيسي.

كيف عززت النيوليبرالية الاقتصاد الموازي.. والداخلية؟

اعتقد البعض أن التحول النيوليبرالي كان من شأنه تفكيك أو تقليص هيمنة الدولة البوليسية لصالح السوق كنتيجة لرفع يد الدولة عن الاقتصاد والتوظيف وتدخلها المباشر في حياة الناس. إلا أن ما حدث هو العكس تماماً. فالسوق أصبح مشكلة تنتج الكثير من الاوضاع المضطربة والتي تدفع لمزيد من تعزيز البوليس. وقد شهدت سنوات الألفية الثالثة تضخم الجهاز وطغيانه وتطوراً ملحوظاً في بنيته التحتية وبالأخص تشييد المبنى العملاق لأمن الدولة في "مدينة نصر" بالعاصمة. وعلى الرغم من إنتهاء الحرب على الجماعات الارهابية بنهاية التسعينات، دخلت مصر الألفية الجديدة في ظل قانون الطوارئ. كان هذا التوسع نتيجة عدة أسباب:

1- كان على الطبقة الاجتماعية الصاعدة والحاملة للمشروع النيوليبرالي ــ بقيادة جمال مبارك الطامح لوراثة الحكم ــ التحالف مع "الداخلية" في مواجهة الجيش وبقية البيروقراطية. وقد اجتمع كلاهما (الداخلية وأصحاب ذلك المشروع) على مصالح إيديولوجية ومادية واضحة. فلأول مرة بعد الاستعمار يكون هناك مشروع سياسي قائم على إزدراء عموم السكان ورؤيتهم كمجموعة من الكسالى والرعاع. كما اجتمعت مصلحتهما على التحالف في مواجهة الجيش بما خص شرعيته السياسية للحكم، وبما خص نفوذه الاقتصادي والمادي.

2- خلّفت الخصخصة في التسعينات ثم استكمالها في الالفية الثالثة فائضاً بشرياً كبيراً تُرك للسوق غير المكتمل، ولدولة متآكلة ولغياب أي فرص للضبط المؤسسي من خلال قنوات العمل. وكان هناك احتياج للضبط والقمع الشرطي لهم بشكل عام. وكان مشروع جمال مبارك شديد الوضوح، مثلما يشير الباحث عمرو عبد الرحمن بقوله أنه "لقلة منتقاة" (أي لعدد محدود من السكان، ويرتكز على جانب من المتمولين ويضم معه بعض أبناء الطبقة الوسطى العليا والقليل من الطبقة الوسطى، مثلما رأينا على سبيل المثال في توسع القطاع المصرفي). كذلك أكدت نخبة جمال مبارك أن أحلام الدولة الناصرية إلى زوال وأن على بقية الطبقات والشرائح التي ستسقط من حسابات هذا المشروع أن تتدبر أمورها بنفسها. وبالفعل سقطت قطاعات كبيرة من أبناء الطبقة الوسطى من هذا المشروع، بل تحولت إلى مصدر تهديد وقلق دائمين للنظام، بالأخص بعد انخراط بعض شبابها في الحركات الاحتجاجية منذ 2004..

3- توسع القطاع غير الرسمي بشكل كبير ليواجه هذا الغياب للتوظيف وسوق العمل الرسمي. وهنا أصبح هناك مزيد من الاحتياج لاستدعاء الداخلية لضبط الشارع وحركة السوق، حيث أصبحت الشوارع مساحات نزاع على السطوة بين الأمن وأتباعهم وبين الباعة الآخرين.

4- الاعتماد على الاقتصاد الخدمي، وبالأخص قطاع السياحة في شرم الشيخ والغردقة، منح "الداخلية" مزيداً من السطوة لحاجة هذا القطاع الاساسية للتأمين الكثيف. وهنا ظهرت ممارسة شرطية غاية في الغرابة كانت تتعرض لها العمالة في هذه المدن، وهي التهديد بالترحيل. فكان من حق الضابط أن يقوم بطرد من يشتبه به أو لا يروقه إلى خارج المدينة، وكان الأمر يمس أحياناً أبناء الطبقة الوسطى والوسطى الدنيا التي تذهب هناك للترفيه. ولكنه كان موجهاً بالأساس ضد العمالة القادمة من المحافظات المختلفة للعمل الخدمي هناك.

صنع بعض أمناء الشرطة ثروات ضخمة وتملكوا مبانٍ خاصة بهم من خلال هذه الشبكة من العلاقات وتداخل الفساد مع الحكم البوليسي مع توسع وتفشي الاقتصاد غير الرسمي وضعف قدرة الدولة على المراقبة بشكل عام وعلى فرض إطار قانوني..

5- انفجار ما يعرف بالمناطق العشوائية وتحولها إلى مصدر قلق وتهديد أمني للدولة وللمتمولين، في مقابل التوسع العمراني لما يعرف بالمجتمعات المسيجة على أطراف القاهرة والإسكندرية. وهو ما استدعى بدوره مزيداً من الحملات الأمنية الدائمة لحصار هذه المناطق الشعبية والعشوائية. وصار على مداخل ومخارج أغلب المناطق السكنية الأخرى، بالأخص "برجوازية" الطابع، وتحديداً في القاهرة، كمائن أمنية، مثلها مثل ما يُعرف ب"الأكمنة الحدودية" التي تفصل فيما بين المدن.

6- مثّلت "الداخلية" أداة مهمة للفصل والتحجيز الاجتماعي بين تلك "البرجوازية" والطبقات الأفقر (بورجوازيتنا في البلدان التابعة للمنظومة العالمية المهيمنة، وهي طفيلية مثل اقتصادها الطافي بلا جذور وبلا أرض). كما أن "الداخلية" أصبحت المنظِّم المركزي للعلاقات الاجتماعية لإدارة الثروة والموارد. ويمكن ملاحظة هذا بوضوح في تحول أقسام الشرطة من الطابع المؤسسي إلى اللامؤسسي، ومحاولتها الدائمة لاختراق الأنسجة الاجتماعية والمساومة والموأمة لإدارة الحياة اليومية، حتى تحولت إلى عقدة في شبكة أوسع منها، ولكنها نقطة إرتكازها الرئيسية.

7- تزامن المشروع النيوليبرالي مع الهوس العالمي، والأمريكي تحديداً، ب"الحرب على الارهاب". وهو ما عزز من سطوة "الداخلية" في البلاد وجعلها حليفاً مهماً للخارج الذي يقوم بالاستثمار الدائم فيها، من التدريب إلى البنية التحتية والمعدات. قديماً اعتمد الاستعمار الانكليزي، لمواجهة الحركة الوطنية والمعارضة، الاستثمار في شبكة كبيرة من المستولين والباعة الجائلين والعمال غير الرسميين. و تستعير "الداخلية" مرة أخرى هذه الاستراتيجية في مكافحة الارهاب ومراقبة المجتمع وإختراق أنسجته، وهو استثمار في اللارسمية وتعزيز لها. وهذا لا ينفي كون الداخلية معادية لهذا القطاع وتحاربه بأشكال مختلفة.

8- في محاولة لضبط السوق والحيز غير الرسمي، تُفْرِط "الداخلية" في الاعتماد على الحملات الأمنية في محاولة ضبط الذوات المختلفة وضبط حركتها في الحيز العام، بالأخص مع الباعة والبائعات الجائلين أو أولئك الذين يقومون بالإستحواذ على جزء من المجال العام لتسويق بضاعتهم. وهو ما يخلق عنفاً شرطياً كبيراً تجاه شرائح وقطاعات واسعة من المجتمع، يتخلله جانب كبير من الفساد والاستغلال والابتزاز.

9- يظهر أيضاً دور الأمناء (الرتباء ما دون مستوى الضباط) بشكل كبير كلما ازداد اتساع الاقتصاد غير الرسمي، سواء في عمليات إختراقه أو استغلاله أو مساومته وابتزازه. ويظهر ثالوث الأمناء والضباط والاقتصاد غير الرسمي بالأخص في طرائق الاستيلاء على الأراضي والعقارات غير المسجلة، ولدى التجار والمقاولين. والأرض مرة أخرى هى أعظم أشكال تضخيم الثروة. ويتجلى هذا أيضاً داخل العقارات نفسها التي يكون جزء منها رسمي ومقونن، ولكن المقاول قام ببناء أدوار أزيد من القانوني، وهنا تأتي المساومة وغض الطرف مقابل الحصول على طوابق أو شقق. وقد صنع بعض أمناء الشرطة ثروات ضخمة ومباني خاصة بهم من خلال هذه الشبكة من العلاقات وتداخل الفساد مع الحكم البوليسي مع توسع وتفشي الاقتصاد غير الرسمي وضعف قدرة الدولة على المراقبة بشكل عام وعلى فرض إطار قانوني.


1- Schneider, Friedrich, Andreas Buehn, and Claudio E. Montenegro. "New estimates for the shadow economies all over the world." International Economic Journal 24, no. 4 (2010).

2- كان الفيلسوف الفرنسي ديلوز من أوائل من توقع انتشار العشوائيات وهذا النمط من الاقتصاد والحياة الذي يمثل انتقالاً من المجتمع الانضباطي إلى ما عَرّفه ب"مجتمع السيطرة". ويحيل عمرو إسماعيل إلى المؤرخ مايك ديفيز الذي صدر كتابه في 2006 تحت عنوان "كوكب مدن الصفيح، The Planet of Slums والذي تحدث فيه عن نمط التوسع الحضري في العالم كله، وبالأخص في البلاد النامية والفقيرة، الذي يعتمد على إنشاء "عشوائيات" أو مدن صفيح هي عناوين للهامشية والتهميش في كل شئ تقريباً، وهو حال الحياة الاجتماعية ومفتاح السياسة في أغلب بلاد أمريكا الجنوبية وإفريقيا وجنوب شرق آسيا. إن الصفة العامة هي إدارة التهميش أو "الفائض البشري". ويتم ذلك طبقاً للباحثة الفرنسية بياتريس هيبو من خلال استراتيجيات أمنية وعسكرية معقدة غرضها ان يكون التهميش منخفض الكلفة، وألا تكون ادارته تتضمن عنفاً دائماً أو متواصلأ وانما عنف مؤقت هو الاستثناء وليس القاعدة، بغرض إعادة المهمشين الى قواعد اللعبة الاصلية.. حيث يصبح التطبيع مع هكذا حياة هو الأصل. أي أن يعيش سكان هذه المناطق حياة "طبيعية" تحت الحصار الدائم وتحت احتمال القمع ليل نهار.


محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

نبدأ مع هذا النص سلسلة من المقالات التي يتيح لنا الدعم الذي قدمته لنا مؤسسة روزا لكسمبورغ إعدادها وإخراجها بشكل لائق يرضينا. ستكون المجوعة الاولى عن "الاقتصاد الموازي". تليها نصوص عن مسألة الهجرة بكل أبعادها، وأخيراً نختتم بنصوص عن حالة اليسار اليوم في منطقتنا. المجال المختار بالاشتراك مع المؤسسة هو بعض البلدان العربية من "شمال افريقيا": مصر وتونس والجزائر والمغرب..

وهذا التعاون مع مؤسسة روزا لكسمبورغ يسعدنا. أولا لأنها رمزياً مؤسسة تحمل اسم شخصية ملهِمة بالنسبة لنا، وثانياً لأن بيننا وبين المؤسسة تقاطعات كثيرة ولا نشعر بالغربة حيالها، وثالثاً لأنها تتيح لنا فرصة هذا الانجاز.
ولذا فنحن نأمل بتكرار التجربة!

علي الرجّال


باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر

علي الرجّال


باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...